غياب العقل العربي والأوراق المنسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في مقال بعنوان، الحلقة المفرغة (ايلاف 6/8/2004) كنت قد تحدثت عن حالة التوهان والهذيان التي أصبحنا نعيشها كأمة عربية واسلامية منذ أن استولى على إعلامنا الإسلاميون والقوميون الذين لم يسمحوا لأحد غيرهم بالحديث. وقلت في ذلك المقال بأن الرجل الذي وقف أمام هتافياتهم الجوفاء اسكتوه بان كفروه أو أتهمونه بالشيوعية، وقلنا في آخر المقال بان للكلام بقية لان الرجل قد عاود الإرسال وبدأ الكلام. هذا الرجل وامثاله من الذين سكتوا أو أسكتناهم كثيرا بجب أن يـُفتح لهم المجال للحديث علهم يستطيعون إخراجنا من النفق المظلم الذي أدخلنا فيه من احتكروا الحديث باسمنا طيلة العقود الماضية. هذا الرجل يستحق تسليط الضوء عليه وعلى امثاله وهذا ما سوف افعله. واليكم قصته : هو جاري الدكتور ( فلان الفرتكاني ) ـ وهـذا هو اسمه الذي عرفته فيما بعـــد ـ وهو رجل غريب الأطوار بمعنى الكلمة، هذا ما عرفته من الجيران الذين سبقوني إلى مجاورته، فقــد سمعت من هؤلاء الجيران بأنه رجل لا صلة له بالحياة من حوله، فهـو ليست له علاقات جــوار ولا يتحدث إلى الناس إلا ما ندر، وذلك لا يعدو إلقاء التحية أو الرد عليها باقتضاب، وعرفت عنه أيضا انه قليلا ما يُرى خارج منزله وقليلا ما يُسمع صوته داخل منزله، حتى أطفاله وزوجته لهم علاقات محدودة جدا مع الجيران. كان لا يخرج من بيته ويعــود في أوقات محـددة كما يفعل جميع البشر حين الذهاب إلى العمل والعودة منه، وهذا يعني أنه ليس له عمل. عرفت أيضا انه لا يتفاعل مع الأحداث الجارية ولا يناقش فيها أحدا وبالتالي لا أحد يعرف رأيه فيما يجري. عندما سمعت عنه كل ذلك، وبفضوليتي المترامية الأطراف، قررت أن لا اتركه في شأنه أبدا وألزمت نفسي بمحاولة ســبر أغواره، خاصة وان أول ما تبادر إلى ذهني بعد معرفة سلوكه و تصرفاته، هو انه قد يكون عميلا لإحدى المخابرات الأجنبية ولا يُستبعد أن تكون المخابرات الصهيونية، وهــذه الفكرة بالذات هي التي جعلتني أطلب إجازة، من عملي، بدون راتب لكي أتفرّغ لمهمة كشفه (وهنا مارست حقي كاملا، كعربي ومسلم، وهو الجري وراء المؤامرة حتى النفس الأخير خاصة إذا وردت معها كلمة الصهيونية). بعد التفرغ طفقت أراقبه ـ في الطالعة والنازلة ـ صباح مساء، ولعدة أيام.
من تلك المراقبة التجـسـسـيـة عليه عرفت انه يخرج كل يوم في الصباح الباكر ويذهــب إلى بعض المكتـــبات ليشتري بعض الصُحف والمجلات التي غالبا ما هي أجنبية ويعـــود بها إلى داره. أيضا أدت مراقبتي التصنتية عليه إلى معرفة انه دائما يستمع للقنوات الأجنبية فقط ولم يؤدي ذلك التصنت إلى سماع أي قناة عربية. كل هــذا أكد شكوكي بأنه عميل لا محالة. بعد عدة أيام من المراقبة والمــتابعة قررت أن اقتحــــمه، فكان أن قابلته ذات صباح وألقيت عليه التحية التي ردّ عليها باقتضاب، وسألته عن أسمه، فسألني ناهرا: ماذا تريد بأسمى؟ قلت له أننا جيران ويجب أن يعرف بعضنا البعض، وذكرت له اسمي فأجابني قائلا بان اسمه هو الدكتور( فلان الفرتكاني)، سألته دكتور في ماذا؟ فكان رده : مـُش شغلك. كانت هــــذه بداية غير مشجعة أصابتني ببعض الإحباط لكنها لم تثنني عن متابعة الموضوع، فبعد يومين من ذلك قابلته وسألته دون تحية : لماذا يا دكتور فلان هذا الصمت و(الطناش) من جانبك وأنت ترى العالم العربي يحترق ومعه العالم الإسلامي؟ لكنه لم يجب، بل سألني وما رأيك أنت في سبب هذا الاحتراق والاشتعال؟ أجبته بلا تردد قائلا: بأننا نحن السبب في كل هذا بصمتنا وعزوفنا وهـــروبنا من حلبة الأحداث. ما أن سمع ذلك حتى تحوّل وجهه المحنط إلى وجهٍ تدب فيه الحياة، وإذا به يُغيِّر وجهته ويرجع ناحية شقته ممسكا بيدي داعيا للدخول. أدخلني في صالو نه الذي وجدته أقرب إلى المكتبة منه إلى الصالون حيث تناثرت الكتب على الأرفف والترابيز، وأيضا الصحف والمجلات، وعلى مكتبه تناثرت الأوراق وأدوات الكتابة. هذا المنظر جعل فكرة أخرى تطرق ذهني غير فكرة العمالة، وهي انه قد يكون أحد مفكرينا أو محللينناـ الذين كنت قــــد كتبت عـنهم منذ فترة(ايلاف 30/7/2004) ـ هؤلاء الذين يزعمون بأنهم يفكرون في كل شئ ويحـلـلـون كل شئ ويعرفون عـن كل شئ، ولكن في الواقع النتيجة لا شئ.. في كل بينما كنت في هذه الدوامة من التفكير طلب مني الجلوس وكان أول سؤال فاجأني به هو: هل أنت من المثقفين؟. احترت في الإجابة لأنني لا اعرف من هم هؤلاء المثقفين وبالتالي لا اعرف ما إذا كنت انتمي إليهم أم لا، لذا لزمت الصمت خوفا من الإدلاء بإجابة خاطئة، كأن ازعم بأنني انتمي إليهم وتكون هذه إجابة خاطئة، أو ازعم بأنني لا انتمي إليهم وتكون الحقيقة هي أنني منهم، وأنا مش عارف ! لذا لم اجب على سؤاله، بل سألته وهل أنت منهم؟ فأفادني بأنه صار يكره هذه التسمية ويرفضها جملة وتفصيلا بعد أن فقدت تعريفها وفحواها واصبحت ترمز للغوغاء والدهاء، وعلى الرغم من أنني لا أعرف معنى الكلمتين الأخيرتين إلا أنني أمـَّنـْت على كلامه بهزة من الرأس. وكان سؤاله الآخر هو : لماذا قلت بأننا تسببنا في كل ما يجري لنا؟ واضاف دون انتظار إجابة مني بان هذا الكلام هو ما نفتقده في حياتنا، أي الاعتراف بأننا السبب المباشر في كل المصائب التي تلم بنا ، وكلامك هذا هو الذي جعلني أدعوك إلى منزلي لانه يبدو انك ثمرة قد تكون صالحة ويمكن محاولة غرسها لعل وعسى. وهو يقول ذلك ناولني ملفا ضخما وطلب مني الاطلاع عليه.
وللكلام بقية لنتصفح هذه الأوراق المنسية.