كتَّاب إيلاف

حرس حدود

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تنشر سورية 4500 جندي لحماية حدودها مع العراق من عمليات التسلل، هذه الحماية مطلب أميركي مزمن، من أول أيام الغزو للعراق، وهو يزداد إلحاحا مع تقدم الوقت، وسورية التي كانت تردد شعارها "حدودنا مغلقة ومن لديه رأي مغاير فليأتينا بالبينات" قد تراجعت عمليا وأقرت بنشر جنودها ان الحدود بحاجة إلى المزيد من الضبط. هي خطوة سورية أخرى باتجاه إثبات حسن النوايا أمام لائحة مطالب أميركية تتوسع باطراد.

بالمقابل تتجاهل سورية زيارة توم لانتوس رئيس المجموعة الديمقراطية في البرلمان الأميركي، والذي يتحدث إلى الصحافيين وكأنه رئيس المجموعة الجمهورية وليس العكس، تتجاهل سورية ما أمكن نتائج المباحثات معه، وتقول دمشق بان مواقفه السلبية التي تعيد استعراض مطالب بلاده منها، ناتجة عن موقف انتخابي في بلاده. ولكن ورغم ذلك فان التجاهل يبدو إعلاميا أكثر منه سياسي.

بين هذا وذاك، تقف سورية أمام استحقاقات جدية، عنوانها "ليبيا او العراق"، ويقف حزب البعث (بنسخته السورية) امينا لسيرته الماضية، السير على الحافة، ولا تقديمات سياسية من دون ضمانات في استمرار النظام بالحكم، والمسألة ليست، وعلى الأرجح لم تكن، في مجموعة معطيات لا يمكن التنازل عنها، المسألة هي في المقابل المطروح.

تتراكم الملفات أمام الحكم في سورية، الضغوط الإسرائيلية ومكاتب المنظمات الفلسطينية، الحدود مع العراق، العلاقة مع السلطة العراقية القائمة، المعارضة الداخلية بأجنحتها المتعددة، الأكراد، ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية، العلاقة مع ايران وما تثيره من استياء أميركي وإسرائيلي، العلاقة مع منظمة التحرير، عزلة دمشق بين أشقائها العرب، المصاعب الاقتصادية البنيوية، دعم حزب الله، الوجود العسكري السوري في لبنان والنفوذ السياسي هناك، ومع ذلك تجد سورية الوقت الكافي لإعلان الأنباء الاقتصادية السعيدة: الاكتفاء المحلي من إنتاج الزهور والبدء بتصديره إلى الخارج.

في مقابل الملفات الجدية المتراكمة ثمة من يصر على حسم الخيارات: سورية بالتجربة والتاريخ تعلم ان هذا الإصرار قد يهدأ مع انتهاء حمى الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي بالاستناد إلى تجربة البعث في كونه الحل الوسط بين التغيير والتقليد، وانطلاقا من كون حزب البعث اتى في زمن الحاجة الغربية إلى تغييرات محدودة تمنع العالم العربي من الرحيل إلى التطرف الاشتراكي، وكون سوريا هي صاحبة حق "الملكية الفكرية" لنسخة الحزب البعث الاشتراكي الذي يمكنه التصرف بأقصى البراغماتية مع ضرب الاخرين كل الاخرين لاسباب تتعلق بالصراع مع إسرائيل والمبادئ الاشتراكية (راجع ملفات التوازن الاستراتيجي)، والذي – أي البعث - لا يحترف فقط السير على حافة الهاوية، بل أيضا إلقاء الأعباء الإضافية إلى الهاوية حين تدعو الحاجة، فان قيادته لا تبدو مضطربة بقدر ما يفترض بحكم يتعرض إلى كل تلك الضغوط من إدارة أميركية سبق ان أطاحت بنسخة، أكثر تشددا، من حزب بعث آخر.

ليس فقط منطق التاريخ القريب، ولا فقط منطق السير على الهاوية، او القدرة على التعلم والتأقلم، ولا وحدها الرهانات على الاحتمالات المائعة بين التغييرات العنفية والسريعة والاستمرار بواقع سياسي يمكنه مواصلة الترهل إلى الأبد، ولا إدخال التعديلات "خطوة خطوة"، ليس هذا وحده ما يحكم منطق سورية في التعاطي البارد نسبيا مع أزمات واستحقاقات ساخنة، ثمة أيضا القدرة على المساومة دائما على الثمن المناسب.

لا شك بان سورية تتعرض لهجوم مباشر، وبعض النظر عن استهدافات المهاجمين وخلفياتهم، الا انها تطلب ممن تعتبرهم "حلفائها" اعطائها باب الاختيار، وبالتالي التوقيع على صك موافقة على خياراتها، من دون ان تقدم لحفائها هؤلاء كشفا بالفوائد الممكنة من هذا التسليم، فعلى صعيد الموقف من العراق تطلب سوريا الكثير، ومن العديد من حلفائها اللبنانيين وغيرهم، وتعود لترسل قواتها العسكرية لحراسة الحدود، وتقدم الأمر في إطار "سلفة" إلى الأميركيين في لحظة حرجة بالنسبة لها، طبعا دون ان تقدم كشف حساب إلى الحلفاء والأصدقاء. انها سياسة "حليفي حين احتاجك" ولكنها طبعا ليست صيغة باتجاهين أي: "لست حليفي حين تحتاجني أنت". وتدافع عن نفسها وعن موقفها من العراق، الذي تحول إلى نقطة استقطاب للتوترات المحلية وللأسف، ولكنها لا تبرر تراجعها في إرسال حرس للحدود، ولا حتى لأقرب حلفائها.

سياق مشابه يظهر من خلال التعامل مع الملف اللبناني، تترك كل الخيارات مفتوحة، لا ممانعة من حيث المبدأ من إعادة وزن الحضور المسيحي إلى سابق عهده في لبنان، لا ممانعة من إطلاق سمير جعجع (قائد حزب القوات اللبنانية المحظور) من السجن، لا مانع من انتخاب رئيس جديد، ولا مانع من أي شيء، والقرار النهائي بيد سورية بفضل توكيل من حلفائها، وسورية تنتظر الثمن لأي خيار، تماما مثلما كان الحصول على الملف اللبناني وإدارته من قبلها احد اثمان دخولها الحرب ضد العراق العام 1991، كما كانت استمرارية السلطة جزء من ثمن موقف الحياد السلبي في حرب اجتياح العراق، مثلما كان اساس استلام البعث للسلطة هو ضرب الشعارات التي ينادي بها البعث بوجه القوميين العرب والشيوعيين السوريين الذين يخرجون الان من السجون لينظروا إلى كوكب جديد تماما بالنسبة لمن امضى ثلاثة عقود تحت الارض.

وفي العمق الواعي والمدرك للنظام السوري ثمة يقين بان الوقت سيمر وسينجح النظام في استعادة نفوذ بهت او كاد يضعف، وفي هذا العمق الواعي للنظام ان ذلك الوقت الذي تستقر فيه الأمور في المنطقة بصورة نسبية، وتعود المطالب السياسية لتجد منافذها العنفية في العراق او فلسطين او كلاهما (كما كانت تجدها في لبنان خلال حربه الأهلية)، سيكون اوان تصفية الحسابات مع المتشددين ومع من اظهر عصيانا، وربما مكافأة من اثبت انه حليف فعلي، وفي عمق هذا الفكر الواعي للنظام أمثلة تطال أكثر من 30 عاما مضت من التجارب بين البعث الحاكم ومعارضيه. في هذا العمق الواعي للنظام تصورات للتغيرات الممكنة في المنطقة وإدراك بقدرة ذاتية على التلاؤم معها، ومع تطور الصراع العربي الإسرائيلي، إمكانيات التفاوض التي يحتمي خلفها البعث وإدارته.

وان كانت الصيغة الشعبوية من المطالب التغييرية التي ترى في المارينز حلا سريعا لكل المشكلات، ثم ترى في رحيل المارينز حلا نهائيا لكل المشكلات، وبعدها سترى في الانفصال حلا جذريا لكل المشكلات، ان كانت هذه الصيغة تشبه الفكر الشمولي الذي يقدمه البعث في أدبياته، فانها في النهاية لن تقدم الا أراضي محروقة كما يحصل في العراق، وهو ما يعرفه النظام السوري جيدا ويمتاز بالحنكة اللازمة لتجنبه، ولتظهيره لمعارضيه ولخصومه الدوليين، مقدما بالتالي نموذجه للبدائل "السعر المناسب للتغييرات المناسبة" وكل شيء عرضة للتفاوض، مستندا طبعا إلى قدرة عالية على المناورة.

ولكن حتى اعرق التجار يفسدون اكبر الصفقات بأخطاء في فهم مطالب الزبائن وحاجاتهم الفعلية، فهل المطلوب مجموعة من الإضافات على السلعة نفسها، ام المطلوب هو سلعة أخرى مختلفة، وفي انتظار ذلك يمكن مواصلة تصدير الزهور إلى أوروبا وإرسال حرس حدود لمصلحة من لم يتمكن من تنظيم السير في النجف ومدينة الصدر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف