حتى القضاة يخطئون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ليس هناك إنسانٌ معصوم من الخطأ. وبما أن القاضي الذي حكم على الأكاديمي والكاتب الكويتي الدكتور أحمد البغدادي إنسانٌ، فهو معرّض للخطأ، وفي اعتقادي أنه قد أخطأ في استنتاجاته حسب ما جاء في حيثيات المحكمة. فقد قال القاضي إن الدكتور البغدادي: " قد تجاوز حرية إبداء الرأي والنقد المباح وتورط في دائرة التجريم والمحظور لاستخدامه عبارات في المقال بإسلوب الإيحاء والتورية ." وقد أخطأ القاضي لأنه ليس من الممكن تجاوز حرية إبداء الرأي، فالإنسان إما أن تكون له حرية لإبداء رأيه، أو ليس له حرية لفعل ذلك. فلا يمكن لنا أن نُقسّط و نحدد الحرية، فالحرية ينطبق عليها القانون الفيسيولوجي المعروف بقانون " ستيرلنج ". وهذا القانون يقول إما الكل وإما لا شئ All or none law . فإذا كان الدستور الكويتي يسمح للدكتور بإبداء رأيه، فمن حق الدكتور إبداء رأيه في أي موضوع يشاء، بما في ذلك الأديان السماوية، فليس في إبداء الرأي أبقارٌ مقدسة، كما يقول الإنكليز. ولا أعلم كيف يكون هناك نقدٌ مباح ونقد غير مباح، فالنقد هو الروح التي تجعل المجتمعات تتحرك إلى الأمام وتتقدم، وتعيين طروحات معينة أو أشخاص معينين ليكونوا بمعزل عن النقد هو سبب تخلف المجتمعات الإسلامية. فالنقد يجب أن يكون كالحرية نفسها، طليقاً بلا حدود. أما إذا اتهم الكاتب الشخص أو الفكر المنتقد دون أن يقدم برهاناً على ما يقول، يصبح نقده قذفاً يُقدم من أجله للمحاكمة، وإذا ثبتت عليه التهمة، يكون الجزاء غالباً مادياً، فليس في مصلحة الشخص أو الفكر المقذوف أن يُسجن القاذف، ولا في مصلحة المجتمع أن يُمنع كاتبٌ من الكتابة أو يُسجن. فسجن جاليليو لم يمنع أفكاره من الانتشار وشنق محمود محمد طه لم يضع حداً لأفكاره.
ولكن الدكتور البغدادي كان في استطاعته أن يقدم البرهان على ما قاله أو لم يقله بل قصده، عندما استعمل التورية والإيحاء، كما زعم القاضي عندما قال: " إلا أنه يتبادر إلى فهم القارئ الربط بين تدريس الدين الإسلامي الحنيف وتحفيظ القرآن الكريم وبين الإرهاب والتخلف الفكري. " ولو فهم القارئ مقال الدكتور على هذا الأساس، فهل كان في مقدور د. البغدادي أن يقدم برهاناً على ذلك ؟ والجواب حتماً يكون بالإيجاب. فماذا يتعلم الطالب الذي يحفظ القرآن ؟ ألا يتعلم أن جُل الآيات المكية التي كانت تدعو للتسامح والمحبة مثل " لا إكراه في الدين " و " إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر " قد نسختها آية السيف ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون " ( التوبة 29) والتي جعلت قتال الكفار فرض عين على المسلمين ؟ ألا يتعلم هذا الطالب:
" واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل " ( البقرة 191)
" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " ( التوبة 4)
" فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً وإما فداء ( محمد 4)
ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " وقال " ضرب الرقاب " ولم يقل " فاقتلوهم " لأن لعبارة " ضرب الرقاب " من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل لما فيها من تصوير القتل بأبشع صوره وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن ."
ولدفع الطالب إلى قتل الكفار بعد أن فُتحت شهيته بالآيات السابقات، يروي له المعلم هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي: " إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده في الجنة، ويُحّلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت، والياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها. ويزوج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه. " ويقال أن محمد عطا الذي قاد " العُصبة " الذين فجروا برج التجارة بنيويورك خطب فيهم قبل الإقلاع فقال لهم: " هذا يومكم، زوجاتكم قد تهيأن لكم في الجنة." وإذا لم يكن تدريس الدين الإسلامي مرتبطاً بالإرهاب، كيف نفسر أن الإرهابيين في أمريكا (الذين فجروا برج التجارة العالمي )، وأرجنتينا ( الذين فجروا المعبد اليهودي )، وتنزانيا وزامبيا وكينيا ( الذين فجروا السفارات الأمريكية )، وباكستان ( الذين فجروا الكنائس )، وتركيا، ( الذين فجروا المعبد اليهودي والقنصلية الإنكليزية ) والذين فجروا النادي الليلي في بالي بإندونيسيا ( وقتلوا ما يزيد على المائتين من الأستراليين )، والذين فجروا النادي الليلي في ألمانيا في السبعينات وقتلوا الجنود الأمريكان، والذين قتلوا الرياضيين في ميونخ، والذين فجروا الطائرة فوق لوكربي باسكتلندا، والذين فجروا القطارات في إسبانيا، والذين اختطفوا وزراء الأوبيك في فيينا، والذين فجروا المجمعات السكنية في الدمام وفي جدة، والذي فجر المدرسة الإنكليزية في الدوحة، ألخ، كيف نفسر أنهم كلهم مسلمون ما عدا كارلوس الأرجنتيني ؟ ولماذا لا نسمع عن مسيحيين أو بوذيين أو يهود يفجرون أنفسهم في البصات وسط المدنيين ؟
ثم قال القاضي في حيثياته: " إلا أنه يتبادر إلى فهم قارئ المقال متوسط الذكاء أن مبادئ الدين الإسلامي تحث على عدم احترام المرأة وغير المسلم. " ولا أظننا في حاجة إلى تكرار كل الأحاديث والآيات التي تجعل من المرأة مخلوقاً ناقصاً عقلياً ودينياً ولا يجوز لها أن تئم الرجال أو تخرج من منزلها إلا إلى قبرها. وحال المرأة المسلمة والعربية اليوم خير شاهد على اضطهاد الإسلام للمرأة. أما عدم احترام غير المسلم فيكفي أن نقرأ فتاوى بن باز عن المسلمين الشيعة لنتخيل ماذا يقول عن غير المسلمين. وأظن بنود عهد عمر بن الخطاب مع نصارى الشام تكفينا. ولو كان القاضي قد صلى الجمعة في أي جامع في طول وعرض البلاد الإسلامية لسمع الأمام يقول في خطبته: " اللهم أنصر الإسلام والمسلمين وأهلك اليهود والنصارى، اللهم شتت شملهم وأهلك نسلهم. اللهم ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا ".
واستمر القاضي فقال إنه يُفهم من المقال: " بأنه يستحيل مع دراسة الدين الإسلامي تحصيل العلم والمعرفة ." ونقول له إن الدكتور البغدادي كان محقاً في هذا القول إذا كان فعلاً قد قصد أن يقوله. فتعريف العلم في الفقه الإسلامي هو " العلوم ثلاثة علم بالله وعلم من الله وعلم مع الله فالعلم بالله معرفة صفاته ونعوته والعلم من الله علم الظاهر والباطن والحلال والحرام والأمر والنهي والأحكام والعلم مع الله هو علم الخوف والرجاء والمحبة والشوق " ( شذرات الذهب للدمشقي، ج2، ص 181). وكذلك يعرّفه الشيخ بن باز: " فالعلم الذي ليس من كتاب الله وسنة رسوله لا يسمى علما بل يسمى جهلا ، وإن كان علما نافعا في الدنيا ، لكن المقصود الذي ينفع في الآخرة وينقذ من الجهالة. " ( فتاوى بن باز، المجلد التاسع). فهل يمكن تحصيل العلم للذين يدرسون الدين الإسلامي في مؤسساتنا التعليمية الدينية ؟ فلنسمع ما قاله الشيخ بن باز، وهناك الكثير من المشايخ الذين يعتقدون ما كان يعتقده الشيخ بن باز: " كما أني قد أثبت في المقال فيما نقلته عن العلامة ابن القيم رحمه الله ما يدل على إثبات كروية الأرض ، أما دورانها فقد أنكرته وبينت الأدلة على بطلانه ولكني لم أكفر من قال به ، وإنما كفرت من قال إن الشمس ثابتة غير جارية لأن هذا القول مصادم لصريح القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة الدالين على أن الشمس والقمر يجريان ." ( نفس المصدر السابق). وتاريخ الإسلام ملئ بمن حاربوا العلم، ففي عصر الخليفة الناصر ( 575 هجرية) بعث الوزير ابن يونس الحنبلي من كبس دار عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي وكان فيها من كتب الفلاسفة ورسائل أخوان الصفا وكتب السحر، فأخرجوا الكتب ورموا طيلسانه. وقال ابن رجب: " كان عبد السلام أديباً كيساً مطبوعاً، عارفاً بالمنطق والفلسفة والتنجيم وغير ذلك من العلوم الرديئة، وكان لم يفتأ غير ضابط للسانه." ( أحكام النساء لابن الجوزي، هامش ص 36 ).
وقال القاضي كذلك إن القارئ متوسط الذكاء يستنتج من مقال د. البغدادي " أن دراسة التربية الإسلامية ما هي إلا أحاديث حول الجن ". والقاضي قد أصاب هنا في استنتاج القارئ متوسط الذكاء لأن التربية الإسلامية للطفل منذ الصغر حتى الموت محشوة بقصص الجن الذين كانوا يغنون ويرقصون ليلاً على الصفا والمروة وكانوا يعبدون صنمين عليهما. والأحاديث التي تقول إن الرسول منع من الإستبراء بالعظام لأنها طعام الجن، وكيف أن الجن تزوجوا نساءَ مسلمات وولدوا منهن، وآلاف القصص عن الجن التي كانوا يخوفوننا بها. وهناك سورة كاملة في القرآن عن الجن. فماذا يريد القاضي أكثر من هذا.
واشترط القاضي للنقد المباح: " أن ينصب على واقعة ثابتة مما يفيد الجمهور ويقصد تحقيق المصلحة العامة، فلا يٌعد نقداً الخروج عن مقتضيات التعليق إلى التحقير والذراية والسخرية ". فنقد د. البغدادي انصب على واقعة بعينها، وهي قرار وزارة التربية والتعليم إحلال دروس تجويد القرآن مكان دروس الموسيقى. ولا نرى مصلحة عامة للكويتيين أكثر مما ذهب إليه الدكتور عندما حاول كبح جماح الإسلامويين المتزمتين الذين يودون إرجاع الكويت إلى القرن السابع الميلادي.
ولكن أكثر ما يؤلم في حيثيات المحكمة أن المستشار أحمد العجيل قال أنه أوقف تنفيذ عقوبة السجن لأن عدم وجود سوابق للمتهم " تحمل على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام ". والمستشار أخطأ مرتين هنا: فالدكتور له سوابق مع القانون وقد حكمت عليه المحكمة قبل سنوات بالسجن بتهمة الإساءة إلى الدين وقضى خمسة عشر يوما في السجن، غير أن ردود الفعل العالمية والمحلية المنددة بالحكم تواصلت حتى أصدر أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح عفوا أميريا عنه. والخطأ الثاني أن القاضي وصف نقد د. البغدادي لوزارة التربية والتعليم وللقائمين على التعليم الديني في الكويت بالإجرام، وما كنا نعلم قبل اليوم أن النقد يدخل في باب الإجرام. فإذا كان هذا رأي القضاة عن النقد وعن حرية الفكر، فهل من المعقول أن نتأمل أن الفكر العربي سوف يتحرر في يوم من الأيام؟
وإن لم نأمل بتحرير الفكر العربي فإننا نأمل أن يتكرم سمو الأمير جابر الصباح، أمير دولة الكويت، بإصدار عفو أميري عن د. أحمد البغدادي كما فعل سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز عندما أصدر أوامره بنقض الحكم على الأستاذ الجامعي بالرياض، وكما فعل الأمير نفسه قبل ذلك.
مواضيع ذات صلة:
الشيخ أحمد صبحي منصور: لا تهينوا الإسلام ولا تزيفوا شريعته
د. شاكر النابلسي: محنة العقل العربي: البغدادي أنموذجاً