النرجسية، النخبوية وانعدام الهوية: كارثة الديمقراطيين في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ثمة نمطان للتعامل مع الهزائم الصغرى والكبرى في التاريخ. القوى الحية تحفزها حتى الهزائم الصغرى لتفحص دلالات الهزيمة موضوعيا فضلا على مراجعة سياساتها البرنامجية ذاتيا والتمعن في مواقفها عمليا. بينما تنكفأ القوى الجامدة او الهامشية الى ترحيل هزائمها الكبرى، حتى، الى عدم كفاية الوعي الاجتماعي وعدم نضج العلاقات بين البشر وضعف التطور الانساني. وفي المحصلة يجري ترويح العقل وتبرير الفشل بصفات الناس وخصائص الواقع مع القناعة (الحتمية) انهما سيتغيرا يوما ليصل الى مستوى هذه القوى.
يبدو ان التنظيمات اليسارية الديمقراطية والكثير من المجموعات اللبرالية في العراق تنتمي بلا منازع الى الدائرة الثانية.فهذه القوى لم تلبث منذ اعلان نتائج انتخابات 30 كانون الثاني الى انكار الواقع باعتباره شيئا مغلوطا أو مرفوضا لا يسير وفق تصوراتها "الرفيعة". وان التطور الموضوعي في الوعي والاقتصاد والسياسة سيقود، تلقائيا، الناس آجلا ام عاجلا الى معسكرها المتقدم. باختصار، لم تطلق هذه القوى العنان للفكر النقدي (لحد الان) ان يستشرف دلالات هامشيتها الانتخابية وآثار حصولها على مجرد 2 % من اصوات الناخبين العراقيين. ولم تنكب على تمحيص اداءها في انتخابات 30 كانون الثاني بما يطرح للناس بشفافية مواطن الخلل واسباب الفشل وهضم الدروس نحو نتائج ايجابية. لم نسمع بقائد انتقد دوره السلبي علانية. ولم نر تنظيما كشف عن اسباب اخفاقاته بصراحة. ولم نعرف عن قيادات جماعية اعلنت عن فشلها في تفعيل برامجها وتعبئة الناس حولها. وكأن الجميع اتفق على الصمت في سياق الفرحة الكبيرة بنجاح الانتخابات. يحق لكل الناس، حتما ان يفرحوا بيوم الانتخابات العظيم، حتى وان كانوا من الخاسرين. ولكن للفرحة الوطنية زمن وللمسؤولية الوطنية زمن. وفي الواقع لم تأت قوى اليسار الديمقراطي والاتجاه الوطني اللبرالي بالشىء الجديد منذ سقوط الصنم. لم ترفع معا وبوضوح برنامج الافق الوطني الديمقراطي. واقتصر نشاطها التعبوي على النخب، الى حد كبير.
لم تتجرأ في المجاهرة بمبدأ الدين لله والوطن للجميع. انها، بالعكس، مالئت الاسلام السياسي ولبست رداءه. فكيف لا يختار المؤمن اسلاميا سياسيا معروفا بل يذهب بدلا عنه للعلماني؟ واخفقت هذه القوى في تسمية اعداء العملية السياسية السلمية باسماءهم الحقيقية: بعثيون صداميون وسلفيون اسلاميون اجتمعت مصالحهم مع دعاة عنف مغامرين ودوائر ارهاب ظلامية وقوى اقليمية متضررة. فكيف لا يعطي الناخب العراقي صوته لمن اعلن مرارا عن سعيه الثابت وعمل على أجتثاث جذور الاستبداد وقيادات الارهابيين؟ ولم تعط هذه القوى تعريفا ملموسا لماهية الهوية العراقية في افق الاتحاد الطوعي بلحمة دولة القانون بل اكتفت بترداد شعار الفدرالية الغامض. فكيف لا يذهب الناخب الى احزاب كانت الفدرالية لها مطلبا سياسيا معروفا اصلا منذ سنين طويلة وتريده الان نموذجا سياسا قائما؟ ولم تبذل هذه القوى الشىء الكثير لتجاوز وضعها النخبوي بل اقتنعت بان الناس سيقفون تلقائيا وراء افكارها الصحيحة. فكيف لا يذهب الناخبون الى المساجد والجوامع والحسينيات ودوواين العشائر ومضايف الشيوخ ومراكز المريدين والمؤسسات؟
من المؤكد ان النظام الحزبي في العراق قائم، لحد الان، على تداخل غير مريح مع الافكار الدينية والمثل القومانية وانماط التعبئة العشائرية والروابط الطائفية. ويؤثر كل ذلك على اضعاف دور احزاب البرامج الايديولوجية والتنظيمات غير الطائفية. ان قيام نظام حزبي سياسي يسترشد بالهوية الوطنية واسس العمل الديمقراطي استرشادا حاسما هو استحقاق للدولة الوطنية. ومن المحتمل، تماما، ان ينمو هذا الاستحقاق عبر امتصاص أشكال التعبئة السياسية القائمة ضمن حدود العشيرة والقومية والمذهب والطائفة ويتجاوزها. اذا ان تلك الاشكال سمة متأصلة لانماط الاندماج الخاصة بالنظام السياسي ما قبل الوطني. اما الاندماج السياسي القائم على مشروع الدولة العراقية فانه يفترض انخراط الناس والمكان والدولة في كلٍ واحد على اساس فكرة الانتماء المشترك والولاء الاساسي لمؤسسات سياسية لا شخصانية.
اقول (من المحتمل) لان هذه الافتراضات لن تتحقق، عفويا. وان هناك مجرد اتجاه موضوعي ممكن ان تعيد مكونات العراق المختلفة في سياقه تعريف نفسها اختياريا وتحديد مصالحها طوعيا ضمن المشروع الوطني. وقد يترافق ذلك مع نشوء منظومة قيم ومعايير ورموز مشتركة تربط الناس معا في ولاءات وطنية جديدة عابرة للتضامنات التقليدية. وهذا ما يتمناه – بوعي او ضمنيا- أصدقائنا من القوى اليسارية الديمقراطية واللبرالية.
ولكن المشكلة ان اعادة تعريف الهويات والمصالح والقيم تجري في سياقات متباينة قابلة ان تستثمرها كل القوى السياسية والمدنية. ان قوى اليسار الديمقراطي والوطني اللبرالي لا تعمل في فراغ. وان الاحزاب الاسلامية شيعيا وسنيا والتنظيمات القومية عربيا وكرديا وكيانات الاقليات السياسية جاءت لتبقى. وهي ستعمل بدورها على ادارة عملية اعادة تعريف الهويات والافاق لصالحها. وليس تبني أغلبها لمفاهيم الديمقراطية ودولة القانون وحقوق الانسان سوى دليل ساطع على ذلك. تسعى هذه القوى جميعا، اذن الى الاستفادة من حالة التعدد لتمتصه في سياق سياسي حديث، حقا وتجديدي مبدع، احيانا. كما ان امتدادات القوى الاسلامية والقومية والاقليات بين انسجة المجتمع المدني ومنظماته تسير بوتائر أسرع مما يظنه الآخرون.
المهم، سيستعد اليساريون الديمقراطيون واللبراليون قريبا- اذا كانوا ينوون ذلك حقا- لخوض الانتخابات القادمة. ستتلاشى بالطبع الكثير من التنظيمات الصغيرة. سترجع القهقرى الى وضعها الطبيعي كمجموعات مثقفين صغيرة وفئات وسطى محدودة تسعى(غالبا باخلاص) لتغيير المجتمع العراقي صوب التحرر الانساني والازدهار. ولكن مكانها المحتمل سيكون خارج حلبة المنافسات السياسية الدائرة حول المؤسسات التنفيذية والتشريعية، اي مواقع صنع القرارات المصيرية.
ولكن هناك قوى تصر على البقاء (رغم علائم شيخوختها النظرية والتنظيمية). وتريد أخرى الاستمرار (مع فقر طرق تعبئتها الشعبية). وتسعى جماعات ثانية ان تقدم نفسها مرة أخرى (رغم نخبويتها).
فلعل الشيوعيون يعرفون انهم حزبا وطنيا رفيعا وتاريخا بطوليا ولكن، ايضا، بلا رؤية نظرية واضحة لدى الناس. وليس لهم الكثير من المواقف التجديدية التي يمكن ان يذكرها الناخب منذ سقوط الاستبداد. بذل الشيوعيون العراقيون جهودا كبيرة في الانتخابات ولكن لم يحصد نتائجها- بسبب ذلك- إلا غيرهم. ولعل الديمقراطيون المستقلون يعلمون جيدا ان لهم افكارا جذابة، حقا، لكنها صالونية ولا تمتلك مقومات البقاء بدون امتدادات حقيقية بين ابناء البلاد. بل لم يجدي نفعا وجود اربعة وزراء من بينهم في الحكومة (وهو عدد لا يتناسب مع تنظيمهم المحدود) في انتخاب اي مرشح منهم. ولعل الوطنيون الديمقراطيون يدركون انهم عاشوا على صورة تاريخية جميلة ولكنها تنتمي لعقد الاربعينيات من القرن العشرين. وان عراق 2005 يفترض نمطا آخر للقيادة والتنظيم والتفكير.
ولعل مجموعة قائمة وطني تلمس انهم كانت – ولا تزال- جزءا بارزا من الضمير العراقي الحي ثقافيا واخلاقيا ولكنها في السياسة دائرة معزولة.
وتعرف القوى الصغيرة التي دخلت الجمعية الوطنية أوتلك التي بقيت خارجها ان ليس لها ارضية نظرية ثابتة وان اسس تعبئتها التنظيمية غير مضمونة النتائج ابدا.
ولعل الجميع يعرف ان العراقيين في ضمائرهم قبل عقولهم يدركون المواقف الانتهازية لكل القوى التي مالئت هذا الطرف او ذلك على حساب المبدأ والضمير.
ان القوى اليسارية والوطنية الديمقراطية هي الاكثر ادعاء لتبني الهوية العراقية العابرة للولاءات العتيقة. ولكنها، ايضا، الاقل أخلاصا لفكرة التجمع سوية حول الافق الوطني الديمقراطي. ان عدم وقوف هذه القوى معا وراء برنامج هذا الافق في آئتلاف عريض يضم ايجابيات البعض على البعض الآخر ويقلل من سلبيات الانعزال هو دليل على النرجسية والنخبوية وهشاشة الاحساس بالمسؤولية التاريخية. وبالنتيجة تتضرر هويتها الوطنية.
أسيشكل ذلك واقعا مستعصيا يحكم بالموت غير الجليل على هذه القوى ام لعلها تستجيب لنداء الافق وتبرر مصداقيتها؟