كتَّاب إيلاف

ظلمة الزمن وأزمة النص

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الزمن يمر في افق حياة الانسان من خلال (ماضيه وحاضرة ومستقبله)، كمسيرة تبدو كخط طويل ضيق من طرفيه ووسط متسع محيطه، بمعنى، يمتد الزمن كخط مستقيم من طرف (ماضي) الانسان الضيق الى طرفه (المستقبل) الاخر الضيق، مرورا بوسطه المتسع اي (زمنه الحاضر) ويتضح ذلك من خلال احساس المرء بالابعاد الحياتية الاربعة (طول، عرض، ارتفاع، زمن) المصاحبة لحالة اليقظة والواقع الحي المُشاهد، فيتخلل تلك المشاهدة الواقعية للفرد: الوعي، الادراك، معرفة الوقت والمكان والاتجاه، في فضاء ثلاثي الابعاد. وبتعبير توضيحي أخر، اذا ما، افاق المرء وفتح عينيه او ارتد اليه وعيه بعد نوم او غيره، ونظر حوله، وجد متنفس ومتسع محيط الحاضر ليشعر ببهوه وزهوه، واذا ما استرد ذكريات الماضي، وجده ضيقا تتقافز في خطه الضيق الصور المسترجعة في الذاكرة، وكذلك الامر عندما يتطلع المرء نحو المستقبل، اذ، لايختلف كثيرا عن ضيق وعتمة الماضي وقفزات صور تستشرف المستقبل في الذهن. وقياسا على هذه السنة (وجمعها سنن) الطبيعية الملموسة، تقسم الشواهد والاحداث على مرّ التاريخ الانساني وحتى اللحظة المعاصرة، بناء على نماذج مدونة ومتنقلة وبالتالي متوارثة، يستجرها الانسان عبر الاجيال من خلال الموروثات الثقافية والحضارية، فالانسان الذي يعيش الحاضر او الزمن المعاصر، يُقيم الاحداث والافعال بقياس السنة الطبيعية الملموسة -سابقة الذكر- من خلال فضائه ومحيطه المتسع في (زمنه الحاضر) وبما يمتلكه الفرد من عناصر طبيعية مؤهلة لاتمام عملية التقييم، وهي: الوعي بـ(الحدث)، ادراك الحدث، معرفة وقت الحدث وكذلك مكان واتجاه الحدث. وهذه العناصر الطبيعية لم يعد يمتلكها انسان (الماضي) ولم يعد يُقيم من خلالها الاحداث، لانه بديهيئا اصبح بحكم الفاني او الميت بالنسبة الى انسان الزمن (الحاضر) الحي، ولايمتلكها كذلك انسان (المستقبل)، لانه بحكم الغير موجود. وانما من يمتلك ادوات تقييم الاحداث، فقط هو انسان الحاضر او المعاصر المسيطر على مقاليد الامور. واذا اضيفت ميزات لهذه العناصر الطبيعية الثابتة الملموسة لانسان الحاضر مثل: أولا، ميزة الامكانيات الخلاقة التكنولوجية، القادرة على التقاط وتواصل الاحداث والاخبار وعرضها على الهواء مباشرة وتعميمها على سكان الارض. ثانيا، امتلاك المقدرة على فن التوثيق والتدقيق للاحداث بالتدوين بالكتابة والصوت والصورة. يكون بذلك قد تفوق انسان الحاضر المعاصر، على غيره من انسان الازمنة الغابرة، بفضل مجموعة المميزات التكنولوجية الخلاقة المتنوعة التي خلقتها الحضارة الانسانية العظيمة، وهذا مايميز كل حضارة عن سابقاتها بمدى مقدرتها المعرفية العلمية والتكنولوجية والتطور المعلوماتي. ونستنتج من ذلك، ان كل انسان وليد لحظته يصبح اقدر وافضل تحكما من انسان غادر او مضى. ففي الزمن الماضي، عندما كان يبرق (حدث) ما، وليد لحظته، في منطقة ما، من العالم، فان من يعلم بهذا الحدث وتفاصيله، ثلة من كان في محيط الحدث او بالقرب منه، ولوصول معلومة هذا الحدث الى بقية المناطق في البلدة الواحدة يتطلب الامر عدة ايام او شهور اذا كان البلد ذو مساحة كبيرة، ناهيك عن بلدان الجوار وبلدان اخرى بعيدة، مما يؤثر على نقل المعلومة وناقلها ونزاهة الخبر وتحليلاته، فضلا عن من عايش الخبر بحكم القرب منه، اصبح يعايش احداثا اخرى وتقييمات معمقة لها، متجاوزين الحدث القديم بتبعاته المصاحبة، بينما يظل من وصلهم الخبر او الحدث يعيشون جوا من التفاعل بعد ان فتتت الرحلة الزمنية عمق معاني الحدث واندثرت معالمه جراء انعدام الاتصال السريع في ايصال الاخبار الفورية. ومن هنا تتباعد وتختلف التقييمات بشكل حاد في المجتمع الواحد ناهيك عن المجتمعات البعيدة الاخرى او تلك التي لم يصلها بعد الخبر، والمتعددة الاعراق والمشارب الثقافية المختلفة. ولتقريب هذا التصور للاذهان، عن اهمية نقل المعلومة والخبر في حينها. واذا ماشرعنا في قياس ما سبق واسقاطه على زمن اليوم، زمن انسكاب الكم الهائل من المعلومات الغزيرة في الثانية الواحدة، نجد على سبيل المثال ان خبر او حدث ما، يبدو جليا وواضحا، وينشر في لحظته ويعمم على اصقاع الارض ويخاطب كل مجتمع بلغته، ومع ذلك يختلف المتلقين من الناس في امر تحليله او تقييمه! وبالتالي فهمه، فكيف بانسان ذلك الزمان الغابر القديم الذي لم يمتلك علوم التكنولوجيا والمعلوماتية ونقل البث الحي المباشر، ولم يستفد من تقارب الامم وتلاقح الثقافات؟. والذي كان يعتمد اعتمادا كليا على تدوين الجملة ونقلها باسلوب (العنعنة) او نقل المعلومة مع الرسل في ظروف معيشية عسرة ومناخ عام بشري يكاد يخلوا من التعليم.

التراث والنصوص المدونة
لايمكن لنص من النصوص سواءاً اللفظية منها او المكتوبة، مهما علا شأن قائلها، ان تحوي على صفة الكمال البياني التام. اذ، لايمكن للكلمة او النص الملفوظ اوالمكتوب، ان يجسد المعنى والقيمة الفعلية والظرف المحيط والزمان والمكان التعبيري وكذلك الحالة الشعورية الوجدانية للقائل. فاذا انتقلت الكلمة الى الحروف المكتوبة فقدت الحالة الوجدانية المصاحبة لقائلها وكذلك ظرفها البيئي واصبحت مجردة، وبالتالي جمود النص. ولذلك نجد انه دوما يُبحث عن ملاحق للنص المكتوب اضافية، تبحث عن اسباب القول او النزول وفيمن قيل وكذلك اهمية تحديد الزمان والمكان الذي قيل فيه النص. ومن هنا لعب العلم الحديث منذ ظهور الصورة دورا مهما في التوثيق والتدقيق ونقل النص والمعلومة والخبر على الاقل في حده الادنى من حيث المصداقية واظهاره بالصوت والصورة وفي لحظته، وهذا ما حققه الانسان المعاصر. واهمية ذلك الانجاز، اكتشاف تسجيل الصوت وبث الصورة يقترب الى حد ما، الى حقيقة المعنى وطبيعته التي وردت في حالة النص الاصلية، مما يسهم في ادراك المتلقي بتفاصيل اخرى مرافقة للنص وكذلك ابعاد تمكن من التحليل السليم -بقدر الامكان- ووضع الجملة في سياقها الصحيح. ويذكر الدكتور محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، 1990) أن الالسن الانسانية ذات شقين: الشق الاول هو الاصوات التي لها وجود مادي "موضوعي". والشق الثاني هو دلالات هذه الاصوات في الذهن. اي ان الالسن الانسانية تتألف من دال ومدلول وتؤدي وظيفتين هما أن تستخدم أداة للاتصال وأداة للتفكير. ففي أداة الاتصال يظهر بوضوح ارتباط الدال بالمدلول. وفي أداة التفكير يظهر المدلول. ويشير شحرور الى التدقيق هنا الذي يبين أن التفكير الانساني لايتم الا ضمن اطار لساني غير ملفوظ. ويتبع شحرور القول، بان النص القرآني المتلو او المكتوب بين ايدينا سيظهر ان الله له جنس وجنسه عربي لو كان هذا النص المكتوب هو عين كلام الله، لانه يقوم على علاقة دال ومدلول. ويوضح، لذلك ان كلام الله هو المدلولات نفسها، ويضرب مثلا بكلمة الشمس، بالنسبة لله هي عين الشمس، وكلمة القمر هي عين القمر، وكلمة الانف هي عين الانف، أي ان الوجود المادي "الموضوعي" ونواميسه العامة هي عين كلمات الله. ويستطرد شحرور، بما أن فهم الانسان للحقيقة هو فهم نسبي دائما له علاقة بتطور المعارف والارضية المعرفية للانسان فقد لزم ان تصاغ الحقيقة بلغة انسانية مطواعة لهذا الفهم النسبي عن طريق التشابة في الصيغة الثابتة. واللسان العربي في بنيته ومفرداته يحمل هذه الخاصية "التشابه" بوضوح، وهذا احد وجوه اصالة هذا اللسان.

ولكننا نجد ان الانسان المعاصر بمحصوله العلمي اوجد خطابا واتصالا جديدا، هو ظهور المتحدث صورة وسماع صوت ذلك المتحدث اياً كانت لغته مصحوبا بترجمة فورية ليأخذ الكلام مدلولا "معنى" في الذهن ليصبح قولا، وكذلك تظهر الصورة التسجيلية او المباشرة والبيئة المحيطة وكأنها انعكاس لعين الحقيقة. ومن هذا المفهوم لايمكننا ان نعول كثيرا على النصوص المكتوبة قديما -الا بقدر معلوم- او المروية من خلال توارد الاحاديث ونقل الاخبار عبر القرون الماضية لعدم تطور المرحلة الانسانية العلمية بعد، وهشاشة الارضية المعرفية خصوصا في خدمة نقل (البيان التام) المشار اليه سابقا. فعندما ينقل لنا من التاريخ اخبار السلف، قولا مدونا تدوينا بدائيا، يتوجب حينها النظر الى النص وقرائة طبيعته وعدم عزله عن المعطيات الاخرى الهامة التي تحدد ملامح النص وبيئته، واسباب وجوده، على سبيل المثال، عندما يتوارد خبرا من الزمان القديم، حول اسداء الوصايا للجيش المسلم المتحرك للغزو، بان لايقطعوا شجرا ولايقتلوا شيخا او طفلا او اٍمرأة.. وغيرها من سلسلة الوصايا الجيدة والهامة، لايعني ابدا ان الامر بالضرورة قد تم تطبيقه عمليا من قبل الجيش المسلم الغازي، لانه ببساطة لاتوجد الآلية التكنولوجية القادرة على رصد التجاوزات بحق الانسانية جراء الغزو ونتاجه الطبيعي لكل حرب شنها المسلمون الاوائل او غيرهم، فضلا عن ان الثقافة العامة في تلك الازمان لم تكن تعير او تقيس على اساس حقوق الانسان بالمفهوم العصري والديموقراطي في مسلكها وتعاملاتها. ولذلك، يبقى النص كلاما مجردا، والتطبيق أمراً اخر، والمراقبة والرصد لتطبيق الوصايا، والمحاسبة على التجاوزات موضوع آخر. وبسبب طبيعة قدم ذلك الزمان لايمكن باية حال من الاحوال ان نثبت اليوم تطبيقه على الارض. وهذا ماتعاني منه موروثات نقل المعلومات القديمة جلها. ولان الطبيعة الانسانية تميل الى تقديس الماضي وترفع من شأن الاموات عاليا في اطر من المثالية، وتخشى المستقبل، فقد استحوذ ذلك على العقل والعقل العربي خاصة، بنقل النص بما حوى من تصورات مصاحبة على ان القديم اكثر عدلا واكثر خُلقا واكثر مثالية، ويكفي ما ان ينقل النص (الماضوي)، حتى يبادر انسان الحاضر ان يضفي عليه هالة من القداسة او هالة من المثالية ويصحب ذلك صور تلك العدالة الخالصة والاخلاق والمثل العليا والتي كان يتمتع بها رجالات ذاك الزمان الغابر، مقصيا الزلات والاخطاء والشحناء والنفس السقيمة والتي تصيب كل بشر في كل زمان وكل مكان. والدليل على ذلك نجد ان نصوص كثيرة قادمة من الماضي نُقلت تبين طبيعة اولئك البشر وماحملوه من حقد وحسد وتكريس تجاري للعبودية وسبي واقتتال وسفك دم فيما بينهم، كأهوال (الفتنة الكبرى). ولكنها تمر في ذهن الفرد المعاصر مرور الكرام، وتتوقد في الذهن فقط جلائل الامور وعظائم الاخبار ومحاسن البشر، وهذا الطرح مقارب الى ما دعى اليه الدكتور عبد الحميد الانصاري الى نزع القداسة عن التاريخ الاسلامي، لانه تاريخ بشر يخطئون ويصيبون. كما دعى الى تخصيب المناهج بقيم التسامح والتقارب والقبول بالاخر واكد الانصاري انه ليس من الامانة حشو ادمغة الناشئة بالامجاد والمآثر مع تجاهل تام للجوانب السلبية فذلك يورث استعلاء وانتفاخا كاذبا (الراية القطرية،30/1/2005). كتب المستشار محمد سعيد العشماوي في دراسة له منشورة في كتاب (اسلاميات اسرائيليات) انه ثبت له أن اهم حديثين يؤثران في الفكر الاسلامي ويصوغان العمل الاسلامي لايوجدان في اية مجموعة من مجموعات الاحاديث المعترف بها، وهذان الحديثان هما: (تناكحوا تناسلوا فاني مباه بكم الامم يوم القيامة)، وحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فاٍن لم يستطع فبلسانه، فاٍن لم يستطع فبقلبه، وهو اضعف الايمان) (حقيقة الحجاب وحجية الحديث، 2002). ونتذكر شخصيا، ان هذا الحديث الاخير كان من ضمن المنهج للمرحلة الابتدائية في زمن الجمهورية العربية اليمنية في نهاية السبعينات يدرس لنا كاطفال. ويبدو اذا صحت نتيجة الدراسة التي قام بها المستشار العشماوي، ان غرض وضع حديث (التناسل) هو اغراق المجتمعات العربية والاسلامية بالتضخم السكاني، بحيث لو وردت حلول عقلانية تنويرية تهدف الى صالح المجتمع بتحديد النسل، اذا ما تطلب الامر ذلك، خوفا من هول الانفجار السكاني، او تنظيمه لصالح تحسين دخل الفرد ووضعه العام في الاسرة القليلة العدد، كبديل عن كثرة الانجاب والقاء الاطفال في الشارع بسبب شحة الموارد وكثرة العدد. تظهر حينها اصوات متشددة تستند الى حديث التناسل والمباهاه، وهذا مايحدث في الواقع بالفعل!. وكذلك الامر في حديث (التغيير) في المجتمع، اذ، يعزو التغيير المنشود في الدرجة الاولى الى استخدام اليد اي القوة بواسطة الافراد او الجماعات بحيث لم يشر الحديث الى دور الدولة او السلطة القائمة على حفظ النظام والقانون، ونشاهد من ذلك، الاخلالات الامنية التي تقع بين الحين والاخر في الدول العربية والخليجيه وكذلك الدول الاسلامية، بل وفي العالم اجمع. وفق هذا المبدأ عموما والمنقول نصا وليس روحا!.

حافظ سيف فاضل، كاتب وباحث اكاديمي
hafedhfadhel@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف