كتَّاب إيلاف

بمناسبة رحيل المٌعـلّم فائق حمد مؤخراً

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ربما لا يعرف الكثيرون "فائق حمد": المعلم والتربوي بامتياز، الذي آلمنا رحيله قبل فترة وجيزة؛ ذلك لان هذا الانسان المتنور، الزاهد والمتواضع، ظل بعيدا عن دوائر ضوء الشهرة والاعلام، حاله حال الاف من امثاله: الرجال الوطنيين المخلصين الاكفاء، الذين تفخر البلاد بهم وبانجازاتهم، قانعا ومكتفيا بعمله المميّز: الانساني والحضاري في آن: معلم الارياف العتيد!
اذ منح هذا الانسان جهده الفائق، وعمله المثابر لمهنته التعليمية التى كرّس لها حياته باكملها: معلما ناشرا للمعرفة، ومروجا للثقافة، وداعيا للحكمة وحصافة الرأي في اوساط اجتماعية معينة، احس بفطرته الانسانية انها بداخلها تواقة للعلم والمعرفة، ومتطلعة لتغيير واقعها البائس المزري.

انخرط " فائق حمد " منذ البداية في المشروع التنويري الذي اقترحه التربوي lt; صادق البصام gt; لوزارة المعارف حينذاك في بداية الاربعينات من القرن الماضي، بوجوب اعداد " معلمين اساسين "، تكون مهمتهم العمل في الارياف والقرى النائية، بغية التعجيل في ازالة ومحوالامية، تلك الافة التى بسببها لا يمكن باي حال من الاحوال الكلام عن تقدم بلد، او نهضة امة. وفي حينها أُقترح من اجل النهوض بتلك المهام، التعجيل في تأسيس " دور المعلمين الريفية " في مناطق مختلفة من العراق، يكون هدفها ومبتغاها تأهيل خريجي المدارس الابتدائية البالغين، من خلال تعريضهم لدروس نظرية وعملية، مكثفة ومتنوعة كفيلة بمنحهم اساسيات واصول العملية التربوية وتعريفهم على طرق ازالة الامية واساليب التعليم الاولي. وهكذا تم تأسيس " دار المعلمين الريفية " في كل من ابي غريب والزعفرانية، وهما منطقتان زراعيتان كانتا في حينها نموذجتين.
بعد تخرجه مباشرة من دار المعلمين الريفية في ابي غريب، في منتصف الاربعينات، باشر " فائق حمد " عمله معلما في الارياف النائية " بالصويرة " التابعة لـ" لواء " الكوت. لم تكن مهمته بسيطة، كما لم تكن واضحة ؛ بيد انه كان ينبغي عليه ان يجتهد ليوظف معلوماته البسيطة المكتسبة سابقاً وتحويلها الى عمل تربوي فعلي ومؤثر.
وقتذاك، في الاربعينات لم تكن ثمة ابنية خاصة تشغلها المدارس الريفية ؛ كان هناك تجميع عشوائي لفضاءات معمولة بمواد انشائية بسيطة، تختلف " فورمات " تشكيلاتها من قرية الى اخرى. بالطبع، لم تكن تلك " المنشاءات " المتواضعة مزودة لا بالماء ولا بالكهرباء، ولا باي نوع من الخدمات الضرورية الاخرى التى يفترض حضورها ليتم انجاز حسن عمل العملية التدريسية واداءها. ورغم وجود تلك " النواقص " الكثيرة فقد كان المناخ التعليمي في تلك " المدارس " في الاغلب الاعم، مناخاً تربويا صحياً وحيوياً وسليما ً، يغذيه ويديمه الاحساس العميق بالمسئولية المهنية والواجب الوطني، ذلك الاحساس النبيل الذي رفع لواءه عاليا المعلمون المشروفون على اعداد وتطبيق المنهاج التربوي الخاص بتعليم اطفال الارياف.
شعر " فائق حمد " منذ البداية ان مهنته الجديدة، عدا كونها مصدراً لتوفيربعض حاجاته المعاشية وتلبية متطلباتها، فانها في جانب اخر بمقدورها ان تمنحه شعورا باهمية وخصوصية المهنة التى يمارسها، وهي نقل المعرفة lt; ضالة المؤمن، كما توصف gt; الى اطفال جلهّم تواق لتحصيلها وبلوغها، كما اعطته امكانية متابعة نتائج ذلك النقل المعرفي في احداث تغييرات جذرية وملموسة في ذهنية وسلوكية تلاميذه الصغار.
في ظلال طبيعة العمل التعليمي ذاك، وصعوباته العديدة، لم يكن سهلاً التغاضي عن ظهور عقبات وعراقيل كثيرة اكتنفت سير العملية التعليمية ؛ فليس كل المعلمين مستعدين لمثل تلك التضحيات، كما لم يكن كلهم مدركاً وحتى مقتنعاُ باهمية الدور التربوي الذي يؤدوه. وفي غياب اية محفزات مادية او معنوية، كان استمرار العمل في المدارس الريفية والديمومة عليه يمثل مأثرة حقيقة، لكنها مأثرة لا احد يقدّرها، كما لا احد مهتم بها. لكن " فائقاً " وبعض زملائه المتنورين وعّوا طبيعة العمل الذي عهد اليهم، العمل الذي بمقدوره ان ينقل المرء من الظلمات الى النور، من عتمة واسر الامية الى رحاب المعرفة، وعمادها القدرة على القراءة! ولعل هذا الهاجس الادراكي لطبيعة شغله هو الذي يفسر لنا ذلك التماهي بين الرجل ومهنته، تماهِ وتطابق ظلا متلازمين ومتحدين طويلا، وبات يعرف بهما الواحد الاخر: " فائق " -المعلم ؛ و" المعلم " – فائق!

لم يقتصر عمل " المعلم فائق " lt; او كما يحلو لاصدقائه ومعارفه ان يدعوه بـ " الملا "، حبا واحتراماً لعمله مع الصغار gt; ؛ لم يقتصر على اداء واجبه التعليمي، بمجرد انتهاء الدوام الرسمي في المدرسة التى يعمل فيها، كان عليه ان يثبت الى جميع المتشككيين بعمله ووظيفته lt; وما اكثرهم ابان تلك الحقب الزمنية البعيدة، زمن سيطرة الجهل وانتشار الامية gt; ؛ ان يثبت لهم صدقية واجبه التنويري كمعلم، وكقدوة، وكمرشد نحو رحاب عالم آخر مغاير تماما عن عالمهم المثقل بالظلم والظلام، عالم يعج مناخه بالمعارف المتنوعة، وينعم افراده بمزايا البيئات الصحية التى يوفرها، ويمنح شخوصه خيرات وعطاء نتائج التقدم العلمي وثماره. ولهذا فقد انتقل بسكناه مع عائلته الى اعماق الريف، حيث تقع مدارسه العديدة، يزور اماكن تجمعات الريفيين: اباء تلامذته الصغار، مفسراً لهم اهمية التعليم ودوره في حياة مستقبل ابناءهم، ومشجعا قرارهم الحصيف بوجوب ارسال اولادهم: بنينهم وبناتهم الى مدرسته.
كان يؤمن بان زياراته العديدة واحاديثه الشخصية مع القرويين، وايجاد آليات التواصل معهم، يمليها واجبه الوطني والانساني، اكثر بكثير من كونها نابعة من استحقاقات السلوك الوظيفي ومتطلباته، فقد كان يعتبر نفسه جزءا من المشروع الثقافي والحضاري، الذي تعرف على بعض جوانبه اثناء دراسته في " دار المعلمين الريفية " ؛ ذلك المشروع الذي طبع شخصيته بطابع خاص، وبات تحقيق اهدافه يمثل لديه، امرا لازماً ومشروعاً. كما كان يدرك ايضاً، بان سلوكه الشخصي ونهج تعامله مع تلاميذته وطريقة تعاطيه مع الاخرين، وحتى اسلوب اختيارمفردات كلامه وكيفية النطق بها، ستكون " موضوعا " لاهتمام طلابه والقرويين المحيطين به ؛ ولهذا فقد ارتقى، كممثل ومروج وداعِ لمدونات ثقافية وحضارية تقدمية مغايرة، ارتقى بمظهره وملبسه وحديثه الى مستوى من السلوك العالي، يتماثل مستواه مع نوعية القيم والمبادئ السامية التى يطمح الى تحقيقها.
ويتذكر فلاحو " البدعة " و " الجوز " و " الزبيدية "، وغير ذلك من القرى والقصبات التى عمل في مدارسها " فائق حمد "، يتذكرون هيئته المميزة واناقة ملبسه ونظافتها، والشكل " الحداثي " لربطة عنقه المعبرة ؛ فضلا على طريقة كلامه الهادئة والواضحة والمقنعة التى تشي مفرداتها عن صدقية واخلاص عميقين!

كان " فائق حمد "، وهو الذي عمل سنين كثيرة في الارياف، يشعر بانه منتمي الى " المدينة "، واجواءها وذهنيتها ؛ ولم ينجر تحت وطأة التقاليد المألوفة والاعراف السائدة الى سلوكية الريفي، المعطل الارادة والقانع بسلبية، لمصيره المأساوي. كان يعد نفسه مبعوثا لقيم وسلوكية المدينة – الحاضرة، المسكون بهاجس التغيير والطامح الى التقدم والحريص في توظيف ثمار النجاحات العلمية والتكنولوجية، والتائق لجعلها جزءا من صميم وسائل حياته المعاشية، وما يصاحب ذلك من تفتح فكري واهتمام عالِ في الثقافة والتمتع بنعم انجازاتها. اي انه سعى وراء حضوره المميّز في البيئة الريفية، ان يستذكر الاخرون من خلاله مزايا المشهد الحضري، وان يتعرفوا على افضليات ذلك المشهد، ويتلمسوا انجازاته الحقيقية، بعبارة اخرى، حرص " فائق حمد " بسلوكيته المدينية، ذات الَنفَس " المتروبوليتاني " العميق ان يجسّد احسن ما يمكن ان يتصف به سكنة الحواضرالكبرى، وما يتميزون به من ثقافات رفيعة.
ومع ان الحياة في الارياف والعمل فيها lt; ولاسيما ارياف الاربعينات والخمسينات gt; لم يكن شأناً مغريا، كما لم يكن امراً سهلا اطلاقاً ؛ فقد داوم " فائق حمد " في وظيفته، واستمر يعمل معلماً ومديراً لمدارس الارياف لسنين عديدة ؛ رغم انه حصل ضمن معيار التدرج الوظيفي، على عشرة اضعاف النقاط الادارية التى تتيح له الانتقال بسهولة الى المدينة. لقد وجد في عمله الريفي: كمعلم وتربوي مناسبة لتحقيق مشروع حضاري وانساني معاً، مشروع يتصادى ويتناغم مع طبيعة رسالته الوطنية في رؤية بلده – العراق، بلدا متقدماً، ينعم بالرفاهية، ويستمتع سكانه من الريف والحضر بخيراته الكثيرة.

ربما يرى البعض في الكتابة، الان، عن مناقب " معلم ريفي " ترفاً ثقافياً، واهتماما ً في غير زمانه ومكانه،لا يتلاءم موضوعه مع ما يحدث الان في العراق من رؤية دوران " دولاب الدم في بغداد " وفقا لتعبير مظفر النواب، وهو يزهق الارواح، ويقضي على الابرياء، او من متابعة مشاهد القتل المجاني واستلاب حقوق الغير بدون وجه حق، وغير ذلك من الموبقات الرذيلة التى تطالعنا اخبارها ليل نهار. لكننا نعي بان اثار الخراب التام والدمار الشامل اللذين لحقا بالبلد وبرجاله وتطلعاته وآماله، من قبل الحكم الصدامي المقيت ودكتاتوريته المفزعة ونهجه التوتاليتاري البغيض، هي المسؤولة مسئولية تامة عن اختفاء ظاهرة " فائق حمد " وامثاله وتغيبهم من مشهد الحياة الادارية والثقافية.؛ الامر الذي فتح الباب واسعاً امام قوى الردة والرذيلة والاجرام لتستفيد وتستعيد " مناخات " البيئة الاجرامية التى سبق وان رعاها ووفر ارضيتها وساهم في انتشارها النظام البائد. لقد اعطت أجراءات الافساد والازاحة والهدم المبرمج، على مدى عشرات السنين، التي دأب عليها نظام حكم البعثين المدان نتائجها المرعبة و " ثمارها " المحرمة في تقويض ذلك الارث الفياض والكريم، والعمل على اتلاف وازالة تلك الجهود الخارقة والخيرة التي بذلها " فائق حمد " والالاف من امثاله: الرجال والنساء الزاهدين، والمتواضعين والحضاريين، المخلصين، ناكري ذاتهم من اجل تقدم بلدهم وازدهاره. ان حصيلة سلوكيات تلك العمليات الوحشية وعواقب الاجراءات الفاسدة، هي التى اوصلتنا الى مثل هذه الحالة التى نمّر بها الان : غياب تام بالاحساس لمواضيع الهمّ الوطني، وحضور وقح لقوى الظلام والعبثية.

كتب مرة، " ادورد سعيد " عن دور المثقف قائلا (.. اريد ان اشدد على ان المثقف فرد له دوره العمومي المحدد في المجتمع، والذي لا يمكن اختزاله ببساطة الى وظيفة لا وجه لها، الى مجرد فرد مختص منشغل تماما بعمله. ان الحقيقة المركزية بالنسبة الىّ كما أظن، هي ان المثقف فرد منح قدره على تمثيل رسالة او وجهة نظر او موقف او فلسفة او رأي، وتجسيدها والنطق بها امام جمهور معين ومن اجله. )
اعتقد اننا لو ابدلنا كلمة " مثقف " في مقولة " ادورد سعيد " بـ lt; المعلم، كالمعلم فائق gt; فان الخطاب " الادواردوي " يظل يحتفظ بمعناه تماما ؛
هذا، في الاقـل، مااراه.. انا!

وداعا ايها الرجل النبيل،
وداعا ايها.. المعلم


مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
كوبنهاغن- الدانمرك

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف