رحيل حسين قدوري
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عام 1966 إخترناه ليعزف جملة موسيقية على آلة (الجلو) في ستوديو هاماز في طريق بغداد الجديدة لنهاية فيلم الحارس، حسين قدوري .. ذلك الأسمر بضحكته الطفلة وتواضعه الجميل. وبقي يؤدي عزفا رباعيا ويظهر في التلفزيون يقدم مع الرباعي المقطوعات الموسيقية وينتج موسيقى لمسلسات ويعمل على البحث في التراث .. قبل أيام ليست كثيرة شاهدته في التلفزيون يتحدث عن التراث الموسيقي وعن الأهازيج الشعبية في المناسبات، وكان يبحث فيها ويعيد موسقتها. اليوم الأربعاء الثاني من أبريل عام 2005 وفي أول الصباح تلقيت نبأ رحيله عن عمر يناهز السبعين.
رحل حسين قدوري بخبر في صحيفة أو بدون خبر أو في زاوية من صحيفة أو بدونها وسيدفن وأصحابه قد لا يستطيعون الوصول لحمل جثمانه نحو مثواه الأخير .. وسوف لن يسمع الناس صوت المشيعين (لا إله إلا الله .. محمد يا رسول الله) لأن صوت المدافع يدوي عاليا وصوت الإنفجارات يغطي على صوت الحكمة .. أن الإنسان يموت في النهاية فقيرا عاش أم غنيا لصا أم شريفا وطنيا أم خائنا .. سيرحل الإنسان تاركا وراءه الخير أو الشر الرحمة أو اللا رحمة، أن يترك أولاده يمشون مرفوعي الرأس يفتخرون بأب أحب الناس وأحب الوطن أو يمشون خجلين من إسم والدهم .. هنا تكمن حكمة الحياة والموت.
الحياة مشوار إنجاز وجدل العلاقة بين الخلود والفناء، الخلود ليس بجسد الإنسان الذي يوارى التراب في النهاية والخوف من الفناء، إنما بصوت موسيقي بإنجاز ينظف الماء والتربة من الإشعاع، بقصيدة شعر تنبه الإنسان وتختصر له المسافة والمعاناة، بقصة بمسرحية بصورة بلوحة، بحكمة مثل حكمة سدوري صاحبة الحان لكلكامش عندما جاءها على إثر موت صديقه إنكيدو فقالت له:
(إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
إذ لما خلقت الآلهة البشر، قدرت الموت على البشرية
وإستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فأجعل كرشك مملوءا
وكن فرحا مبتهجا ليل نهار
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وأرقص وألعب ليل نهار
وأجعل ثيابك نظيفة زاهية
وأغسل رأسك وإستحم في الماء
ودلل الطفل الذي يمسك بيدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشر)
….
….
هذه الحكمة لم يسمعها العراقيون ولا قرأها الأميون الذي حكموا أو قد يحكمون، هذه الحكمة لم يسمعها الذين نهبوا الخبز والفرح من عيون الأطفال .. هذه حكمة جلجامش وقد قالها مهندس الأسطورة على لسان شخوصه في بلاد ما بين النهرين حيث نشأت الحضارات.
بسبب هذا العمى الإنساني والفكري والجمالي لمن حكموا ولمن قد يحكمون العراق يقود إلى خسارات جسيمة في مجتمعنا العراقي الذي أفتقد وسيفتقد إلى الإستقرار بالضرورة الواقعية لمدى قد يكون منظورا وقد لا يكون منظورا .. ذلك رهين بحكمة أهل العراق ومدى حبهم للأرض والوطن والتأريخ.
يأتي رحيل الموسيقي الطيب والمنتج المبدع حسين قدوري مع رحيل قسري لعدد غير قليل من كفاءات العراق في الثقافة والعلم .. موت بتصفية حسابات .. موت لفقدان حبة دواء .. موت بسبب الأمراض المتفشية .. موت من جوع .. موت برصاص طائش .. أسماء تعرف وأسماء لا تعرف .. ومن عرف ممن يشكلون المثل في وجدان الناس فإنه يرحل بصمت مثل رحيل حسين قدوري حتى دون أن يسمع الناس نداء المشيعين (لا إله الا الله .. محمد يا رسول الله) ، أو لا يسمع الناس جرس الكنيسة وسط دوي المدافع.
لقد أتكأ الحارس على كتف حسين قدوري في موسيقى نهاية الفيلم وإتكأت أنا على كتفه لإنجاز حلمي الصغير مذ كنت يافعا في أول حلم سينمائي أنجزته وكان علي الآن أن أرد له الصنيع الجميل فيتكئ هو على كتفي وهو نائم تلك النومة الأبدية تبقى موسيقاه نغما للحياة وليس نغما للموت ..
سامحني أخي حسين قدوري .. فأنا لا أزال بعيدا عن الوطن!
كاتب المقال مخرج سينمائي عراقي مقيم في هولندا