كتَّاب إيلاف

الاسناد فى الحديث

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

فى عصر الخليفة المأمون كان الشاعر العتابى يسير فى شوارع بغداد، فدخل السوق وهو يأكل الطعام، وكان ذلك يخالف المروءة أو" الاتيكيت"لدى ارباب الطبقة العليا، ولذلك احتج عليه صديقه قائلا "أتأكل الطعام فى السوق ويراك الناس؟" فقال له العتابى ساخرا: "وهل اولئك ناس؟انهم بقر"، فاحتج صديق العتابى وزمجر، فقال له العتابى: "سأريك ان كانوا ناسا أم بقرا" ثم صعد الى الربوة ونادى فى الناس"ياقوم هلموا أحدثكم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم )، فتدافع اليه الناس واجتمعوا حوله، واقبل يحدثهم يقول: روى فلان عن فلان عن فلان ان رسول الله. (صلى الله عليه وسلم)قال. وظل يخرج من حديث الى أخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين، اذا حرك يده يمينا تحركت رؤوسهم يمينا، واذا أومأ برأسه يسارا التفتوا يسارا، الى أن قال لهم... وروى غير واحد(اى أكثر من واحد)أنه صلى الله عليه وسلم قال : اذا بلغ لسان احدكم ارنبة انفه دخل الجنة))وسكت... فاذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول ان يصل به الى ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍانفه، واصبح منظرهم جميعا مضحكا، فالتفت العتابى الى صديقه ساخرا وقال: ألم اقل لك انهم بقر؟
ما الذى جعل عقول أولئك الناس تغيب حتى تتدلى السنتهم وهم سكارى غائبون عن الوعى؟انه التصديق، التصديق والايمان بأن مايقوله العتابى قد قاله النبى(صلى الله عليه وسلم)فعلا. وما الذى جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبى (صلى الله عليه وسلم)قد قال ذلك الكلام... انه الاسناد اى اسندأو نسب ذلك الكلام للنبى(صلى الله عليه وسلم)عبر العنعنة، اى قال حدثنى فلان عن فلان عن فلان... الخ.. ان النبى (صلى الله عليه وسلم)قال. وهذا معنى الاسناد، وهذه هى خطورته على العقل.

تغييب العقل
حسنا... دعنا نتخيل أن العتابى يسير الان فى الشوارع القاهرة ويركب المواصلات. ويرى شيخا يصعد الاتوبيس يدعو المسلمين للتبرع لانشاء المسجد الفلانى ويستشهد بحديث ((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا فى الجنة))ويرى العتابى كيف يسارع الناس الطيبون بالتبرع حتى يضمن كل منهم لنفسه قصرا فى الجنة!هل تريد أن تتوقع تعليق العتابى؟اذن استحضر عقلك ولا تعطه اجازة، وتفكر فى معنى ذلك الحديث المنسوب كذبا للنبى عليه الصلاة والسلام.. انه يؤكد على ان كل من بنى لله مسجدا بنى الله تعالى له قصرا فى الجنة، مهما كان الشخص مؤمنا او كافرا، ومهما كان مصدر المال طيبا او خبيثا، يعنى ان السيد هتلر من حقه ان يكون له قصورفى الجنة اذا بنى بضعة مساجد، ويعنى أيضا ان كل مختلس وظالم وناهب لأموال الناس يستطيع اذا بنى ببعض أمواله الحرام مسجدا ان يدخل الجنة. هل يتفق ذلك مع تشريع الاسلام؟
ثم ان الحديث الذى يبيع قصور الجنة لكل من يتبرع ببناء مسجد يحدد لنا منذ البداية اقل مساحة مقبولة للمسجد، يقول ((من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة))اى يكون مساحة المسجد كقدر ما تتحرك به ساق القطاة حين تفحص بساقيها الارض. والقطاة هى طائر صغيرة الحجم اقل من العصفور الصغير.. انها فى الحدود5سم2، اى من بنى لله مسجدا ولو كانت مساحته5 سم2 بنى الله له قصرا فى الجنة حتى لو كان من مال حرام، مهما كانت شخصية ذلك المتبرع، وحتى اذا كان ذلك المسجد5 سم2 لايستطيع دخوله الا النمل والصراصير الوليدة.... هل يعقل ان يتكلم النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا الكلام؟!!
ولكن ذلك الحديث تم اسناده او تمت نسبته للنبى عليه الصلاة والسلام، ورواه ابن ماجه فى "مسنده" عن فلان عن فلان. وآمن الناس بصحة ذلك الاسناد. ومن هنا فان ذلك الحديث الكاذب هو المسئول عن اقامة38 الف مسجد وزاوية فى القاهرة الكبرى فى العشرين سنة الماضية، وكلها تنشر ثقافة التطرف عبر احاديث مسندة او منسوبة للنبى(صلى الله عليه وسلم) زورا، وهى تخالف القرآن والسنة الصحيحة للنبى عليه الصلاة والسلام، وبدلا ان تتوجه لبناء مساكن للشباب والعائلات التى تسكن المقابر، فأنها توجهت لبناء مساجد ايديولوجية، تزيد عن حاجة المسلمين الذين يستطيعون الصلاة فى كل مكان، ومع العلم بأن حق ابن السبيل فى تشريع الاسلام ثابت فى الزكاة الرسمية والصدقة التطوعيةوالفئ والغنيمة، ولا يصح الالتفات لرعاية ابناء السبيل من الاغراب الا بعد ضمان المسكن والطعام لابناء البلد، فكيف اذا كان ابناء البلد انفسهم لايجدون السكن بحيث ضاعت احلام الشباب فى الزواج واصبحت العنوسة ازمة مستفحلة.. ومع ذلك تفاقمت تلك المشكلة لان أموال الصدقات استنفذها ارباب الصحوة السلفية فى بناء عشرات الالوف من المنابر التى تؤسس لدولتهم القادمة!ومن دعائم تلك الدولة ثقافة التراث للعصور الوسطى، تلك الثقافة التى أصبحت مقدسة عبر الاسناد، او عن طريق نسبتها زورا للنبى عليه الصلاة والسلام... مهما خالفت العقل والاسلام.
ان الاسلام الصحيح هو دين العقل، بل أن"التعقل"أو استعمال العقل هو سبب انزال القرآن ( يوسف 2، الزخرف3 )ولكن الاسناد اوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل، بحيث يكفى ان يصعد اى محتال ليقول((قال رسول الله)) فيسارع الناس بتصديقه ويمتثلون لما يقول دون اى تفكير، لافارق فى ذلك بين مثقف او عامى، وسواء كان ذلك فى المسجد او فى وسائل الاعلام او وسائل المواصلات... اى فى كل زمان ومكان انت محاصر بالاسناد.

الاسناد قضية علمية
ومنذ عشر سنوات تقريبا جائنى صديق منزعج، قال أنه فوجئ ببلدته بالصعيد وقد سيطر عليها الشباب السلفى واعادوها لما كان عليه السلف، ومن ذلك انهم اوجبوا على العريس ليلة الدخلة ان يحمل عروسه الى بيته وهى داخل زكيبة او شوال، لان ذلك ماجاء فى السنة والاحاديث. فقلت لهم انهم قرءوا خطأ ذلك الحديث القائل بأنهم كانوا يدخلون بالنساء فى شهر شوال، وكانت نكتة هائلة، وعاد صديقى الى اهل بلدته وقرأ لهم الحديث بالتشكيل الصحيح، وانقذ بذلك بنات القرية من تجربة التعبئة فى الاشوال والزكائب.... الا ان مشكلته معى لم تنته.
لان صديقى اصبح يعتقد بوجوب ان يتم الزفاف فى شهر شوال، دون غيره من الاشهر، طالما ان اسناد الحديث صحيح للنبى (صلى الله عليه وسلم) حسب اعتقاده. وسئمت من النقاش معه فى موضوع الاسناد، فقلت له اخيرا: اذن انت تؤمن بأن النبى(صلى الله عليه وسلم)قال ذلك الحديث فعلا؟ فقال فى ثبات: نعم، قلت له: وهل تقسم بالطلاق من زوجتك أن النبى قال ذلك؟عندها بهت وسكت ولم يرفع رأسه... قلت له: هل لو قرأت عليك سورة((قل هو الله احد))وطلبت منك ان تقسم بالطلاق ان الله تعالى قال ذلك وانها من القرآن، هل ستفعل؟قال نعم.. قلت هذا هو الفرق بين القرآن وأحاديث التراث.
اذا جاء احد بآية قٌرآنية فلن تطالبه ببرهان او اسناد، طالما تؤمن بالقرآن، اما اذا قيل لك حديث منسوب للنبى(صلى الله عليه وسلم )فات من حقك ـ بل من واجبك ـ ان تسأل عن اسناده او عن دليل نسبته للنبى (صلى الله عليه وسلم)، فالقرآن قائم على اساس الايمان، اما الحديث المنسوب للنبى فهو قائم على الشك. ولعلاج هذا الشك اخترعوا الاسناد، اى ان ذلك الحديث رواه فلان عن فلان... الخ حتى النبى لإثبات أن النبي قال ذلك الحديث، اذ كان الاسناد صحيحا، أو لم يقله اذا كان الإسناد ضعيفا، وفى عصرنا لم يعد أحد يهتم اذا كان الاسناد صحيحا او ضعيفا، فيكفى أن يقال قال رسول الله (ليصدق الناس فورا أن النبي قال فعلا هذا الكلام). ونرجع للإسناد الذى يؤكد أن الحديث مثل جدار يريد ان ينقض ويقع فيقوم ((الاسناد)) باسناده حتى لايسقط ولا ينهار... فالقرآن قضية ايمانية اما الحديث فليس قضية ايمانية، وانما هو قضية علمية عندهم، تدخل فى باب البحث والاجتهاد وليس فى قضايا العقيدة واليقين، ولذلك اختلف علماء الجرح والتعديل فى مدح راو او تجريحه، وفى اثبات حديث ما او نفيه، فالامام مسلم فى صحيحه لم يكتف بما قاله البخارى استاذه ولم يأخذ بكل أحاديثه ولم يترك ما تركه البخارى من احاديث، فجاء صحيح مسلم مختلفا عن صحيح البخارى، ثم جاء الحاكم فأستدرك على البخارى ومسلم، وقبلهم جميعا كان احمد بن حنبل مختلفا فى مسنده ثم جاء المتأخرون اكثر اختلافا. ولانها قضية علمية عندهم تقوم على الاختلاف فى وجهات النظر فان احدا لم يحكم بتكفير أحد... اذ هى امور ظنية بحثية انسانية وليست امور العقيدة والدين.... اما القرآن فهو محل الايمان والتصديق لكل مسلم، ولذلك فان الله تعالى يؤكد فى آيتين ان الحديث الوحيد الذى ينبغى ان نؤمن به وحده هو حديث الله تعالى فى القرآن الكريم((فبأى حديث بعده يؤمنون: الاعراف185، المرسلات50 )) بل أكثر من ذلك يجعل الله تعالى الايمان به وحده الها لاشريك له قرينا بالايمان بحديث فى القرآن وحده، يقول تعالى ((تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله واياته يؤمنون، ويل لكل افاك اثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كان لم يسمعها فبشره بعذاب اليم: الجاثية 8: 6 )) وفى الوصية الاخيرة من الوصايا العشر فى القرآن الكريم يقول تعالى عن القرآن((وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون : الانعام153 ))
فالقرآن اتى من الله تعالى طريقا مستقيما لنتبعه وحده، ولا نتبع الطريق والسبل الاخرى حتى لا نقع فى الاختلاف، وفى هذه الاية الكريمة تأكيد على أن القرآن هو المصدر الوحيد للاسلام، فالطريق المستقيم لايكون الا واحدا وحيدا، وحيث أن الخط المستقيم لا يتعدد فهو أقصر الطرق التى توصل بين نقطتين. اما الطرق الاخرى فتقوم على الاختلاف والظن والريب، ومن المعلوم ان الروايات والاسانيد لها طرق وسبل متفرقة. ويؤكد علماء الحديث أنها كلها ظنية، او كما يقول الله تعالى عن القرآن وغيره من الطرق والسبل((وان تطع أكثر من فى الارض يضلوك عن سبيل الله أن يتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون: الانعام 116 ))وهذا خطاب للنبى (صلى الله عليه وسلم )نفسه أنه اذا اطاع أكثرية البشر اضلوه عن القرآن وابعدوه عنه حيث يتبعون الظن والاوهام. وهكذا فان النبى (صلى الله عليه وسلم)يتبع القرآن وحده. وبذلك تتابعت الاوامر للنبى عليه السلام ولنا عن القرآن((كتاب انزل اليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به، وذكرى للمؤمنين، اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء: الاعراف 2 : 3 )فهناك امر ونهى، امر باتباع القرآن ونهى عن اتباع غيره. حيث انه وحده الذى لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحيث كان النبى متبعا للقرآن وحده، وحيث كان خلقه القرآن... وحيث سيتم حساب البشر جميعا يوم القيامة ـومنهم الانبياء ـ على اساس الكتب السماوية وحدها. والكتاب السماوى واحد فى اساسياته، مهما اختلفت اللغات والظروف. وليس فى اى كتاب سماوى ماكان يعرف بالاسناد، وانما هو كلام الحق تعالى، ان شئت آمنت به وان شئت لم تؤمن، وحسابك عند ربك يوم القيامة.

الاسناد يناقض المنهج العلمى
ان الاسناد قضية علمية تتراوح بين الشك والاثبات وليست قضية ايمانية، ومع ذلك فان الاسناد يناقض المنهج العلمى والتعقل المنطقى. ان البخارى مثلا عاش فى القرن الثالث الهجرى ومات سنة 256 هـ. اى بينه وبين النبى عليه السلام قرنان ونصف قرن من الزمان. واذا اعتبرنا الجيل اربعين عاما فان بينه وبين البخارى ستة اجيال. ( لاحظ ان بينناوبين عصر محمد على اربعة اجيال فقط). فكيف يستقيم فى المنهج العلمى أن تتداول ستة اجيال كلمة ما منسوبة للنبى عبر الروايات الشفهية حتى يأتى من يسجلها بعد النبى بمائتين وخمسين عاما؟ ولنأخذ على ذلك مثلا من أحاديث البخارى... ونناقشه من حيث الاسناد ومن حيث المتن والموضوع. ونختار من احاديث البخارى اهونها على عقلية القارئ التى عاشت على تقديس البخارى بسبب اسناد احاديثه للنبى (صلى الله عليه وسلم ).
تحت عنوان ((باب مباشرة الحائض))اورد البخارى احاديث تؤكد ان النبى عليه السلام كان يباشر نساءه جنسيا اثناء المحيض، ونختار منها هذا الحديث باسناده ((حدثنا اسماعيل بن خليل قال اخبرنا عن بن مسهر، قال اخبرنا ابوا اسحاق هو الشيبانى عن عبد الرحمن بن الا سود ، عن ابيه عن عائشة قالت : كانت احدنا اذا كانت حائضا فأراد رسول الله (ص)ان يباشرها امرها ان تتزر فى فور حيضتها ثم يباشرها، قالت : وايكم يملك اربه كما كان النبى (ص) يملك اربه ))(صحيح بخارى بحاشية السندى مكتبة زهران مجلد 1 الجزء الاول ص64 )

والحديث السابق ينقسم الى جزئين السند والمتن :
فالسند هو سلسلة الرواة الذين عن طريقهم تم اسناد الحديث الى النبى (صلى الله عليه وسلم )، وهم ستة: اسماعيل بن خليل الذى حدث البخارى بهذا الحديث وكان فى جيل استاذه البخارى. وقد ذكر ان الذى حدثه بهذا الحديث على بن مسهر الذى لم يره البخارى وعاش فى القرن الثانى، وهكذا تمتد السلسلة الى ابى اسحق او الشيبانى، ثم الى عبد الرحمن الاسود، ثم الى ابيه، ثم الى عائشة أم المؤمنين، التى زعموا انها قالت متن الحديث ونصه. واولئك الرواة تسلسلوا عبر الزمن، والبخارى لم ير منهم الا واحدا هو الذى ادعى انه حدثه بذلك الحديث. والرواة الماضون الذين عاشوا فى ازمنة متعاقبة لايوجد دليل على انهم رووا ذلك الكلام، ويستحيل عقلا بالمنهج العلمى اثبات صدقهم فى نقل تلك الرواية شفهيا عبر قرنين ونصف قرن من الزمان الملئ بالفتن والاضطرابات، وعبر ستة اجيال اختلفت ظروفهم. وحتى لو تخيلنا انهم جميعا عاشوا فى نفس الزمن ونفس الجيل فان احتمال الكذب والنسيان والاضطراب وارد فى النقل الشفهى لتلك الرواية عبر ستة اشخاص خلال اربعين عاما، بل خلال اربعين يوما بل ربما خلال اربعين ساعة. وهذا واقع فى الحياة العملية حين نتداول قصة حدثت فى يوم وليلة، فيلحقها التغيير والتبديل، طالما رواها اكثر من راوى، وكل منهم يضفى عليها من عنده بحيث تختلف عن الاصل، فكيف بمئات الالوف من الاحاديث اسندوها للنبى (صلى الله عليه وسلم )بعد موته بقرون؟
وحقائق التاريخ فى العلم المسمى بعلم الحديث تؤكد ان اختراع الاسناد تم فى القرن الثانى الهجرى، حيث تكاثرت الروايات الشفهية وتكاثر الكذب فيها، فاشترطوا اسنادها عبر رواة سابقين كانوا ماتوا فيما بين منتصف القرن الثانى الى عصر النبى (صلى الله عليه وسلم )، اولئك الرواة المذكورون الموتى لم يكن لهم علم بذلك الذى اسندوه اليهم من روايات. وعليه فقد تبارى العلماء فى عصر التدوين، فى بداية عصر المأمون فى تسجيل اسماء رواة كيفما اتفق. وهذا ما تواصلنا اليه خلال ابحاث متخصصة، ثم وقعوا فى النزاع والاختلاف فى تعديل ذلك الراوى او تجريحه، تبعا للاختلاف المذهبى والهوى الشخصى، وقد تأسس علم الحديث والجرح والتعديل على اساس الاختلافات الفقهية والعقيدية والفكرية بين المسلمين فى العصر العباسى وما تلاه.
ونعود الى البخارى فى باب ((مباشرة الحائض ))ونقرر ان متن هذا الحديث قد تكرر فى عدة احاديث اخرى، تنسب للنبى (صلى الله عليه وسلم ) انه كان يباشر نساءه فى المحيض، وكلها احاديث كاذبة لانها تنسب للنبى عليه السلام انه يخالف القرآن، اذ يقول تعالى: ((يسألونك عن المحيض قل هو اذى، فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فاذا تطهرن فأتوهن من حيث امركم الله ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين: البقر 222 )) أى أنهم سألوا النبى(صلى الله عليه وسلم ) عن المحيض، وانتظر النبى (صلى الله عليه وسلم)الاجابة من السماء فنزلت الاية تؤكد على اعتزال النساء جنسيا فى المحيض وعدم الاقتراب منهن بعد حتى يطهرن، ثم يبيح الاقتراب منهن بعد الطهر.
وهنا تناقض جلى بين الاية الكريمة وحديث البخارى بحيث انك اذا امنت بالقرآن فعليك بتكذيب البخارى، اما اذا امنت بحديث البخارى فأنت بالتالى تكذب بالقرآن، ومن هنا كان تأكيد الله تعالى فى القرآن على الايمان بحديث القرآن وحده، وما عداه ليس محلا للايمان، وانما هو قضية علمية قائمة على الشك، والحقائق فيها نسبية وليست مطلقة مثل حقائق الايمان، وبالتالى فان تصديق الاسناد هو الذى يجعلها قضية ايمانية بالتزوير.
وعموما فان علم ((الجرح والتعديل))انصب اساسا على فحص الاسناد او سلسلة الرواة، دون اهتمام يذكر بفحص المتن او موضوع الحديث نفسه، وقام فحص الاسناد على اساس الهوى المذهبى والشخصى فلم يحدث اطلاقا ان اتفقوا على ان ذلك الراوى ثقة او انه ضعيف، لان من يمتدحه أهل السنة يهاجمه الشيعة وهكذا بين سائر الطوائف والفرق، ونتج عن ذلك الاختلاف فى الحكم على كل راو فى سلسلة الاسناد ان صارت الاحكام نسبية حتى داخل كل فرقة او مذهب، وبالتالى قسموا الاحاديث حسب درجتها من الثقة والصحة الى قسمين كبيرين.
(1 )الاول الحديث المتواتر وهو صحيح بدرجة مائة فى المائة، وقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم انه لايوجد اصلا حديث متواتر مقطوع بصدقه، وقال بعضهم انه يوجد حديث متواتر واحد وهو حديث ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ))وقال بعضهم انه حديث متواتر ولكنه يخلو من كلمة متعمدا. ورأى بعضهم ان الحديث المتواتر ثلاثة فقط، وارتفع بعضهم بالاحاديث المتواترة الى خمسة او سبعة.
(2 ) اما القسم الثانى من الاحاديث فهى الاحاديث الآحاد وقد قالوا بأن كل الاحاديث المذكورة فى كتب الاسانيد (السند) هى احاديث آحاد، اى رواها واحد عن واحد. وهى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وذلك لايكون الا فى آيات القرآن. وقالوا ان احاديث الآحاد يمكن العمل بها اذا ترجح صدقها او اذا اتفقت مع اية قرآنية.
ونعود الى الاسناد فى أحاديث الآحاد وقد قسموا احاديث الآحاد (وهى كل الاحاديث فى رأينا ) الى درجات من حيث الصحة من حسن وغريب وضعيف الخ... وهو بلاشك تقسيم مضحك لانه يعنى بالنسبة للسند للنبى (صلى الله عليه وسلم)قال هذا الحديث بنسبة 70 % او قال ذلك الحديث بنسبة 50 %أو 10 % وذلك لايستقيم مع المنهج العلمى، لانه اما أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم)قد قال ذلك الكلام، فتكون نسبة اسناده للنبى (صلى الله عليه وسلم)هى 100 %، واما أن يكون النبى لم يقل هذا الحديث فتكون نسبة اسناده للنبى (صلى الله عليه وسلم)هى صفر فى المائة، ولا توسط بين هذا وذاك. وبالتالى فان المنهج العلمى يستحيل معه اسناد ذلك الكلام للنبى بعد ستة اجيال من الروايات الشفهية، وبعد ان تم اختراع تلك الرسائل من الرواة بعد موت اصحابها بعشرات السنين، والمنهج القرآنى يتفق مع المنهج العلمى فى ذلك.

الاسناد يناقض المنهج القرآنى
ان اسناد قول ما للنبى (صلى الله عليه وسلم) يعنى تحويل ذلك القول او الحديث او الخبر الى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالايمان بها والعمل وفقا لأحكامها. وهذا لا يتأتى الا للقرآن وحده، فالقرآن كتاب محفوظ بقدرة الله تعالى له بداية وله نهاية، ينقسم الى 114 سورة، وكل سورة تضم آيات محددة مرقمة والله تعالى يقول للمشركين عن القرآن ((وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله: البقرة 23 )) وبغض النظر عن موضوع الآية وهو تحدى المشركين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن فان الاية تؤكد ان مانزل على النبى هي آيات القرآن الكريم فقط، وليس هناك فى الاسلام حديث الا حديث الله تعالى فى القرآن. أما تلك الاحاديث التراثية واسفارها فلا اول لها ولا اخر. وهى تتناقض حتى فى الكتاب الواحد، وربما فى الصفحة الواحدة.
ان اسناد قول ما للنبى (صلى الله عليه وسلم ) وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبى (صلى الله عليه وسلم )بأنه فرط فى تبليغ الرسالة، ولم يبلغ بنفسه تلك الاحاديث المنسوبة اليه، ولم يقم بتدوينها وكتابتها كما حدث مع القرآن. لأن تلك الاحاديث لو كانت جزءا من الدين ولم يبلغه الرسول للناس ولم يقم بتدوينه فان النبى (صلى الله عليه وسلم)ـ على ذلك ـلم يبلغ كل الرسالة، وانه ترك جزءا منها يتناقله الناس ويختلفون فيه الى ان تم تدوينه بعد النبى بقرون ولا يزالون يختلفون فيه.
الا اننا نؤمن ان النبى عليه السلام قام بتبليغ الرسالة كاملة وهى القرآن ولم يكتم منه شيئا ونزل قوله تعالى يزكى النبى ((اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا : المائدة3 ))فاكتمل الاسلام باكتمال القرآن، بل ومات النبى(صلى الله عليه وسلم )بعدها مباشرة، وتروى الاسانيد والاحاديث نفسها ان النبى (صلى الله عليه وسلم)نهى عن كتابة اى شئ غير القرآن، وان ابابكر وعمر وعثمان وعليا قد نهو ا عن رواية وكتابة اى حديث منسوب للنبى، ولذلك امتنع تدوين مانسب للنبى (صلى الله عليه وسلم) الى ان جاءت الدولة العباسية وعصور الفتن والاضراب العقائدى والمذهبى فتم تدوين احاديث نسبوها للنبى (صلى الله عليه وسلم) عبر ذلك الاسناد، وهى تحمل كل معالم التناقض مع القرآن وعصر النبى عليه السلام، الا ان ذلك الاسناد اعطى لها قدسية وحصنها من النقد والنقاش فعاشت حتى الان بيننا تنشر بيننا التطرف والتخلف وكل مايسئ للاسلام العظيم.
-وعليه فان الخروج من هذا المأزق يحتم الغاء ذلك الاسناد، اى قطع الصلة بين تلك الاحاديث والنبى عليه السلام، رحمة بالاسلام وتماشيا مع المنطق والمنهج العقلى والعلمى ثم ننظر الى متن الحديث وموضوعه فى ضوء انه ثقافة تعبر عن العصور التى تم تدوينها فيها. ثم نبحثها من خلال ثقافة عصرها تاريخيا وحضاريا بما فيها من خطأ او صواب، اى تصبح تراثا معدوم التقديس، كأى تراث بشرى تنعكس عليه احوال البشر من ارتفاع وهبوط وصلاح وفساد. واذا نظرنا للبخارى مثلا بهذا المقياس فقط انصفنا الاسلام ورسول الله عليه السلام، والا كنا فى عداد اعداء النبى (صلى الله عليه وسلم )الذين سيتبرأ منهم يوم القيامة (الانعام112 : 116/الفرقان. 30 : 31 )نقول هذا عن علم ودراسة بما يحتويه البخارى من احاديث تطعن فى النبى والاسلام، وظلت محصنة من النقد بسبب حماية الاسناد وما اضفاه على البخارى من تقديس ورهبة.

الاسناد يناقض مفهوم الشهادة
وقف المتهم بالقتل فى قفص الاتهام ونودى على الشاهد الاول، سأله القاضى : هل اعترف امامك المتهم بالجريمة؟ فقال الشاهد : لم اسمعه بأذنى، وانما اخبرنى باعترافه اخى. عندها اسقط القاضى شهادته واستدعى اخاه فقال: لم اسمع اعترافه بنفسى وانما روى لى هذا الاعتراف ابي، فأسقط القاضى شهادته واستدعى اباه، فقال الاب : لم اسمع اعترافه ولكن روى الاعتراف لى ابى الذى مات امس. ومن الطبيعى ان يطلق القاضى سراح المتهم ويطرد الشهود لانهم ليسوا شهودا. حيث ان الشهادة تكون بالسماع الشخصى المباشر والرؤية العيانية المباشرة....
هذه بالطبع قصة رمزية تؤكد على ان الاسناد عبر اقاويل سماعية خلال عصور متباينة ليس لها اساس ولا يأخذ بها اى نظام قضائى، فالبخارى لم يعش عصر النبى (صلى الله عليه وسلم )وكذلك الرواة الذين سبقوه، والصحابة الذين عاشوا عصر النبى (صلى الله عليه وسلم) انشغلوا بالفتوحات والفتن والمنازعات عن كل ما نسبوه اليهم، وحتى لو رووا احاديث فمن اين لنا ان نتأكد مما قالوه، وليس بيننا شاهد عاش من عصرهم وبقى حيا قرنين من الزمان، ثم كتب بنفسه ما سمع بأذنبه وما شاهد بعينيه؟ وحتى لو فعل ذلك فأن من حقنا ان نتشكك فيما قال بسبب الشيخوخة وضعف الذاكرة ((ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكى لايعلم من بعد علم شيئا: الحج5 ))
ان الاسناد عبر اجيال من الموتى يناقض الشهادة القانونية، وبالتالى فانه من الظلم للاسلام ان تقوم تشريعاته ـوهى اصل القوانين ـ على شهادات زائفة مشكوك فى صدقها. ولهذا فان التقديس الحقيقى للشريعة ان تقتصر على الكتاب الحكيم، الذى لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إن سنة النبى هى فى تطبيق القرآن وفق ظروف عصره.
وبالمناسبة نرجع للقرآن فى موضوع الاسناد والشهادة ونعطى منه ملمحين :
- فالشهادة فى مفهوم القرآن هى الرؤية والسمع بالحواس، وبالمعاصرة والمعايشة، وهى جزء اساسى من تشريع القرآن. وفى الشهادة على الديون يوجب القرآن تدوين الشهادة حتى في ايسر المعاملات ((ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرا او كبيرا الى اجله: البقر 282 )) فهل ينطبق تشريع الشهادة فى القرآن واحكامه على اسناد شهادات منسوبة للنبى فى التشريع وغيره عبر اجيال من الرواة الموتى عاشوا بين عصر النبى وعصر التدوين، وهم لم يروا شيئا ولم يسمعوا شيئا؟
-ونقل القرآن الكريم فى قصة وسورة يوسف اتهام شقيقه بالسرقة، ان يوسف قد رتب اتهام اخيه الشقيق بالسرقة حتى يتسنى له ان يحتفظ به معه، وكان اخوة يوسف فى رحلتهم الثانية لمصر قد ضغطوا على ابيهم يعقوب كى يسمح لهم باصطحاب اخيهم معهم، فلما احتجزه يوسف عزيز مصر بتهمة السرقة يئس الاخوة من استعادته فقال اخوهم الاكبر ((ارجعوا الى ابيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق، وما شهدنا الا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين: يوسف ـ81 ))اى ان اخاهم الأكبر يقول لهم ليشهدوا بما رأوه من ضبط المسرقات فى وعاء اخيهم، وما كانوا للغيب حافظين.... وهذه هى الشهادة من اناس عايشوا الحدث وشهدوا بما رأوه، ومع المعايشة والحضور والشهود والمعاصرة فان هناك من الخفايا التى لايعلمونها..... فالشهادة فى المفهوم القرآنى ان تشهد بما رأيت وسمعت بنفسك مع الاقرار بأنك لاتعلم غير ما شهدت بنفسك، وما خفي عنك لا يعلمه الا علام الغيوب. واذا طبقنا مفهوم الشهادة هذا على الاسناد وضح لنا التناقض الهائل بين الشهادة التى ينبغى ان تقوم على الحق المرئى والمسموع من الشاهد المشاهد وبين الاسناد وهو كذب صريح ليس فيه شهادة او شهود على الاطلاق، اذ كيف يشهد الميت او يحكى الحى على مالم يره ومالم يعش احداثه؟

موضوعات المسند
الاسناد هو سلسلة الرواة والعنعنة وقد عرضنا لها.... اما المسند فهو موضوع الحديث من الحديث. والان نشير الى موضوعات المسند او ما جاء به الاسناد الينا من موضوعات تخالف القرآن والاسلام.
ان الاحاديث كلها تصب فى ثلاثة موضوعات رئيسية، وهى ( 1 ) الغيبيات(2 ) التشريعيات (3 )الاخلاقيات او الترغيب والترهيب
فى الغيبيات : اسندوا للنبى احاديث يخبر فيها عن غيوب الماضى قبل عصره، وعن غيوب المستقبل فى الدنيا، غيوب الاخرة من علامات الساعة ووقائع القيامة، والحشر والشفاعة والعرض واحوال الجنة والنار. وكلها اكاذيب لان القرآن يؤكد على ان النبى عليه السلام لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء، وانه عليه السلام لايدرى ما سيحدث له او لغيره، وانه لايعلم شيئا عن علامات الساعة او علم الساعة، وليس له ان يتحدث عن كل تلك الغيبات(الانعام 50، الاعراف 187، 188، الاحقاف9، النازعات 5: 42، الجن 27: 25 مجرد امثلة ).
ويرتبط بالغيبيات ما نسبوه للنبى (صلى الله عليه وسلم) من احاديث الشفاعة يوم القيامة، وهى تناقض القرآن الذى يجعل الشفاعة لله وحده تقوم بها الملائكة حين تقدم العمل الصالح للصالحين يوم الحساب، اما النبى نفسه فلا يملك لأحد نفعا او ضرا(البقر 255، 354، 133، 48، طه109 : 110، الانبياء 26 : 28، النجم 26، الزخرف86، ق21، الزمر19، لقمان34: 33 ) ومع ذلك فان اكاذيب الشفاعة البشرية يوم القيامة قد جعلها الاسناد من المعلوم من الدين بالضرورة مع خطرها الشديد فى تدهور اخلاق المسليمين.
وفى التشريعات: اسندوا للنبى (صلى الله عليه وسلم )انه كان يفتى فى امور التشريع، وهذا يناقض حقيقة قرآنية اساسية وهى ان النبى (صلى الله عليه وسلم ) كان اذا سئل عن كل شئ كان ينتظر الاجابة من الوحى، فينزل عليه الوحى (يسألونك عن كذا فقل لهم كذا )... ومن تدبر الموضوعات التى سئل فيها النبى (صلى الله عليه وسلم) وانتظر الاجابة من السماء يتضح لنا انه كان يمكنه ان يجيب بنفسه من واقع معلوماته العامة، مثل سؤاله عن الاهلة(يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج: البقر 189 ) ومثل سؤاله عن موضوعات اليتيم، وقد تكررت آيات القرآن فى الحض على رعاية اليتيم، ومع ذلك كانوا يسألونه عن اليتيم، الا انه لم يبادر بالاجابة وانتظر الوحى فينزل الوحى يؤكد ما سبق قوله في رعاية اليتيم كقوله تعالي ( و يسالونك عن اليتامي قل اصلاح لهم خيرا و ان تخالطوهم فإخوانكم: البقرة 23).
وفي موضوع الظهار- وهو احد انواع الطلاق – اصرت امرأة علي ان يفتي لها النبي ( صلي الله عليه وسلم) و تعجلت الحكم ورفض النبي و انتظر نزول الوحي ونزل قوله تعالي (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الي الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير: المجادلة 1 ) فالمرأه تعجلت و اخدت تجادل النبي (ص) تطلب منه حكما فلما يئست منه اشتكت الي الله تعالي فنزل الحكم، و هكذا كانو يستفتون النبي فلا يفتيهم، و انما ينتظر حتي تنزل الفتوة وحيا من السماء، كأن يقول تعالي ( ويستفتونك في النساء فالله يفتيكم فيهن : النساء 127 ) لم يقل (قل افتيكم ) بل ان الله تعالي هو الذي كان يفتي و يشرع (( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة : النساء 176).
بايجاز.. كانت مهمة النبي (صلي الله عليه وسلم ) مقتصرة علي التبليغ دون الافتاء، و حين كانوا يسألونه او يستفتونه كان ينتظر الاجابة من الوحي حتي في الامور المعروفة لديه، وكانت سنته هي في تطبيق ما ينزل عليه وحي بإمكاناته البشرية وبامكانات عصره، هذا ماكان في عصر النبي (صلي الله عليه وسلم ) وهذا ما يؤكد ان للاسلام مصدرا وحيدا هو القرآن. اما نحن فمن حقنا ان نجتهد في تطبيق تشريع القرآن وفق ظروف عصرنا و اجتهادنا يقبل الخطأ والصواب ونحن مسئولون عنه، وبهذا يعلو الاسلام فوق الزمان و المكان محفوظا بتشريعه الي قيام الساعة وبعيدا عن اخطاءنا وخطايانا.. الا ان الاسناد نسب للنبي تشريعات تخالف القران مثل الرجم و حد الرده والحسبة و جعل من حق الحاكم ان يمتلك الارض و من عليها... و بالاضافة الي اختراع الاسناد لتلك التشريعات المخالفة فان العصر العباسي اخترع مفهوما جديدا لالغاء التشريعات القرآنيه تحت دعوي النسخ. مع ان النسخ في القران واللغة العربية معناه الاثبات و الكتابة و ليس الحذف والالغاء ( راجع كتبنا عن : النسخ، وحد الردة، والحسبة، و القرآن و كفي مصدرا للتشريع ).
وفى الاخلاقيات : نسبوا للنبى (صلى الله عليه وسلم)احاديث فى الترغيب والترهيب أفسدت اخلاق المسلمين اذ كانت ترتب الجزاء العظيم على مجرد كلمة او قراءة سورة او صلاة ركعتين، وبمجرد ان يقول الانسان ذلك او يفعله فقد ضمن الجنة مهما ارتكب من ذنوب وآثام، وبالتالى فعليه ان يسعى فى الارض بالفساد ثم يضمن الجنة بمجرد ان يقول لااله الا الله... وهذا يخالف منهج القرآن الاخلاقى الذى يجعل الجنة من نصيب الذين الذين امنوا وعملوا الصلحات، اى حفلت حياتهم بالايمان والعمل الصالح النافع وليس مجرد كلمة او تبرع من مال حرام وسط حياة حافلة بالاثام.
وعن طريق أحاديث الغيبيات والتشريعات والاخلاقيات أقام الاسناد دينا جديدا مخالفا للقرآن واكسب ذلك الدين المخالف قدسية حين نسبه للنبى، ومن اسف فإنه اذا تعارضت 150 أية قرآنية كلها تنفى شفاعة النبى مع حديث الشفاعة فى البخارى فان الناس ينحازون للبخارى... اليس كذلك ؟

التراث المقدس وغير المقدس
ما سبق ينصب اساسا على التراث السنى الذى اسنده رواة السنة للنبى (صلى الله عليه وسلم )فأصبح ذلك التراث السنى دينا مقدسا. الا ان الشيعة لهم ايضا تراثهم الذى اسندوه للنبى (صلى الله عليه وسلم)والى على وذريته واصحاب القداسة من الائمة. واصبح ذلك التراث ايضا دينا مقدسا، يقف فى موقع الخصومة للتراث السنى المقدس بسبب الخلاف السياسى العقدى والحركى.
ثم جاء التصوف ابنا للتشيع متخففا من طموحاته السياسية فأعرض عن السند، ولم يهتم باختراع سلسلة الرواة. اذ يقوم التصوف فى عقيدته على الاتحاد بالله وحلول الذات الالهية فى نفس الشيخ الصوفى، وحين تشرق انوار المعرفة الالهية فى داخله ـ بزعمهم ـ ينطق بالعلم اللدنى، وحينئذ فليست هناك حاجة للرواة لانه جلس ـبزعمهم ـمع الله فى الحضرة الالهية. ومن هنا كان الصوفى فى العصر العباسى الثانى يقول" حدثنى قلبى عن ربى " وامتلأ كتاب" احياء علوم الدين "للغزالى بأقاصيص وأقاويل من هذه النوعية او ان يقول "اوحى الله لبعض الصالحين "هذا بالاضافة الى احاديث نسبها للنبى (صلى الله عليه وسلم)بدون اسناد وقام العراقى فى تخريجها باثبات انها "لا اصل لها "اى لم يذكرها غير الغزالى، او بعبارة اخرى اخترعها الغزالى اختراعا. ثم اضاف الصوفية الى ذلك المنامات، اى يزعم احدهم انه رأى النبى فى المنام فقال له النبى كذا وتحفل كتب الصوفية بهذه المنامات، ثم الهواتف اى يسمع الصوفى هاتفا يقول له كذا.. وفى العصر المملوكى كانت المنامات تغلف التراث الصوفى وتؤثر فى الحياة المملوكية سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا، حتى كان المألوف ان يدعى احدهم انه يرى النبى (صلى الله عليه وسلم)يقظة وليس فقط فى المنام، واشهر من ادعى ذلك كان السيوطى، وقد ذكر ذلك الشعرانى فى ترجمته له فى الطبقات الصغرى.
بايجاز نقول : ان الاسناد حول التراث السنى والشيعى الى أديان مقدسة زورا وبهتانا وشجع الصوفية على الافتراء على الله ورسوله بدون اسناد. والاسناد مع قداسته المزعومة فانه لايصمد امام النقد لانه يحمل اوزارا من التخريف والاخطاء الموضوعية تؤكد حاجته الى تلك القدسية لتحميه من سهام النقد والاعتراض.
الا ان التراث العقلى (الذى يستحق الاحترام حتى ولو اختلفنا معه )لم يكن محتاجا للاسناد او القدسية ـولذلك ظل تراث المعتزلة والمفكرين منسوبا الى اعلام تلك الطوائف العقلية، لم يحاول الجاحظ ـمثلا ـان ينسب اراءه للنبى (صلى الله عليه وسلم )بل نسبها لنفسه والى من قالها من زملائه واصدقائه، واذا قرأت الجاحظ فى" البخلاء " و"البيان والتبيين "وباقى رسائله وجدت رائحة الثقافة الجاحظية وعصره وبيئته وازددت له احتراما لانه كان صادقا مع نفسه، وقد مات الجاحظ سنة 255 هـ. وعاش معه فى نفس العصر البخارى (ت256 هـ). الذى نسب ثقافة العصر العباسى للنبى (صلى الله عليه وسلم)عبر ذلك الاسناد المشئوم فأوقع بالنبى (صلى الله عليه وسلم)والاسلام افدح الاضرار.
ومع الاسف فان الغلبة لم تكن للجاحظ والمعتزلة ومنهجهم العقلى، وانما كانت بسبب الظروف السياسة لمن كان يسميهم العصر العباسى الاول بالحشوية، اى الذين يحشون عقولهم باسانيد كاذبة منسوبة للنبى (صلى الله عليه وسلم)، ويحاولون نشر ارائهم بهذه الطريقة، لقد انحاز المأمون ثم المعتصم والواثق للمعتزلة. وحدثت فتنة خلق القرآن التى اضطهد فيها ابن حنبل، ثم جاء الخليفة المتوكل وكان حانقا على المعتزلة وزعيمهم ابن الزيات، فقتله وانحاز للحشوية "اصحاب الحديث والسنن" وتعصب لهم وارسل دعاتهم فى الافاق لنصرة السنة فيما يحكى بن الجوزى فى المنتظم، ودخلت الدولة العباسية فى دور الضعف واحتاجت اكثر الى اخضاع العوام بالدين، فازداد دور الشيوخ من الفقهاء ثم الصوفية، وكى يتم للشيوخ اخضاع العوام كان لابد من الاستناد الى مرجعية دينية تكون لافتة، يشيرون اليها دون مناقشة، وقام الاسناد بهذه المهمة. وبالتدريج تعود الناس على الخضوع بمجرد ان يقول لهم الشيخ روى ان النبى (ص)قال. ثم بمرور الزمن اصبح الشيخ يقول بكل ثقة.. ((قال صلى الله علبه وسلم كذا )) كأنه سمع ذلك من النبى (صلى الله عليه وسلم)بنفسه ودون اسناد، ودون ذكر انها رواية قالها اشخاص، قد يخطئون وقد يصيبون، وهذا ما تسمعه حتى الان من شيوخ المواصلات فى القاهرة عن الذى يبنى مسجدا ولو كمحفص قطاة... ثم ظهر فى عصرنا اتجاه جديد بين الجماعات السلفية وهو اختراع الحديث، تخدم وجهة نظرهم مثل حديث ((من اكرم شرطيا اهانه الله)) وقد عقب بعضهم على ذلك الحديث المخترع فى هذه الأيام قائلا : كيف كيف يستحل الكذب على الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال الشيخ المتطرف انه لايكذب على النبى وانما يكذب للنبى... اى ان اختراع الاحاديث لايزال ساريا..

بين الحديث والسنة
ويبقى السؤال الاخير، هل تلك الاحاديث هى سنة النبى عليه السلام؟
هنا نضع بعض الحقائق القرآنية والحقائق التراثية.
1.معنى السنة فى القرآن هو المناهج او الطريقة وذلك فيما يخص تعامل الله تعالى مع المشركين. كما ان معناها هو التشريع الالهى، وبالمعنيين فان السنة فى القرآن تأتى منسوبة لله، اى سنة الله، يقول تعالى فى تشريع خاص بالنبى (صلي الله عليه وسلم)((ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له، سنة الله فى الذين خلوا من قبل وكان امرا الله قدرا مقدورا : الاحزاب 38 ))وفى الاية الكريمة يتضح ان ((فرض الله ))يعنى(( سنة الله ))يعنى ((امرا الله))هى ((شريعة الله))اى السنة معنها الشرع..
2.وهذا يتفق مع المعنى اللغوى لكلمة السنة، تقول ((سن قانونا ))اى شرع قانونا، واذا تم سن القانون اصبح شريعة واجبة التنفيذ.
3.وهذا ايضا يتفق مع المعنى الفقهى لمصطلح ((السنة العملية))اذ تعنى السنة العملية العبادات من الصلاة وزكاة وحج وصيام..
4.وفى كل ذلك فان الله تعالى هو صاحب التشريع الذى نزل فى القرآن الكريم، والنبى عليه السلام هو القدوة لنا فى تطبيق ذلك التشريع، لذلك يقول تعالى ((لقد كان لكم فى رسول الله اسوة حسنة : الاحزاب 21 ))لم يقل كان لكم فى رسول الله سنة حسنة، لان السنة هى سنة الله، اما النبى عليه السلام فهو القدوة الحسنة فى تطبيق سنة الله وشرع الله..
5.الا ان بعض فقهاء التراث يقولون ان السنة العملية هى العبادات التى اشرنا اليها، اما السنة القولية للنبى فهى تلك الاحاديث التى اسندوها اليه بعد موته بقرون فيما يعرف بكتب الصحاح وغيرها. وهنا نختلف معهم، لان السنة القولية للنبى عليه السلام هى ما ورد فى القرآن فى كلمة "قل "التى يتميز بها القرآن، وقد تكررت كلمة "قل "للنبى فى القرآن (332)مرة.. وكانت الموضوعات التى ترددت فيها كلمة "قل" تشمل كل ما يحتاجه المؤمن من امور الدين، وبعضها يؤكد ما جاء فى القرآن ايضا بدون كلمة "قل". وكان النبى عليه السلام مأمورا بأن يقول ذلك القول المنصوص عليه فى القرآن كما هو دون زيادة او نقصان، اذ لايملك ان يتقول على الله تعالى شيئا فى امر الدين ((ولو تقول علينا بعض الاقاويل، لاخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فيما منكم من احد عنه حاجزين : الحاقة44 : 47 )). باختصار ان السنة القولية للنبى هى كلمة ((قل )) طالما ان السنة تعنى الشرع المفروض اتباعه.
6.ويقولون أن تلك الاحاديث هى مصدر المعرفة بالصلاة والعبادات. وهذا خطأ ظاهر لان تلك الاحاديث اقاويل، والسنة هى طريقة تأدية للعبادة وكان معروفا تأدية العبادات ليس فقط قبل عصر البخارى وغيره، بل كانت معروفة قبل نزول القرآن، اذ كانت هى الملامح الاساسية لملة ابراهيم التى امر الله تعالى النبى والمسلمين باتباعها حنفاء، بل ان تلك الاحاديث التى رويت فيما بعد النبى بقرون لم تتعرض بالتفصيل لكيفية تأدية الصلاة. وأكثر من ذلك أنها تشوه الصلاة وتشكك فيها.
7.ومن الطبيعى ان النبى عليه السلام وهو يقيم دولة وينشئ امه ويواجه مكائد اعدائه ان تكون له اقوال وتعليمات، كما كانت له تطبيقاته فى تنفيذ شرائع القرآن خارج العبادات، مثل اعداد الجيش والقوة الحربية. وذلك كله يدخل ضمن التاريخ والسيرة، وليس ضمن الدين الذى يعلو فوق الزمان والمكان.
8.والملاحظ ان العصر العباسى حين قام بتدوين سيرة النبى (صلى الله عليه وسلم)بأثر رجعى فأنه تجاهل ما ينفع الناس منها، لان ذلك الذى ينفع الناس كان ضارا بالحكام من الخلفاء المستبدين، وقد قامت دولة النبى الاسلامية على اساس الشورى او الديمقراطية المباشرة حيث يحكم الناس انفسهم بأنفسهم، وحيث كان الناس مصدر السلطة والقائمين ايضا بالسلطة. وعاش اهل المدينة على ذلك فى حياة النبى، وتركهم النبى يحكمون انفسهم بأنفسهم دون ان يعين لهم حاكما، والسيرة الحقيقية للنبى عليه الصلاة والسلام كانت تؤكد ذلك من خلال اكثر من خمسمائة خطبة النبى (صلى الله عليه وسلم)فى المدينة، ومن خلال مجالس الشورى التى تحدث عنها القرآن الكريم فى الآيات الاخيرة من سورة النور و سورة المجادلة وسورة النساء.
وتلك الديمقراطية المباشرة فى عهد النبى عليه السلام كانت تناقض تماما الاستبداد العباسى حيث يملك الخليفة الارض ومن عليها دون حسيب او رقيب، ولذلك اهمل التدوين العباسى اكثر من خمسمائة خطبة للنبى عليه السلام والمئات من مجالس الشورى...... واستبدل بذلك تأليف تشريعات وسيرة تتفق مع ثقافة العصر العباسى، ثم قام الاسناد بتحويل هذه الثقافة العباسية الى دين عن طريق الاسناد... وبمرور الزمن اصبحت تلك الثقافة العباسية مقدسة لايجرؤ احد على نقد مصادرها من كتب (الصحاح )والدليل على قداساتها المترسبة فى القلوب والعقول هو تلك الرهبة التى يحس بها القارئ لهذا المقال.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف