كتَّاب إيلاف

التفسـير الجُحاوي للتاريـخ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الأولى

قلت في مقال سابق أنه لا يوجد الكثير مما يستحق المناقشة فيما كتبه د. عمارة في سلسلة مقالاته بعنوان "الحروب الدينية والأديان السماوية؟". لكن المشكلة في عدم التعرض لمثل هذه الكتابات هي ترك مدرسة التفسير "الجحاوي" للتاريخ تتفشى وتتوسع!
وهذه المدرسة تنتسب إلى ما يُحكى من أن جحا ذات يوم أخبر بعض الصبية، غالبا ليتخلص منهم، أن الوالي يقوم بتوزيع النقود، وبعد قليل وجد الكثيرين يهرولون مسرعين فلما تساءل ما الخطب، قالوا له أسرع إلى دار الوالي حيث توزع النقود! ومع أنه تعجب في داخله من سرعة انتشار الإشاعة الكاذبة التي أطلقها بنفسه، إلا أنه سارع معهم إلى دار الوالي؛ من يعرف فربما كان الأمر صحيحا!
هذه القصة الطريفة كثيرا ما تتكرر، بصورة أقلُ ظرفا بالطبع، عندما يحاول البعض إطلاق الادعاءات التاريخية؛ وعندما لا يناقشهم أحد في صحتها أو حتى معقوليتها، يتمادون. ومع تدافع الآخرين، ينتهي الأمر بأن يصدقها الجميع وتصبح "حقائق تاريخية"!!.[ وإحقاقا للحق، لا بد من إضافة أن تلك المدرسة التاريخية هي جزء من مدرسة فكرية جحاوية متمترسة في العالم العربي، تضارع مدرسة مثل الفكر الجدلي (هيجل) في الغرب، وتعتمد على مباديء ثابتة لا داعي لعرضها الآن....].
على أي حال، فإن كان من دواعي التعقل، بصفة عامة، تجاهل مثل تلك الكتابات؛ إلا أنه من اللازم أحيانا التعامل معها، وعلى حساب الالتفات إلى أمور جارية أهم، من باب فضح تلك المدرسة العتيدة، ليس إلا.
***
ومع التمني بأن يقوم مؤرخون حقيقيون وأمناء بدورهم، وفي انتظار أن يقولوا كلمتهم، سنجازف ببعض الملاحظات على كتابات د.عمارة:

(1) رد العـــــدوان!!
يقول د. عمارة (حلقة 7) تحت عنوان "مميزات الدولة الإسلامية": "ولم تخرج الدولة الإسلامية عن هذا المنهاج السلمي في الدعوة إلى الدين فوقفت كل حروبها عند حدد القصاص الذي يرد العدوان على حرية الدعوة وحرية الضمير وذلك حتى تضمن الدولة للمؤمنين حرية العيش الآمن في الأوطان التي يعيشون فيها.. فكان ’الإذن‘ بالقتال والأمر به لا للدعوة إلى الدين وتحصيل الإيمان به.. وإنما لحماية حرية الدعوة والإيمان من الفتنة في الدين.. وحماية حرية المؤمنين من الاستفزاز من الأرض والإخراج من الديار"
ويضيف (في الحلقة 8) قائلا: "إن الشريعة تفوقت على غيرها من كل الشرائع والحضارات والقوانين الدولية في أنها جعلت القتال والحرب استثناء مكروها لا يلجأ إليه المسلمون إلا للضرورة القصوى.."
وتحت عنوان "دولة التعايش السلمي" يقول : ".. معيار الدولة الدولة الإسلامية في السلم والسلام أو الحرب والقتال ليس الإيمان والكفر وإنما التعايش السلمي بين الآخرين وبين المسلمين أو عدوان الآخرين على المؤمنين بالفتنة في الدين أو الإخراج من الديار.."
وتحت عنوان "رد عدوان المعتدين" يقول: "فالقتال فقط للدفاع ولرد عدوان المعتدين دونما زيادة على رد العدوان وبالوسائل المكافئة لرد العدوان"
كل هذا مرة واحدة؟!
يارجل حرامٌ عليك! قل كلاما غير هذا!
لو كان د. عمارة قد اكتفى في مقالاته بما حشاه فيها من النصوص الدينية المختارة بعناية، والتي يمكن تفسيرها على أنها تدعو للسلم الخ، بكونها مباديء "يجب" اتباعها؛ لقلنا حسنا، ولكن ماذا عن التطبيق؟ ولو كان - عندئذ - قد قال أن "الدولة الإسلامية" كانت في الحقيقة امبراطورية توسعية استعمارية، استخدمت في حروبها أساليب "تجافي مبادئها"، ولكنها، على أي حال، لا تختلف كثيرا عن أساليب امبراطوريات أخرى سبقتها ولحقتها؛ لقلنا إن الاعتراف بالحق فضيلة، حتى لو كان بعض الحق!.
ولكنه هاهو ينسب إلى "الدولة الإسلامية"، التي تاريخُها مسجل ومعروف، أمورا لم تحدث حتى في الخيال!! وحتى لو افترض أن بعض قرائه ممن دقوا عصافير مزركشة على أصداغهم أو طبعوا أختاما على أقفيتهم، فإن هؤلاء لا شك سيجدون صعوبة في تصديقه!
فهل يتفضل بأن ينبئنا، مثلا، ماالذي فعله أهل الشام أو فلسطين أو مابين النهرين أو فارس أو الأناضول أو أرمينيا أو مصر أو أفريقية أو أيبيريا من قبيل "العدوان" على مسلمي الجزيرة مما يستدعي غزو بلاد أي منهم؟ ومَن مِن هؤلاء هدد "حرية الدعوة وحرية الضمير" في الجزيرة؟ ومُن هم ياترى الذين "استفزوا المؤمنين من أرضهم أو أخرجوهم من ديارهم" في الحجاز ليستحقوا القتال ضدهم في قرطاج (تونس) أو دوين (أرمينيا) أو ديبال (السند) الخ؟؟


***
لا داعي لأن نتناول هنا أحداث غزو مصر (....)، لكن نكتفي بذكر مثال واحد فقط يعطي صورة حقيقية عما حدث في فلسطين، في بداية غزوات العرب للدول المجاورة، كعينة من كيف يكون "القتال والحرب استثناء مكروها لا يلجأ إليه المسلمون إلا للضرورة القصوى"....
طبقا لما أورده الأستاذ دو بريمار، استنادا إلى وثائق محققة ومنشورة، فقد أرسل صوفرينوس بطريرك أورشليم (إيلياء) في سنة 633 خطابا إلى بابا روما وبطريرك القسطنطينية يقول فيه: ".. نرجو الله أن يشدد ويقوي ملوكنا حتى يكسروا تعظم كل البرابرة وخاصة السراسنة (العرب) الذين، بسبب خطايانا، انتفضوا فجأة ضدنا، وانهمكوا في القيام بأعمال نهب شامل (يمارسونها) في غلظة ووحشية..."
وفي رسالة عيد الميلاد لسنة 634 يتحدث صوفرينوس عن "أورشليم المحاصرة بالهاجريين (أحفاد هاجر، أي العرب) ... وكما أن السيف الملتهب للملاك الواقف على باب الجنة منع آدم من دخولها، هكذا أصبح دخول بيت لحم في هذا اليوم لذكرى ميلاد المسيح (الذي تصادف في تلك السنة أن يكون يوم أحد) ممنوعا على المسيحيين، بسبب خطاياهم، بواسطة سيف السراسنة المسلول والممتليء بوحشية شيطانية حقا".
وفي رسالة عيد الغطاس (الثيؤفانية) التالي في 635 يقول: " كيف يتأتى أن تتزايد الغزوات البربرية المتتالية وأن تنتفض جحافل السراسنة ضدنا؟ لماذا كل هذا التخريب والنهب؟ ولماذا أصبح سفك الدماء مستمرا والجثث صارت نهبا لطيور السماء؟ لماذا تُحطم الكنائس ويُمتهن الصليب؟ ...(هل هي) رجسة الخراب التى تنبأ بها النبي (دانيال). السراسنة يرتعون في أماكن محرمة، يخربون المدن، ويدمرون الحقول ويحرقون القرى ويقلبون الأديرة المقدسة، يَتَحدون الجيوش الرومانية ويأخذون أسلاب الحرب، يضيفون نصرا على نصر، يتجمعون متحدين ضدنا (....) ويتفاخرون (بالرغبة في) التسلط على العالم كله (...) باستمرار وبدون أي وازع".
وأخيرا سقطت المدينة في أيدي العرب (أو، كما يقول ألفريد بتلر، في أيدي "تحالف أولاد إبراهيم" حيث ساند اليهود أولاد عمومتهم، كراهية في النصارى) في تاريخ يتراوح بين 635 و 638 بحسب المصدر.
باختصار، ألا يعرف الكاتب حقا مقدار الأهوال التي حدثت أثناء حروب "الفتوحات" و"الغزوات" التي قامت بها الدولة الإسلامية؟؟
وإن كان كل هذا قد حدث في أزمان قديمة والحال قد أصبح الآن غير الحال، وانعقدت النياتُ خالصةً وصافيةً على نبذ العنف والجنوح للسلم؛ فلماذا ياترى نلاحظ، مثلا، أن علم دولة شقيقة (وكذلك أعلام كافة الجماعات "الجهادية" التي تظهر على أفلام "الفيديو كليب" التي يشاهدها العالم بصورة شبه يومية، مثلا عند أخذ الرهائن الأبرياء والتهديد بذبحهم الخ) لا يوجد عليه (تحت الشهادتين) "سعف نخل"، بل سيف مسلول؟؟ ولماذا نلاحظ، مثلا، أن شعار جماعة الإخوان المسلمين هو "سيفان متقاطعان" يحتضنان عبارة "وأعدوا" (أي أعدوا لهم مااستطعتم.. الخ)... وليس "غصنا زيتون متقاطعين"، يحتضنان عبارة "وأحبوا" أو "وسالموا" أو "واحترموا"؟؟


***
ختاما، لا بد أن نؤكد أن ما حدث في الماضي قد حدث؛ ولا يمكن إعادة صنع التاريخ، ولا حتى تصحيحه. فالتاريخ هو، في النهاية، مثل الطبقات الجيولوجية للأرض؛ تترسب الواحدة فوق الأخرى ولا يمكن إعادة تشكيل أي منها بأثر رجعي! كل ما يمكن عمله هو محاولة فهم الطبقات المتتالية وتوصيفها بطريقة صحيحة: فلا يمكن، مثلا، وصف طبقة من الحجر الجيري المشبع بالغازات على أنها طبقة من الحجر الرملي المشبع بالماء العذب!

وإلى مقال آخر لنتابع الملاحظات...

guindya@hotmail/com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف