الاتجاه المعاكس يعكس الاتجاه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا بأس كما نترصد السلبيات ونكشفها للملأ، أن نرصد الإيجابيات أو حتى بوادرها التي تبزغ ولو على استحياء، أعني هنا ما أتصوره اكتساب برنامج قناة الجزيرة الشهير "الاتجاه المعاكس" لحالة حياد واتزان موضوعي، بدأت فيما أعتقد بعد الحلقة المأساوية عن الليبراليين الجدد، والتي استضافت العالم الدكتور شاكر النابلسي، في مواجهة أحد الصناديد النشامى، أبطال النضال الحنجوري، المصممين على المضي في طريق الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، إلى آخر قطرة دم، وآخر جثة لشبابنا المنكوب بمحرضيه، ولم تكن هبة كتاب إيلاف الذين تصدوا لفضح ما حدث في تلك الحلقة المهزلة، اعتراضاً منهم على اختيار تلك الشخصية الحنجورية لمواجهة عالم رصين مثل الدكتور شاكر النابلسي، وإنما على عدم إعطاء الاتجاه العقلاني الفرصة ليعبر عن نفسه، والانحياز للطرف الذي لا يتقن إلا عبارات التخوين والمقولات القومجية التي تقددت أو تعفنت من تكرار مضغها وتقيؤها، ولا شك أن هذا الأداء متسق مع توجهات قناة الجزيرة بوجه عام، وهو التركيز على دغدغة أحط ما في مشاعر الجماهير المتحدثة بالعربية من غرائز، مهما جلب عليها ذلك من نكبات تتوالى مسلسلاتها، من فلسطين إلى أفغانستان إلى العراق، في دائرة جهنمية لا يبدو لها نهاية.
لكن بعد تلك الحلقة خيل إلى أن البرنامج الشهير قد تعلم درساً، فبدا التوازن الحيادي في مناقشة ما يتعرض له من قضايا، وكلها مما يشغل أو ينشغل بها الجماهير، وآخرها حلقة الثلاثاء 24/8/2004 ، والتي تعرضت لقضية فلسطين واتخاذها من قبل الأنظمة الحاكمة كحجة لمناهضة كل دعوات الإصلاح، تحت شعار لا صوت يعلو على صوت فلسطين، على غرار الشعار الناصري "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، والذي ابتدعه عبد الناصر أو أحد زبانيته، ليظل جاثماً على جثث المصريين وجثث أمته العربية الواحدة، أو بالأحرى أشلائها، التي بددتها ما يسميه الصناديد إسرائيل المزعومة، وظل زعيم الأمة الملهم متربعاً على كرسيه، تحت ظلال شعاره الميمون، إلى أن توفاه الله ورحمنا، وعسى أن يرحمه.
واستضاف البرنامج كعادته قطبين متنافرين، أحدهما د. عبد الرزاق عيد، كممثل للتيار التنويري التحديثي المطالب بالإصلاح الشامل والفوري بلا تلكؤ أو مماحكة، في مواجهة أحد رموز النضال الميكروفوني، مسلحاً بترسانة من الشعارات والمقولات المفتضحة بالزيف والمكللة بالهزيمة، التي تجثم معالمها فوق صدور شعوبنا المبتلاة بمناضليها وصفوتها، الغارقة في مستنقع الجهل والعداء للإنسانية ولكل ما هو متحضر وجدير بالاقتداء.
لكن الجدير بالتسجيل والرصد هنا، أن المناقشة كانت هادئة بلا إثارة أو تحريض، وأعطيت الفرصة كاملة لكل طرف ليعبر عن نفسه بقدر الموضوعية الذي يستطيعه، كما كانت المداخلات المرتبة عبر التليفون منتقاة بعناية وحياد لتتوزع بين الاتجاهين، وقد انعكس ذلك على نتيجة التصويت على السؤال التقليدي للبرنامج، فكان في صالح الاتجاه المطالب بالتغيير وعدم اتخاذ قضية فلسطين كعقبة كأداء أمام السعي للإصلاح، رغم تحفظنا الدائم على طريقة صياغة أسئلة برامج الجزيرة، وتحفظنا على نوعية جمهورها والمدلين بأصواتهم في استفتاءاتها.
وبعد الإشادة بما نتصوره – ونرجو أن نكون على صواب- تطوراً ملموساً نحو الموضوعية في أداء برنامج "الاتجاه المعاكس"، يمكن لنا أن نتساءل إن كان ما رصدناه يرجع لعوامل خاصة بهذا البرنامج وحده، أم هو جزء من تيار يمكن أن يسري في جسد هذا الكيان الإعلامي القوي، وهل يرجع ذلك لأسباب داخلية أم ضغوط خارجية، جرياً على عادة مثقفينا الأشاوس، مع التحفظ على ما درجنا عليه من اعتبار الضغوط الخارجية رجس من عمل الشيطان، ومؤامرة صهيونية إمبريالية على أمتنا وهويتنا؟!
لا أكتمكم سراً، أنني بعد مداخلتي التليفونية القصيرة في هذه الحلقة، أغمضت عيني وحلمت لو أننا استيقظنا ذات صباح ووجدنا أن قناة الجزيرة قد هجرت الإثارة والتحريض على القتل والكراهية والعداء لكل ما هو غربي ومتحضر، وعافت شعارات ومقولات العروبة البائدة والمتعفنة، وتبنت في المقابل قضية التحديث والتنوير، قضية المصالحة مع أنفسنا ومع الإنسانية والحضارة، تبنت البحث عن حلول لمشاكلنا وخلافاتنا مع الآخر - الغربي والأمريكي والإسرائيلي- بغير طريق السباب واللعنات والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، لو تبنت قناة الجزيرة أبطالاً تجيش وراءهم الجماهير غير صدام وبن لادن والصبي الغر مقتدى الصدر، أبطالاً من عينة أحمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب ونجيب محفوظ، لو حدث وفعلت قناة الجزيرة ذلك، ماذا سيكون حجم تأثيرها في دفع قضية الإصلاح إلى الأمام في شعوب تغلب عليها الأمية، والوسيلة الأكثر فعالية للتأثير فيها هي الصوت والصورة؟!!
يمكن لليبراليين أن يحلموا، وأن يظلوا قابعين على تكاياهم أو أمام أجهزة الكمبيوتر يدبجون عليها مقالات التمني مثل هذا المقال، وأن يظلوا في انتظار معجزة تحقق لهم حلمهم، الذي من المحتمل أن لا يتحقق أبدأً، كما يمكن لهم أن يتكاتفوا، ليكون لهم قناة تلفزيونية تتبنى قضايا الأوطان الحقيقية، قناة تغرس الأمل وحب الحياة، لا قنوات تحرض على الموت شفاء لغليل الموتورين.
kghobrial@hotmail.com