كتَّاب إيلاف

جُطري أبو كيفو

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أنا اللي مجروح بخمس جروح لا لهم دوا ولا طبّ
أول جرح من القرايب خللي دموعي تصبّ
وثاني جرح من الأصحاب ما لقيت فيهم سليم القلبّ
وثالث الجرح من الزمن شيلني الهموم والغُلبّ
ورابع جرح على مالي راح في الهوا .. لا في جيب ولا في العِبّ
وخامس جرح من النسا .. آه من فعلهم والكذبّ
ولا عاد يفيد الندم يا واد .. ولا عاد يفيد الطبّ

***

كان صوت المغني الصعيدي الأشهر أحمد إسماعيل يصدح بهذه الكلمات التي تفيض أسى وحكمة، حين وصلت مدعواً ـ بحكم انتمائي لصعيد مصر وليس لأي سبب آخر ـ إلى حفل عرس في ضاحية "عين شمس" شرق القاهرة التي استعمرها "الصعايدة"، فلم يكتفوا بتشييد البنايات في كل حدب وصوب، بل أسسوا مجتمعاً كاملاً، تحكمه نفس قوانين الجنوب وأعرافه الصارمة، وإن فرضت طبيعة القاهرة كثيراً من المتغيرات، لكن ظل جوهرها ثابتاً، يمضي في خط موازٍ لفوضى المدينة المتوحشة ونزقها وألاعيبها، فلا يلتقيان ولا يتقاطعان، هنا في "عزبة الصعايدة" ـ كما يسميها القاهريون ـ مازال لاسم العائلة قيمته ومغزاه، ومازالت "مجالس الرجال" أقوى من كل المحاكم، ومازال "الثأر" يعشش في نفوس الجميع، لا فرق بين تاجر أو مقاول وعامل بناء يكسب قوته يوماً بيوم، ولا بين أستاذ في الجامعة وبائع متجول، فالدم لم يصبح ماء بعد، فالصعيد ليس مجرد جغرافيا بلا مخزون حضاري، بل هو نسق حضاري متكامل، يستدعي كل مفرداته بمجرد وجود "صعايدة"، لا يهم إن جمعتهم ضاحية من ضواحي القاهرة أو الإسكندرية أو حتى الكويت، حتى علماء الدين من أبناء الصعيد، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر شخصياً، صاروا يتصدون للفتيا في كل صغيرة وكبيرة، لكنهم يمسكون تماماً عن الخوض في معضلة الثأر، اللهم إلا بحديث في العموميات دون اقتحام لب المسألة، لأنهم ببساطة يدركون جيداً مدى تجذرها في النفوس :
سبع الليالي لو نام ديابة الخلا تاكلو
والصقر لو انكسر فيران الجبل تاكلو

***

بدا كل شئ في العرس خارجاً على قانون المدينة، مئات النارجيلات تتناثر أمام المدعوين الذين افترشوا الأرض، ولم تقف برودة الأجواء حائلاً دون اجتماع كل هذه الحشود التي أتت من كل فج عميق مجاملة للمعلم "جُطري أبو كيفو"، وهو تحريف له مغزاه لاسمه الحقيقي قدري أبو المجد، وإن كان وارداً أن نفهم تحريف "قدري" إلى "جُطّري" وينطق هكذا Gottary، فإن تحريف "أبو النيل" إلى "أبو كيفو" لها قصة، إذ اشتهر المعلم جُطري منذ صباه المبكر، وبالطبع لن تستدرجني أساليب البلاغة المستهلكة إلى استخدام عبارة "نعومة أظافره"، لأن جطري لم يكن يوماً ناعم الأظافر، بل لعلني لا أبالغ حين أتصور أنه ربما ولد بشاربه الكث، فقد صنع الرجل ـ بمعايير بيئته ـ مجداً كبيراً، وأصبح من وجهاء القوم بعد أن جاب بلاد العرب من ليبيا إلى الكويت مروراً بالسعودية، وتحول إلى واحد من أكبر مقاولي مصر بعد أن كان مجرد عامل بناء، أو "فاعل" وهي بالمناسبة مهنة احتكرها أبناء الصعيد، وفشل أبناء المدن والدلتا في منافستهم، أو حتى الاقتراب من هذه المهنة الخشنة، التي تتطلب جلداً وصبراً وقوة احتمال أسطورية، فوحدهم "الصعايدة" هم الذين استأنسوا الأسمنت وحديد التسليح وحملوا القيروانات على كتوفهم وصعدوا بها عشرات الطوابق دون كلل أو شكوى، وفي لحظات الصفا النادرة التي يبتسم فيها المعلم قطري، مباهياً بأن "الصعايدة" هم الذين "بنوا مصر وبلاد العرب"، ويسحب نفساً عميقاً من الشيشة، لا يلبث أن يخرج من فمه وأنفه زخات متصلة من الدخان، تتبعها نوبات من السعال المزمن الذي لا يعيره جُطّري أدنى اكتراث، ولا يأبه بنصائح الأطباء وقلما لجأ إليهم إلا مضطراً .
دا أنا اللي كنت، وكنت .. وكانت العافية سانداني
والصحة كانت قوية .. واللقمة الحلوة سانداني
والجيب ملان .. وورايا عزوة سانداني
آه من الكبر .. كله عبر .. نحل الجسد فيا
واقف على رجلي .. لكن عصاية سانداني

**

جلس المعلم جُطري مع خاصته وكبار ضيوفه في صدر المجلس، أمام المسرح الذي جرى تأسيسه باستخدام مقطورتي سيارة نقل متلاصقتين، وقد فرشتا بالسجاد وأحيط بالفِراشة، وصعدت فرقة أحمد أبو إسماعيل، الذي استدعي من أقصى الجنوب لإحياء الليلة، بينما انتشر أبناء جُطري وأحفاده وأبناء أخيه وأحفادهم في كل مكان، وقد شمروا عن سواعدهم، وتمنطقوا بأحزمة تدلت منها المسدسات والخناجر، إذ يقومون في هذه الليلة بمهمة شاقة هي إقرار الأمن، "حتى تمر الليلة على خير"، فهناك من يشرب البيرة، ومن يدخن الحشيش، ومن ينشد إفساد الأمر، ومن يجامل بإطلاق الرصاص، وهناك ضيوف من "الأفندية" و"البهوات" الذين لا يعرفون الأصول، وباختصار فإن مثل هذه الليالي محنة حقيقية لأصحابها، فهم مطالبون باحتمال كل رذالات الحابل والنابل، وهم أيضاً مسؤولون عن تلبية رغبات الجميع، والأهم من كل هذا هم المخولون بإقرار الأمن، فلا يتحول العرس إلى مأساة، وبين حفظ الأمن والترحيب بالضيوف خيط دقيق، يقتضي حكمة الكبار، الذين يحيطون بالمعلم جُطري، وإن وشى مظهرهم بأنهم غير مكترثين بما يجري، لكنهم ينهضون في اللحظة التي تستدعي تدخلهم، لتطييب خاطر ضيف فقد رشده وتحرش به "العِلة" أي "العيال" أي "الشباب"، فيفزع الرجل ليقرع أبناءه وأبناء أخيه ويعتذر للضيف، ثم يدعوه إلى صدر المجلس، وسط الكبار، وهذا كفيل بلجمه بمنتهى الأدب واستنفار مروءته .
أنا اللي باقول كلام زي العنب واستوى على أبوه
لو الابن راجل .. في كل مكان يعلّي اسم أبوه

**

يبدو الاحتفال للوهلة الأولى ذكورياً تماماً لمن لا يعرف الطبيعة الجيوإنسانية للمكان والبشر، فخلف النوافذ ووراء الشرفات التي تبدو نصف موصدة، وعلى سطوح البنايات، هناك مئات العيون الحور لنساء الصعيد، يرقبن كل صغيرة وكبيرة، وكلُ يغني على ليلاه، فهذه ترقب الشاب الأسمر الذي خفق له قلبها، وتلك تتملى خطى الابن الذي شب عن الطوق، وثالثة تأكلها الغيرة على الزوج الذي لا ترى منه سوى العبوس بينما يفيض بشاشة وحبوراً وسط الرفاق، وهكذا يصبح الاستمتاع حقاً مكفولاً للجميع، رجالاً ونساء، شيباً وشياب، أغنياء وفقراء، لكن من دون أن يتحول الأمر إلى فوضى، فالقوانين أقوى من البشر، والأعراف صارمة إلى درجة لا تسمح بمجرد محاولات القفز عليها، ومع ذلك فهناك دائماً ثقب في وعاء البخار المكتوم، فالشاب الذي لا يسمح له بمجرد التدخين أمام أبيه أو عمه يجد متنفساً له في فعل كل شئ مع رفاقه، وبالطبع أمام أمه وخالاته وعماته، ويصبح هدفاً تنشب حوله المعارك الضروس بين نساء العائلة، كل منهن تريده لابنتها، وتتدلل أمه عليهن، بينما يحرص الأب على الظهور بمظهر من لا يعرف شيئاً عما يجري، رغم إحاطته علماً بكل صغيرة وكبيرة، لكن ـ ووفقاً لأعراف الصعيد ـ لا يصح للرجل أن يخوض في هذه الأمور، خاصة لو كان من رؤوس القوم، كما هو حال مضيفنا المعلم جُطري، الذي اعتاد منذ صباه أن يسير "على كيفو"، إذ اختفى وهو في السادسة عشر من عمره بعد أن ضربه أبوه لسبب أو آخر، وغاب شهوراً عرف بعدها الأب أنه الآن في ليبيا، حين عاد بعض أبناء قريته من هناك في مستهل عقد السبعينات، وأخبروه أن "جُطري بخير، والأمور ماشية معاه"، إذ سافر الفتى مع الرجال، وعبر الحدود من خلال "السلك"، بمساعدة من البدو الذين يهربون العمال بأجر، لدرايتهم بمسالك الصحراء ودروبها، وهناك عمل جُطري في كل شئ تقريباً، لكن استقر به المقام في "كار المعمار"، كعامل عادي، ثم "مبيض محارة"، وظل هناك حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره، لم يغلبه حنين لحضن أمه، أو جلباب أبيه، إذ كان يكتفي بإرسال ما تيسر من أموال لأبيه، حتى غلبه نداء الرجولة الذي ظل يكبته سنوات، فعاد ملبياً ليعقد قرانه على ابنة عمه، وكمن عاد في مهمة رسمية لم يمكث سوى بضعة شهور، فترك زوجته حاملاً ومضى "على كيفو" عائداً إلى ليبيا ليقضي بها خمسة أعوام أخرى، عاد بعدها ليجد ابنه يملأ الدنيا صخباً وحضورا، لكن الأهم من هذا أنه قرر أن يواصل المسيرة "على كيفو" فلم يطع أبيه ويشتري أرضاً ليفلحها، بل باغته بشراء "خشب"، وراح يستقطب عمالاً من شتى مهن "طائفة المعمار"، مبيضين ومبلطين وحدادين ونجارين وسباكين و.. الخ، وأعلن نفسه منذ تلك اللحظة "صاحب طبلية"، ولم يكترث بأبيه الذي كان قد قرر طرده هو وزوجته وابنه من داره، لأنه "ابن عاق ما بيسمعشي الكلام"، ولأنه "داير على كيفو" .
يا عيني كم راح من الليالي .. ماتعديش
يا اللي تحب الرجال للرجال ما تعاديش
وعدي في ملكك .. وملك الناس متعديش
أنا بأقول رأيي وللجميع ناصح
والراجل الناصح عليه الواحدة .. ما تعديش

**

حمل "جُطري أبو كيفو" عصاه، وسحب زوجته وابنه خلفه، وما ادخره من أموال وخبرات ورحل إلى مصر المحروسة، وهناك حطّ ليلته الأولى لدى أحد أقاربه في ضاحية "عين شمس" التي كانت حينئذ لم تزل تنفض عنها رمال التصحر، وتلحق بالمدينة كواحدة من أكبر أحيائها التي يتجاوز عدد سكانها حالياً إخواننا في دول مجلس التعاون، ولم ينم جطري ليلته، إذ تزاحمت في رأسه الخيالات والمخاوف والآمال، ومع أول خيط ضوء في اليوم الجديد، وقف جُطري في "سوق المعمار"، أو بالأحرى اقتحمه كأنه مقاول عتيد، لا يزال يقسم حتى يومنا هذا أنه حين وقف وسط "المعلمين" لم يكن في جيبه سوى مائة جنيه، بينما يزايد عليهم في عمليات بعشرات الآلاف وهم الخبراء بأحوال السوق ودروب المدينة التي لا يزال جُطري بعد أكثر من ربع قرن يتوه فيها، ومع ذلك فعلها جُطري، ووقع عقداً من الباطن لبناء مدرسة، تبعته عقود لتشييد بنايات لشركات الحكومة والأهالي، وخلال سنوات أصبح المعلم جُطري أبو كيفو واقعاً لا يمكن تجاهله في سوق المعمار، عرف كل قواعد اللعبة، فهذا يأتي بالرشوة، وذات يسكت بالعصا، وتلك تأتي بالسهر والمكابدة، وهؤلاء لا غنى له عنهم، وصارت له "طبلية"، وهذا مصطلح شائع في أوساط المعمارجية، يعني بلغة أهل الثقافة ورجال البزنس، "فريق العمل"، الذي يقوده المقاول لتتحول الأرض من خرائب إلى شاهقات وناطحات وفيلات ومدارس ومستشفيات، ويتألف من حشود تضم المهندس المعماري والمدني والبنا والفاعل والنجار والحداد والكهربائي والسباك وكل المهن ذات الصلة بالعمران، كل هؤلاء يتقاضون أجورهم من جُطري أبو كيفو، الذي اتخذ من مقهى أحد أقاربه مكتباً له، يجتمع فيه مع زبائنه وعماله وحتى منافسيه في السوق، بينما أصبحت أسرته تتكون من عشرة أطفال وأمهم، يتخذون من بيت بالغ التواضع مسكناً لهم، فلا تذمر ولا تطلعات في مرحلة البناء، التي ظل والد جُطري يتتبع أخبارها من أحاديث العائدين للقرية، وهم يروون ما يشبه الأساطير عن جُطري، بينما الأب لا يتجاوز رده عبارات السباب لهذا الولد الخائب، الذي يتصرف "على كيفو"، ولا يسمع كلام الكبار، حتى أقعد الرجل ما بدا أنه مرض الموت، فترك جُطري كل ما لديه من أعمال، بعد أن أوكل أمرها إلى معاونيه، وتوجه عائداً إلى الصعيد بعد غياب سنوات .
أصبح حديث القرية وما حولها من قرى هو المعلم جُطري، الذي حضر يقود سيارة "مرسيدس" ومعه ثلاثة من أبنائه، ومع ذلك رفض الأب أن يذهب مع ابنه إلى القاهرة للعلاج، قائلاً إنه لن "يأخذ زمنه وزمن غيره"، وبالفعل اكتفى الرجل بسنوات عمره الثمانين أو التسعين، وحده الله تعالى الذي يعلم عمره، ومات وهو يدعو لابنه جُطري بالهداية، كما يؤكد كل الشهود، وقد تضاعفت دهشة القرية من عدد المعزين الذين توافدوا من القاهرة وكل مكان لمواساة جُطري في مصابه، فضلاً عن مئات البرقيات التي كان عامل التلغراف مذهولاً من أسماء مرسليها، وزراء ونجوم ورجال أعمال وضباط شرطة كبار، حتى أنه أشاع بين الناس ـ ربما باتفاق مع جُطري شخصياً ـ أن رئاسة الجمهورية أرسلت برقية عزاء، بينما كان السرادق الضخم الفخم يفيض بآلاف المعزين على مدار ثلاثة أيام، بعدها أقسم جُطري بالطلاق ـ لأول وآخر مرة في حياته ـ أن تصحبه أمه معه إلى القاهرة، لأنه لا يصح أن تبقى وحدها في القرية، بينما هو يرفل في النعمة بالقاهرة، وخلال شهور انتصبت بناية شامخة على ثلاثة نواص في أكبر شوارع الحي، وأعلى بابها طلب جُطري أن يحفر في الرخام عبارة "لا غالب إلا الله"، التي كانت ذات يوم أيقونة العرب حين كانت لهم دولة ورجال في الأندلس، ولا أحد بوسعه أن يزعم إن كان المعلم جُطري يعرف ذلك أم يجهله، ذلك لأنه يبدو شديد الجهل والسذاجة حين يريد ذلك، ويباغت الجميع بدرايته بمعلومات تفصيلية عن أمور لا يتصور كائن من كان أنه سمع بها ذات يوم، لأنه ببساطة ـ كما يقول كل من عرفه ـ يسير في هذه الحياة "على كيفو"، فهو ساذج حين يريد، ومعلم حين يرغب، وكريم حين يهتم، وبخيل عندما لا تكون الأمور "على كيفو"، أو على هواه .
الراجل الحلو بكتر المال .. ما يتباعشي
خليك مع أهل الكمال .. وأهل السوء ما تتبعشي
طبعك يليقك لك .. لكن على غيرك .. ما يطبعشي
إحنا كلامنا واضح له حساب وثمن
دا كل شئ له ثمن إلا الشرف .. ما يتباعشي

**

المعلم "جُطري أبو كيفو" يقف الآن على عتبات السبعين، وحين تصادفه في أحد شوارع القاهرة تحسبه ـ من فرط بساطته ـ مجرد عامل متواضع أو عابر سبيل، لكن من يعرفونه يتقدمون صوبه خطوة، ويستأخرون خطوات، يمدون أياديهم للسلام والتحية، ولكل في نفسه غرض ما، إلا هؤلاء الذين يحتفون بعمران الحياة، التي ظل جُطري أبو كيفو ملحها وخبزها وأحد صناعها الحقيقيين، الذين يمضون في دروبها "على كيفهم"، فيجعلون لها معنى أجمل كثيراً، من هؤلاء الذين تبددت ملامحهم في "بيوت الطاعة".

Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف