كتَّاب إيلاف

مأزق السلطة والتنمية في العالم العربي المعاصر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أصول إشكاليات الحالة العربية وآفاق تطورها (2/5)

تعتبر قضية السلطة وأشكالها أحد المعوّقات الهامة التي اعترضت العمل العربي المعاصر، وهي قضية ذات جانبين : أولهما، يتعلق بتركيبة السلطة الموروثة، بقسم منها، عن عهود ما قبل الرأسمالية، والتي تجددت بصيغ مختلفة، حتى في ظل التغيّرات والتحولات التي شهدتها بعض الأقطار العربية. وثانيهما، أنّ القوى القومية التي وصلت إلى السلطة لم تتصدَّ بالقدر الكافي وفي كل الظروف لهذه القضية كمهمة أساسية مطروحة عليها، بالرغم من أهميتها على صعيد تحقيق مهمات الثورة القومية الديمقراطية، بما فيها إنجاز مشاريع التنمية الشاملة، بل أنّ بعضها قد خضع إلى الانقلابات العسكرية التي تحولت إلى أعمال مغامرة مناقضة للتقدم ومجهضة للتطور.
لقد كانت الفترة من أوائل الخمسينات إلى سنة 1967 مرحلة الأطروحة القومية التي تعززت بالسلطة والدولة، وقد كشفت المؤلفات العديدة للسياسيين القوميين عن المحتوى الواقعي لسلطة الأحزاب القومية، التي مزجت بين التضليل الداخلي والتضليل الخارجي. إذ كانت الأطروحة القومية، في السلطة، تضع نفسها مقابل التنمية ومقابل عصرنة البلاد وبنائها وطنيا. ولذلك فإنها لم تفشل فقط في إنجاز التنمية، وإنما عرقلت قيامها، واتهمت الشروع بها قطريا بأنه " إقليمية ومصالح قطرية ضيقة ".
وهكذا يبدو أنّ الدولة الحديثة لم تمتد جذورها إلى الأقطار العربية، إذ بقيت السلطة العربية استبدادية واستغلالية في أغلب الأحيان. ويبدو أنّ إحدى المشكلات الكبرى للدولة العربية، التي ظهرت بعد نيل الاستقلال الوطني، أنها لم ترتبط بفكرة الحرية وفكرة العقلانية، بل ارتبطت بفكرة التوازن بين البداوة والدولة، حين مثلت البداوة حرية الأصل السابقة للدولة، ومثلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة.
فلم يكن ظهور الدولة العربية، بعد مرحلة الاستقلال الوطني، نتاجا لتفاعل التناقضات الاجتماعية وتطورها في صورة تجميعية جديدة، بل كان ظهورا مصطنعا وهامشيا، وقد تجلت هامشية دورها حين شرّعت ونظّمت وعمّقت الفوارق بين طاقمها وبين سائر المجتمع. وازداد الأمر سوءا حين بدا أنّ التربع في سدة الحكم والسلطة لم يُخرجْ أكثر الفئات الحاكمة من فئويتها، بل فاقم هذه الفئوية وغذاها بالموارد التي وضعها الحكم المركزي بين يديها. وهكذا تحولت مرافق السلطة إلى أدوات تدعم مصالح الفئة الحاكمة، ونُظِّمَتِ الحياة السياسية بصورة حالت دون الطعن في مدى شرعية ذلك.
ولذلك فإنّ العالم العربي بقي متأخرا، فلم يستطع السيطرة على موارده ومصيره، وبقيت الفجوة الحضارية التي تفصل بينه وبين المجتمعات المتقدمة واسعة. وقد تميزت الأنظمة الاقتصادية العربية بـ : التبعية، والفجوة بين الأقطار العربية الغنية والفقيرة، والفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل كل قطر عربي، وعدم التوازن بين القطاعات الاقتصادية.
إنّ مفهوم التنمية لا يستطيع الإفلات من إطار السياق التاريخي الذي تقع فيه تجربة المجتمع، بمعطياته وبمستويات أدائه ومؤسساته، وبإلحاح التحديات التي يواجهها والأهداف التي يضعها لنفسه. وعليه، فإنّ عملية التنمية كان يجب أن تكون معنية بكل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأنها تتخطى مجرد تحقيق نمو في الناتج القومي الإجمالي لتشمل عدد من التبدلات الجوهرية في المعطيات والمؤسسات المختلفة لتجهيز وظائفها لملاءمة اكتساب القدرة الإنتاجية المتزايدة التي تسمح برفع مستوى الإنتاج بشكل متواصل يتيح للمواطنين الحصول على مستويات معيشية وظروف حياة وفرص عمل مرضية.
وعلى ضوء تجربة العقود الخمسة الماضية في الحقل الاقتصادي والإنمائي العربي يتبين أنّ النتائج لم تكن مرضية للشعوب العربية، سواء أكان المعيار هو الإمكانات التي أتيحت أو الطموح المشروع. ويتساءل الكثيرون عما إذا كانت المكاسب الضئيلة التي تحققت كانت تناسب الثمن المدفوع من أجلها. فالخيارات التنموية العربية لم تفلح في تقليص الاعتماد المفرط على الخارج، أو تصحيح التشوه الهيكلي، أو الاختلال في التوازن القطاعي، أو المواءمة بين الجانبين المادي والإنساني للإنماء، أو زيادة مناعة الاقتصاد العربي تجاه تعاظم واتساع الاختراقات الخارجية.
لقد مرت محاولات التنمية العربية بأطوار عديدة مختلفة من قطر لآخر، سواء من ناحية حجم المجهود التنموي، أو من ناحية الممارسات التنموية، أو طبيعة دور الدولة الاقتصادي، أو حتى من ناحية بعض التفاصيل المتعلقة بالغايات المنشودة من التنمية. ومنذ أواسط ثمانينات القرن الماضي بات واضحا أنّ جهود التنمية العربية تواجه مأزقا خانقا، بفعل الإحباط الذاتي الناشئ عن ظروف التجزئة والتأخر من جهة، وعن قصور أساليب التنمية من جهة أخرى. ولكنّ هذه الأطوار ارتبطت، على الخصوص، بأنماط العلاقة العربية مع النظام الاقتصادي العالمي، وإن لا يمكن الحديث عن نسق واحد في سلوك الحكومات العربية بحكم تفاوت ظروفها وتجاربها.
لقد مثّل " الانتصار" النفطي نقطة تحول تاريخية في الموازين الاقتصادية الدولية. فقد استعادت الدول النفطية سيطرتها على ثرواتها ومواردها النفطية، وحققت تصحيحا جزئيا في أسعار نفطها الخام. ومما ساعد في فاعلية هذا الإجراء اندلاع الحرب العربية - الإسرائيلية في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1973، واستخدام سلاح النفط العربي في خدمة هذه الحرب.
لقد تدفق المال النفطي سريعا، بشكل مفاجئ، وبكميات تفوق قدرة الاقتصاديات النفطية على استيعابها في فترة قصيرة. وتكوّن فائض مالي كبير، سارعت الدول المتقدمة الغربية لاستيعابه من خلال قنواتها وشبكاتها المالية والاستثمارية والتجارية. وتم ترويج مشروعات ضخمة، وأنماط استهلاكية لاستنزاف الجزء الأكبر من تلك الموارد. وكان من أثر هذا التدفق المالي أن انتقل الثقل الاقتصادي العربي إلى " شبه الجزيرة العربية "، مغيّرا معه ميزان القوى داخل المجموعة العربية.
ومن ناحية أخرى، فقد تحول النزوح السكاني والهجرة البشرية من الشمال إلى الجنوب، حيث منابع النفط. وأصبح المتغيّر النفطي هو الأكثر تأثيرا في القرار العربي، والمسيرة الإنمائية، ومستوى النشاط الاقتصادي، والعمل العربي المشترك، مما برر تسمية هذه الحقبة بـ " الحقبة النفطية ". ومن الملاحظ أنه في الوقت الذي ينسب للعقد الأول من هذه الحقبة أنه أسهم في رفع معدلات النمو، واتساع نشاط المؤسسات، وإقامة المشاريع العربية المشتركة، فإنه حمل معه العديد من الآثار السلبية التي لحقت بعدد من الدول العربية.
ومما يجدر ذكره أنّ فترة الازدهار النفطي كانت قد عمقت من آثار التحديات التقليدية المتمثلة بالتأخر والتبعية والتجزئة. ولعل أخطر ما أفرزته تلك الفترة هو الازدياد السريع والكبير في التفاوت التنموي والدخل بين الأقطار العربية، وفي داخل كل منها، وازدياد الاختلال الهيكلي قطريا وقوميا، وتزعزع التوازنات الاجتماعية.
لقد أفرزت فترة الازدهار النفطي اختلالا واضحا في التركيب الهيكلي للاقتصاديات العربية، وفي هيكل الطلب الاجتماعي. وكانت حصيلة هذه التغيّرات الهيكلية تحول بعض الاقتصاديات العربية من " اقتصاديات إنتاجية " إلى " اقتصاديات ريعية "، واستمرار بقاء القطاع النفطي قطاعا علويا، يكتفي بتحريك النشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق القومي بدلا من التشابك العضوي معه.
ومنذ أواخر السبعينات تراكمت العديد من المؤشرات الخطيرة في تطور الاقتصاديات العربية من أهمها :
1 - التدهور النسبي في القطاع الزراعي والارتفاع الكبير في نصيب الصناعات الاستخراجية وقطاع الخدمات.
2 - تخلخل التوازن بين القطاعات والفئات الاجتماعية، وتوسع الفجوة بين الأرياف والمدن.
3 - انخفاض موقع الصناعة التحويلية في هيكل الإنتاج القومي.
4 - تركيز الاهتمام بالتنمية المادية وإغفال أهمية التنمية البشرية.
5 - مهد النفط لمفهوم الدولة الريعية، حيث تمكنت الحكومات من أن " ترشو " قطاعات من المجتمع، بهدف توسيع قاعدة حكمها وسلطتها.
وما أن بلغنا منتصف الثمانينات، إن لم يكن قبل ذلك، حتى تبين أنّ معظم الآمال التي بنيت في أوائل السبعينات، على ثروة النفط وانتقال العمالة والمشروعات العربية المشتركة، كانت قصورا مبنية على الرمال. ولم تكن خيبة الأمل هذه ناتجة عن مجرد أنّ الزيادة في إيرادات النفط قد أصابها الانتكاس في منتصف الثمانينات نتيجة الانخفاض الكبير في أسعاره، بل ما تبين، مع مرور الوقت، من أنّ زيادة الإيرادات شيء، وزيادة القدرة على استخدام هذه الإيرادات والثروات في تحقيق التنمية العربية على أساس التكامل والشمول ووحدة الخطط والبرامج شيء مختلف تماما.
لقد صحت الأقطار العربية، في أواخر الثمانينات، لتجد نفسها أمام عالم جديد، لم تهئ نفسها لمتطلباته وتحدياته، سواء بشكل جماعي أو انفرادي. فقد أصبح النظام الاقتصادي العالمي هو الأداة التي تستخدمها الدول الكبرى للهيمنة في المجالات السياسية والاقتصادية، بعد أن استطاعت الرأسمالية تطوير وسائل عملها. وفي ظل الواقع الجديد لم تعد الدول الكبرى معنية بالحوار مع دول الجنوب بشأن قضايا التنمية، بالرغم من عديد القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة التي اعتبرت التنمية حقا من حقوق الإنسان والشعوب، وأكدت مسؤولية الدول المتقدمة عن تعزيز جهود العالم النامي بتقديم كافة التسهيلات له لتحقيق تنميته، على أساس المساواة في السيادة، والمنافع المتبادلة، والحقوق المتكافئة.
لقد أسفرت أغلب التجارب التنموية العربية عن نتائج تناقض أهداف التنمية الحقيقيـة : مزيد من التبعية للخارج، ومزيد من التفاوت في الدخول والثروة بين الناس، وارتفاع في أسعار المواد الأساسية والخدمات ومعدلات التضخم ومعدلات البطالة، وتراجع في الأداء الاقتصادي العام، ومشكلات في الصناعة الحديثة وأسلوب نقل التكنولوجيا، وضعف الاستثمار والادخار، وعدم قدرة الإنتاج الزراعي على سد الفجوة الغذائية، ومحدودية التفاعل والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، واستمرار نزوح الأموال العربية إلى الخارج.
بينما أصبحت المديونية إحدى السمات البارزة لأقطار العالم العربي، كما باتت تشكل مصدر قلق لأغلب الأقطار العربية. وتشير المعطيات إلى أنّ إجمالي المديونية الخارجية العربية بلغت (134) مليار دولار لعام 1987، أي حوالي64.6% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية المقترضة، كما أنّ نسبة إجمالي خدمة هذا الدين بلغت حوالي 24% من إجمالي الصادرات. وقد وصلت المديونية العربية، في أواخر التسعينات، إلى 375 مليار دولار.
وهكذا، فإنّ الخلل الأساسي في مشاريع التنمية العربية، خلال عقود ما بعد نيل الاستقلال الوطني، تكمن في كونها اندرجت ضمن وظيفة الحفاظ على الكيانات القطرية بالتوازنات السياسية - الاجتماعية التي تقوم عليها السلطات الحاكمة فيها، فكانت المحصلة أن بقي المشروع التنموي العربي عبارة عن مشاريع قطرية متجاورة مستقلة بعضها عن البعض الآخر، لا تخضع لخطط تنموية عربية تتجاوز إطار القطر وتعيد تقسيم العمل فيما بينها على صعيد عربي جماعي.
وفي هذا السياق، يتحمل التيار القومي، خاصة عندما وصلت أجنحة منه إلى السلطة، مسؤولية كبرى فيما آلت إليه الأوضاع العربية. إذ أنّ غياب الديمقراطية كان العثرة الكبرى أمام تحديث الأقطار العربية، والثغرة الأساسية في عدم تقدم الأمة، وفي عدم تحقيق الاندماج الوطني لشعوبها وحريتها ووحدتها. ولعل مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها من تاريخ العالم العربي المعاصر، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ أنّ التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب الإصلاح السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع، وتمتع فعال بالحريات السياسية والفكرية.


الكاتب باحث سوري مقيم في تونس
teab@planet.tn

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف