كتَّاب إيلاف

التبرك بالفحولة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عرفت معظم الشعوب ظاهرة التبرك بالأنبياء والأولياء والقديسين، وما إن يختفي هؤلاء حتى ينتقل التبرك إلى أضرحتهم ومقاماتهم وقبورهم، فهي طقوس اجتماعية تأخذ معنى دينيا بمرور الزمن، ولا صلة لها بالدين، إنما هي ممارسة كرنفالية غالبا ما تأخذ طابعا حزينا للتنفيس عن المكبوتات النفسية والاجتماعية، وسببها العام زرع الأمل بالنفس بحثا عن حلول لصعاب مستعصية. وهذه الظواهر شائعة في معظم أرجاء العالم حيث تغص المزارات والمراقد والأضرحة بالجموع بحثا عن خلاصات فردية أو جماعية، وهي ظواهر تحتاج إلى تفسيرات تجلي الأسباب العميقة ورائها.

ولكن ظاهرة التبرك لم تقتصر على الجوانب الروحية، إنما تعددت، واتخذت مظاهر كثيرة، وآخر ما عرف من ذلك ما جاءت به الأنباء من فرنسا، فقد سيجت إدارة مقبرة «بير لاشيز» الواقعة شرق باريس، قبر الصحافي( فكتور نوار) لحمايته من تجاوزات النساء العواقر، والرجال الباحثين عن فحولة مفتقدة، وقد تكالبوا على القبر يتضرعون إليه عسى أن يمدهم بما تبقى به من فحولة. وكان( نوار)الذي أطلق الرصاص عليه (بيير نابليون) عام 1870 لأنه كان معارضا للحكم، وأقيم فوق قبره نصب من البرونز يمثله بكامل قيافته، وشاعت أسطورة تقول إنه كان شديد الفحولة، وتمثاله يوحي بالخصوبة، لذلك راحت تقصده العواقر للتمسح به، معتقدات أن ذلك يسهل حملهن، وقصده الرجال الذين ضمرت فحولتهم، وسرعان ما تحولت الأسطورة إلى دعاية سياحية لجذب الزوار الذين يطوفون بالمقبرة بالآلاف كل عام. وبلغت التحرشات بالتمثال إن بعض النساء قدمن رشوة مالية إلى حراس المقبرة لكي يسمحوا لهن بالبقاء فترة أطول مع التمثال، على أمل أن تتفتق الأرحام عن أجنة طال انتظارها. وقد أدى هذا الهجوم النسائي إلى تشوهات في التمثال، ولمعاينة واقع الحال قام نائب عمدة باريس بزيارة المقبرة، وذكّر الحراس بأن القانون الفرنسي يعاقب بالسجن مدة عام وبغرامة تصل إلى خمسة عشر ألف (يورو) لكل من ينتهك حرمة القبور، بأي وسيلة كانت. ولابد أن هذا الإجراء سيؤدي إلى امتعاض العواقر وفاقدي الفحولة، والمرجح أنهم سيجدون طريقة للتمسح بتمثال( نوار).

في صيف عام 2001 قمتُ بزيارة مقبرة"بير لاشيز" ولكن ليس بحثا عن فحولة مفقودة، ومجاراة للعواقر الحالمات بفحولته، ولم أكن أعرف بأمر ( نوار) من أساسه، إنما قصدت المقبرة المذكورة لسبب آخر، قد يشم منه أيضا نوع من التبرك، فقد علمت أنها تضم رفات قادة ثورة(كومونة)باريس الذين أعدموا عام 1870 حينما قاموا بثورة شعبية، وسيطروا على معظم باريس، وأسسوا أول تجربة اشتراكية في وقت كانت فيها فرنسا تخسر حربا مع ألمانيا، وربما يكون هذا الصحافي لاقى حتفه لسبب يتصل بالكومونة، لأنه قتل خلال تلك الأحداث المعادية للنظام، أقول قصدت المقبرة لرؤية الجدار الذي صفّ عليه الثوار وأطلقت عليهم النار، بعد أن تشبعت بما كتبه عنهم العفيف الأخضر وتروتسكي، ويخيل لي بأن كثيرين من أبناء جيلي، ممن تخيلوا الثورة الدائمة في سبعينيات القرن الماضي سيفهمون جيدا بأنني، باسم الفضول الذي دفعني لزيارة المقبرة الواقعة شرق باريس، كنت أيضا أتبرك بالثوار المجندلين قرب الحائط تحت نصب تذكاري يخلد مغامرتهم، كما تتبرك عواقر باريس اليوم بفحولة(نوار)!!! وبدل أن يسمح لهن بمعايشة الأمل حالت بلدية باريس دونه.

ومن المعلوم بأن المجتمعات التي تعرف طقوس التبرك وتمارسه، تعتقد أن الرافضين له، والمتمردين عليه لابد أن ينالوا عقابا جزاء تنكرهم لما درج الجميع عليه، ولهذا ينتج المخيال الجمعي فكرة جاذبة لارتياد مراقد الأولياء والقديسين، وينظر بريبة وشك لكل من يمتنع عن أداء فروض التبرك، وأتذكر جيدا في طفولتي بأنني دفعت ثمن ذلك التمرد، فقد كان المشهد الذي أبتدئ يومي به هو المقبرة المقابلة لبيتنا: مئات القبور تحتجب وراء بعضها، يتوسطها (مزار) مسيّج لوليّ يعلو قبره عمود خشبي، عُلّقت عليه خرق خضراء للتبرّك بها، يقتطع منها الزوار، والحوامل، والعواقر، والطارقون، مزقا يشدّونها في معاصمهم، وتعلّق في رقاب الأطفال كتمائم، وفي الزاوية كومة من الفخاخ الحديدية الصدئة،لم أفهم سرّ وجودها، ولا سببَ لبقاء تلك الفخاخ في مزار، ربما أودعت فنُسيت، ثم أُدرجت في حصانة المزار، حصانة خفية تصون كل شيء، ولا يجرؤ أحد على خرقها. لا أتذكر أبدا بأنني لذت بالمزار للتبرك بخرقه البالية، فثمة شعور مبهم يربض في جزء خفي من نفسي يؤكد لي بأن إضفاء القداسة على تلك الخرق جزء من التقاليد، ولكنني دفعت مبكرا ثمن ذلك الشعور. كنت أذهب إلى المزار ألهو بالفخاخ، استعين بيدي وقدمي لفتح النوابض الصدئة، وأثبّتها بعصا، وأجهزها لصيد وهمي، ثم أدفع النابض لأحرّر حركته، فينقض الفخ على نفسه محدثا صوتا عاليا، قافزا في الهواء، منقلبا على وجهه، وقاعدته الدائرية الحديدية في الأعلى، خلوا من أية طريدة. ومرة سهوت بلهوي المتعجل، فانطبق القوس الأعلى على أصابعي، وكاد يحطمها، بقيت أتضور ألما أسابيع عدة، واعتبرتْ أمي ذلك عقابا على اقترافي أثما بحق المزار، وكان ذلك سببا كافيا لأن أنقطع تماما عن دخول المزار واللعب في فخاخه.

هذه التجربة الطفولية الصغيرة لها نظائر كثيرة. يعتقد كثير من الناس أن تلك التبركات تؤتي أكلها فيحقق الطالب ما يريد، فقد رأيت في قلب (طليطلة) وعند زاوية في مبنى قديم يرجح أنه يعود للحقبة العربية مزارا علّقت فيه صورة السيدة العذراء داخل صندوق زجاجي جوار كومة من الدبابيس والأبر التي تتركها عذراوات طليطلة لأنه في هذا المكان انتظرت فتاة حبيبها الذاهب إلى الحرب، وكيلا تنام كانت تخز إصبعها بإبرة، فعاد وتزوجا، ولم تزل الطليطليات يخزن أصابعهن بالأبر كل يوم بانتظار الزواج . وهو أمر وجدته أيضا جوار أكبر الساحات العامة في قلب مدينة بروكسل، على مرمى حجر من المقهى الذي كتب فيه كارل ماركس جزءا من البيان الشيوعي، وحيث كان فيكتور هيغو يجلس في فترة لجوئه إلى بلجيكا.

وكنت توهمت بأن الحداثة الاجتماعية والسياسية سوف تحد من هذه الظواهر، فإذا بجموع المتبركين في كل مكان في العالم تتضاعف فتغص بها مراقد القديسين والأولياء والأئمة بالملايين، ووجدت بأن هذه الظاهرة تزداد اطرادا في سائر أرجاء العالم، ولكن الأمر يزداد اطرادا في المجتمعات التقليدية التي لم تزل تتعلق بالحلول السحرية، والغالب أنه في ظل تغييب الوعي الأصيل بأهمية العقل ودوره في الحياة، والحيلولة دون إشاعة الفكر الإنساني العميق، تزدهر هذه الظواهر ومثيلاتها، وتستفحل لتصبح وسيلة للبحث عن الخلاص الفردي في عالم يمور بالفوضى والغموض، وربما الحيرة.

abdullah_ibrahem@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف