العراق.. عِقال الياور وكُوفيَته!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ينتظر من الرئيس الجديد تعميق الهوية الوطنية ولو بغطاء رأس
أصر غازي الياور، بعد توليه رئاسة العراق، الاحتفاظ بلقب الشيخ، الذي ورثه عن جده عجيل الياور شيخ قبيلة شمر، وبالتالي الاحتفاظ برمز العشيرة العِقال والكوفية. ولربما إهماله الطويل لهذا الزي أثناء الإقامة بالولايات المتحدة جعله غير راكز على رأسه مثلما كان راكزاً على رأس جده ووالده مشعل، فنراه يجهد نفسه كثيراً محاولاً تعديله وترتيب العباءة على كتفيه أثناء المؤتمرات الصحفية.
وكلما شاهدت غازي الياور متسربلاً بالزي العشائري، على شاشات الفضائيات، راودني الشك في الانسجام بينه وبين غطاء رأسه، وأرى أنه اعتمر العِقال وارتدى العباءة حديثاً. وهنا أتذكر فطنة أهل هذا الزي، يوم اكتشفوا أحد رجال ناظم كزار وصدام حسين، الذي وصل منطقتنا متخفٍ بالعِقال والكوفية، وبعد حدوث عملية الاغتيال التي رتبها، قال الشهود أمام مجلس العشيرة، رأينا شخصاً غريباً ليس بصاحب عِقال وعباءة، أفندي من الولادة، فالعِقال يكاد يفر من على رأسه، والعباءة مائلة غير مستقرة على كتفيه! كنت حاضراً انتشال جثة المغدور من على جرف الهور، ربطت يداه بخيوط عِقاله، وحشرت كوفيته في أعماق جوفه حشراً، واستقرت ثلاث رصاصات في أسفل رقبته. وبلا تشبيه بين الياور المسالم الطيب وصدام المبير الخبيث، كنا نلاحظ بعثرة العقال والكوفية فوق رأس الأخير، عندما كان يظهر على شاشة التلفزيون كعارض أزياء.
قال الياور: إنه طلب من الرئيس بوش مخاطبته بلقب الشيخ بدلاً من الرئيس! ذلك اعتداداً بعروبته ونسبه العشائري. وقد نسي أنه أصبح رئيساً لبلد تعددت أغطية الرؤوس (الكلاوات) والأزياء فيه، بلدانية وعشائرية وقومية ودينية ومذهبية. فالمفروض أنه يمثل كل هذه الأغطية والأزياء، وإن اختار أحدها دون الأخر ظهر بمظهر المتعصب، فالمشيخة شيء ووظيفة الرئيس شيء آخر. يضاف إلى ذلك ما في العِقال والكوفية من تكريس للعشائرية والأبوية القديمة، وتكريس لصورة الإقطاعي أو شيخ البدو، على الرغم من ظهور الياور، كلاماً لا لباساً، بمظهر المتحرر من كلا الصورتين.
أدرك الملك فيصل الأول، وقد سقط العرش الذي أشاده سنة ولادة غازي الياور، خارطة العراق الاجتماعية، وتنوع أغطية الرؤوس والأزياء عليها، فبادر إلى خلع عِقاله المُقصّب وكوفيته مستحدثاً ما عرفه العراقيون بالفيصلية، وهي سدارة سوداء تجمع بين الطربوش العثماني والقبعة الأوروبية، وتكلل الرؤوس هيبة ووقاراً، وتمد في قامة معتمريها. جمعت الفيصلية المتناغمة مع البذلة الأوروبية العراق كافة، العربي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني والآرامي، بغطاء رأس وزي رسمي واحد، فسارع الجميع إليها دون اعتراض، وكأنهم يدركون خطورة البقاء على زي دون آخر يعمم في الدوائر الرسمية، أو يظل كل موظف ومسؤول ينزع إلى زيه الخاص.
هذا ما يخص الملك أو الرئيس لأنه واجهة البلاد، مثله مثل العلم والشعار يعبران عن واقع جغرافي واجتماعي وثقافي وتاريخي. أما ما يخص رئيس الوزراء أو الوزراء فظل بعضهم متقيداً بالزي التقليدي، فلم يخلع محمد الصدر عمامته السوداء يوم أصبح رئيساً للوزراء، ولم يخلع محمد رضا الشبيبي عمامته البيضاء الضئيلة الحجم يوم أصبح وزيراً للمعارف ورئيساً لمجلس الأعيان، كذلك لم يخلع عبد المهدي المنتفكي عقاله المُقصّب وكوفيته يوم أصبح وزيراً للمعارف، ومثلهم الوزير الشاعر علي الشرقي، إلا أن محمد مهدي الجواهري رماها بعد الاستقرار ببغداد، وظل حاسر الرأس حتى أعتمر الكلاو الكردي.
وأتذكر محنة عمي طارق الخيُّون رئيس بلدية المنطقة يوم أمره متصرف الناصرية خلع العِقال والكوفية وارتداء البذلة الأوروبية لأنه موظف في مكتبه لا شيخ عشيرة، وأتذكر كيف خرج إلى المضيف صباحاً بلباس الحكومة حاسر الرأس مخنوقاً بربطة العنق، وكان غليظ الرقبة. يومها كان خجلاً، بدا وكأنه ارتدى ثوب الشهارة عقوبةً، مثله مثل المتورط باعتمار العِقال والكوفية من دون تجربة سابقة. ولا ندري، ماذا كان يفعل طالب النقيب بعِقاله وكوفيته الثابتين فوق رأسه ورؤوس المقربين منه، لو حصل ونجح في مسعاه إلى عرش العراق؟ أما الشيخ خزعل فتهيأ لهذا العرش معتمراً عمامة الإمارة، الشبيهة بعمائم مهراجات الهنود، بدلاً من العِقال والكوفية.
ومثلما لا تصلح العمامة للتجوال في أجواء أوروبا، رمى شيوخ العشائر المنفيون ببريطانيا والدول الاسكندنافية وغيرها العُقْل والكوفيات، لا استجابة لأهزوجة القوالة، الآتي ذكرها، بل استجابة لكثرة المطر والريح وتجنب نظرات الاستغراب التي تعمق الشعور بالاستيحاش.
سألت شيخاً من شيوخ الدين العراقيين يوماً، لماذا دأبت بلندن اعتمار القبعة بدلاً من العمامة وما فيها من الوجاهة؟ قال: لأمرين، الأول أنها لا تحمي نفسها ولا تحمي فروة رأسي من ماء المطر، بينما القبعة مثل ترس السلحفاة لا يثبت عليه ماء ولا يتسرب عبره بلل، وهي ابنة هذه البلاد. والثاني، لم يألف الإنكليز العمامة، فكثيراً ما تظن بي ظنون المتطفلين وتلاحقني نظراتهم المخيفة وأنا أسير ليلاً في أزقة لندن. وتجاوزاً لهذين الأمرين اجتهد الشيخ بحمل عمامته مع الجبة أو الصاية في كيس، يعتمرها ويرتدي الجبة عند الضرورة، كحظور وليمة من ولائم الوجهاء، أو صعود المنبر للخطابة والوعظ. وربما للسبب نفسه لم يألف غازي الياور اعتمار العِقال أثناء الدراسة والإقامة بالولايات المتحدة. ومؤخراً شاهدناه نزل من الطائرة بواشنطن مرتدياً دشداشة المشيخة لا الرئاسة، وملتحفاً العباءة من دون عِقال وكوفية، وقد أبهجنا المشهد، لكنها لحظات وظهر في القصر الأبيض بلباسه شيخاً لشمر لا رئيساً للعراق.
في البداوة يتساوى الرجال والنساء في اعتمار العِقال ولبس الكوفية، وخاصة في قبيلة الرئيس الياور، حيث تعتمر النساء العُقْل والكوفيات أسوة بالرجال (الجادر، الأزياء الشعبية في العراق). واعتمرتهما المغنية الشهيرة أم كلثوم في أفلامها وأغانيها القديمة، وهي تقوم بدور فتاة البداية العاشقة. وبهذا لم يبق العِقال شارة رجالية يعتد بها، مثلما هو الحال في جنوب العراق، والشاهد ما قالته إحدى القوالات، هاجيةً رجال عشيرتها المهزومين: "هاكم شيلتي اطوني جفافيكم فرد فريخ يمعارج لعب بيكم"(*).
ففي وقت من الأوقات كان يشار إلى الشرف بالعقال، فالذي تعاب عليه طوية عقاله، أو يُقال له غبرة أو شمرة فوق عِقالك! قد لا يتأخر من ارتكاب جريمة غسل العار بقتل ابنته أو أخته. لكن كثيراً ما يرمى العِقال من الرأس في لحظات الوجد والحزن الشديدين، فترى كوفية صاحب الخطب من دون عِقال، وهو مشهد يثير الإكتئاب في النفوس. ولتقشف في الملبس نرى شيوخ الدين من الحنابلة يعتمرون الكوفيات من دون عُقْل، وكأنهم في حزن أبدي، وهذا ما يمارسه بعض شيوخ الصابئة المندائيين أيضاً، عندما يظهرون بكوفيات بيضاء، بلا عمائم أو عُقْل، وقبلها تميزوا باعتمار الكوفيات الحُمر المرقطة بالسواد، وقد شبههم أحدهم بملاحي سفينة نوح، وكان صادقاً إذا علمنا أن حكاياتهم التاريخية تقول أن سام بن نوح نقلهم في سفينته من جزيرة سندريب الهندية إلى العراق. كذلك يعتمر الكوفيات الحُمر أهل الزبير وأيزيدية سنجار، أما السادة فيعتمرون تحت العُقْل كوفيات زرقاء.
يعلم غازي الياور أن العِقال والكوفية لباس عراقي قديم، لا علاقة لأصله بالعروبة، والشرف العربي، فمَنْ ينظر في البقايا السومرية والأكدية يجد الكثير من العُقْل على رؤوس أجدادنا. أما عربياً فالعُقْل هي مجموعة من الغنم والأبل تقدم للزكاة، أو الصدقة، والعِقال هو الحبل الذي يعقل به البعير، وكل ما يربط به، ومنه تتفرع ألفاظ الاعتقال والعقائل من النساء، أي المخدرات المحبوسات في البيوت، والعواقيل ما ألتبس من الأمور، ومنه أيضاً العقل ضد الخبل أو الجنون بعد تغير في الحركات، وهذه تجمع بعقول والأخرى بالعُقْل. والعرب لم يصادروا منا العِقال والكوفية فقط، بل صادروا أضرحة الأنبياء والصالحين من أهل الأديان الأخرى وأعلونوا إسلامها، وطمسوا أسماء المدن القديمة وتواريخها، فالحيرة لم تعد سريانية المعنى والمدلول بل نحتوها من الفعل حار، والهور لم يعد مفردة آرامية بل منحوتاً من الفعل هار، وغاب اسم بصرياثا عن معنى البصرة ليكون الحجارة البيضاء، وبابل لم تولد عظيماً مثل الإمام أبي حنيفة النعمان لذا نسبت أعجميته خطأً إلى بلاد فارس وهلمَّ جرَّا.
تبدو الكوفية أصلح غطاء رأس لأهل الأهوار والصحراء على السواء، حيث الشمس الساطعة والريح الدائمة الهبوب طوال فصول السنة، وقد بدأت وظيفة العِقال مثبتاً لغطاء الرأس ليس أكثر، لكن سرعان ما تحول إلى رمز للشرف والوقار وسلاح بيد معتمره، ويصبح سقوطه من على رأسه إهانة ما بعدها إهانة، وهذه المنـزلة كما هو معلوم متعلقة بمنـزلة الرأس مركز التفكير والتدبير، وهو أشرف الأعضاء.
وحتى يثبت على الرأس ويزداد جمالاً، تتدلى من العِقال خيوط إلى تحت العباءة أو البشت، وإلا بدا دائرة مبتورة مثل مبتورات الذيول. قال الجواهري في "المقصورة" مادحاً تلك الخيوط المتدلاة وهاجياً في البيت نفسه معتمر العِقال:
وتلك الشراشيفُ كالياسمين
تـاه العِقـال بها وازدهى
تدلت عناقيد مثـل الكروم
على كتفيْ يابس كالصوى
يَـودُّ مـن التيـه لـو أنه
يَشُدُّ بهـا جـرساً إن مشى
تفنن سفلة سوق العشار بالبصرة في إيذاء أهل العُقل والكوفيات من أهل الأهوار، فترى أحدهم يمر مسرعاً بدراجته خاطفاً العقال من على رأس صاحبه، فيبقى حاسراً مشدوهاً لا يعرف كيف يتدبر أمره. وآخرون يأتونهم من الخلف ويربطون خيط العِقال بتخت المقهى، وعندما ينهض الرجل تسقط هيبته أمام الآخرين، مثلما حدث للأخوين عبد وكريم وساف وقد عادا إلى المنطقة من البصرة يبكيان ألماً مما حدث لهما. وهذا ضرب من ضروب أخلاق سفلة المدن، يجورون على الغريب، ويستضعفون المتأدب، بينما يخضعون للشقي المستأسد عليهم.
جعل غازي الياور العِقال رمزاً لنسبه العربي والعشائري، ثم دعم هذا النسب بالزاوج من ثانية وقيل ثالثة، وقد سمع الفقهاء ولم يسمع القرآن، الذي لم يبح تعدد الزوجات بأداة النفي (لن): "ولن تستطيعوا أن تعدلوا". سيذهب غازي الياور، وقد نجحت محاولته في الجمع بين عِقال وكوفية المشيخة، إلا أنه فشل في تمثيل كل أجناس العراق لأنه أصر على العشائرية أو حاول الاحتماء بها وتكريسها عبر ثيابها. ومثلما قالت زوجته الثانية أو الثالثة، حسب تقرير إيلاف عنها: إنها تعمل من أجل كردستان لا العراق، أظهر الياور أنه يعمل من أجل شمر لا العراق، والثياب عند معظم الناس أصدق أنباء من الخِطاب.
ها نحن ننتظر رئيساً آخر، فإن كان من غطائي الرؤوس فعليه بسدارة فيصل، أما في حياته الخاصة فله أن يغطي رأسه بما يشاء، عمامة كانت أو قلنسوة، أو عقال وكوفية، أو عرقجينة، أو جراوية أو أي طاقية. فبعد الذي حصل لا ينقص العراق فِرقة بين شعوبه، ومَنْ يحتل منصباً ويسعى لقومه أو حزبه أو عشيرته أو دينه أو مذهبه دون العراق فهو شريك في تكريس هذه الفرِقة ولو عبر ما يعتمره من غطاء الرأس.
هذا ما نود أن يتنبه له الرئيس القادم، والأوفر حظاً حتى هذه اللحظة هو جلال الطالباني، فلا نظنه سيظهر بلباسه القومي ويخذلنا أمام الكاميرات، مثلما خذلنا غازي الياور بلباسه وايثاره لذوي القربى. وهنا أود التذكير بما قاله الجواهري في شأن الكلاو الذي أهداه له جلال الطالباني، وقيل ظل يزوده به كلما أبل، وقصته بدأت بطاقية جاكستانية، اعتمرها الجواهري عندما كان ضيفاً بطاجيكستان. أشار صاحب دار وجريدة "المدى" فخري كريم في كلمته في احتفال مئوية الجواهري بالسليمانية (تشرين الأول 2000)، بحضور الطالباني نفسه، إلى أن الجواهري قال: "كم مر عليَّ من الكلاوات، لكن لم يثبت على رأسي سوى كلاو واحد، هو كلاو جلال الطالباني". وهنا نتمنى من الرئيس القادم، إن كان (جلالاً)، أن يثبت له ذكرى جميلة على رؤوس العراقيين، ولتكن كلاواً، لا يقل جمالاً ونعومة عن جمال ونعومة كلاو الجواهري المحبب، وقد أصبح توأماً لقصائده. ومفردة الكلاو التي تعني الطاقية حولها عرب العراق إلى كناية تشير إلى التحايل، ونحن نطلبها من الرئيس الجديد كناية للخير والأخوة لاكناية عن التحايل والألاعيب. إن ينظر إلى تكريس هوية العراق أولاً، وينسى أنه كردي مادام رئيساً، وما كركوك إلا مدينة تآخي، وأربيل والحلة والأنبار والبصرة مدن عراقية، خيرها يعم الجميع، وشرها، إن كان لها شر، يعم الجميع أيضاً.
الامتنان والعرفان والشكر لنعمة الديمقراطية، وعسى أن يتحقق لنا فيها قوله تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم". فيا لها من نعمة سنفاخر بها الأولين والمـتأخرين، نحاسب رئيساً مستقيلاً، بلا انقلاب، ونشترط على رئيس جديد سيأتي بلا انقلاب أيضاً!
* وإن كانت الفصحى مدمرة لموسيقى ومعنى الأهزوجة، لكن لغير العراقيين: خذوا فوطة رأسي وهاتوا كوفياتكم، فولد واحد هزمكم في المعركة، وملخص معناها: صيروا نسوان أفضل لكم.