مستقبل العراق بين الوجود والعدم (15)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لعلها كلمة صادمة أن أقول وبكل صراحة أن مّما يربك الوضع في عراقنا الجديد هو خطبة الجمعة! حقاً أنه كلام صادم، وربما كلام جارح، كيف تتحول خطبة الجمعة إلى خطر؟ وهي منبر الروح والمعنى والجمال والسناء، فيها نسمع النصح والإرشاد والموعظة الحسنة، منها نتعلم التعاون والتسامح والعطاء والصدق والعدل، وهل هناك أهم من خطبة الجمعة لسماع العظة، ولتزود بزاد التقوى، والتشبع بسماحة الدين وروحه الشفافة؟
خطبة الجمعة للأسف الشديد (ربما) تحيد عن هذا المنحى، فتتحول إلى خطبة لبث الفرقة والتكفير والتشهير، بل ما هو أسوأ من ذلك، عندما تتحول هذه الخطبة كمنبر دعاية انتخابية، وكدعاية سياسية لهذا الحزب أو ذاك، لهذه القائمة الانتخابية أو تلك، وهناك مستوى أكثر فداحة، وأكثر فجيعة، وأكثر جرما بحق الدين والشعب والناس والضمير، وذلك عندنا يستغل خطيب الجمعية لطرح رأيه الشخصي في السياسة.
نعم!
طالما أسمع من منابر الجمعية في العراق رأي (الإمام) في الأوضاع السياسية التي يمر بها البلد، سواء على صعيد الوضع العالمي أو الإقليمي أو المحلي. هذا (الأمام) يتعدى على الله، يطعن الله بالصميم، ذلك أن منير الجمعة هو ملك للمسلمين، لكل الناس، وبالتالي، من الأنانية بمكان ــ وكثير من خطباء الجمعة أنانيون ــ أن يستغل هذه المنبر الشريف لتسويق رأيه المحترم، ومن الكوارث أن الكثير من هذه الآراء ساذجة، تعبوية، شعبوية، تحريضية، لا تشم فيها رائحة تقوى.
أن الوظيفة الجوهرية للخطبة الجمعة هي الأخلاق، الخلق الإنساني، توجيه الناس نحو احترام القانون، حثهم على احترام المال العام، تشجيعهم على النظافة، والعطاء، تشخيص المشاكل الاجتماعية من طلاق، وثأر، ونهوة، ومهور غالية، وعدم التزام بتقاليد الصحة، وخيانة زوجية ... ومن ثم تشخيص العلا ج، وذلك بالخوف من الله، وبالعمل سوية على تذليل هذه المشاكل، وإشاعة الثقافة الدينية السلسلة , ولكن للأسف الشديد، نرى أن الكثير من خطباء الجمعة في العراق، خاصة أولئك المحسوبين على أحزاب ــ وبعضها صناعة مخابراتية معروفة ومفضوحة ومكشوفة ــ يوظفون هذا الكنز الروحي الجليل لمغامرات حزبية وشخصية تافهة، وليس سرا، أن بعض هذه الخطب تتناغم مع خطبة عامة نجد صداها في أوربا ولبنان وإيران، مما يكشف عن وحدة المصدر الموجه لها!
أليس ذلك صحيا؟
وقف في مرة من المرات خطيب جمعة في كربلاء المقدسة وقال (أن مجلس الحكم أكبر مهزلة في التاريخ، وأن هذا المجلس لا يمثلني ولن يمثلني)... هذا الخطيب الذي لم يجد اللغة العربية بشكل سليم، حتى أنه ألحن في أكثر من مرة في كلامه هذا، خطيب الجمعة المذكور إنما يعبر عن رأيه بطيعة الحال، بل صيغة الكلام شخصية بحتة، ولكنه أستغل منبر الجمعة ليدلي سماحته برأيه الخاص بمجلس الحكم من على منبر الناس!
أي عدوانية هذه على الله؟
أي عدوانية هذه على الناس؟
أي ديكتاتورية يمارسها هذا (المعمم) الطاغية؟
وماذا لو أستلم هذا الرجل منصبا حكوميا؟
أي رب أحم الناس من سطوة هؤلاء!
وقف خطيب جمعة في النجف الأشرف يوما وقال ما معناه (إن مهمتنا اجتثاث إسرائيل من الوجود)، ترى هل هو أمر آت من خارج الحدود؟
لوحظ أنها النغمة ذاتها التي تصدرت خطب جمعة في ذات التاريخ في شمال أوربا، وفي بلد عربي، هل هي صدفة يا ترى؟ ابحثوا عن خطبة الجمعة في نفس التاريخ في (....)!
هل هي خطبة مدفوعة الثمن؟
الآن؟
أم من قبل؟
ليس الكلام عن الموقف من اسرائيل، حيث سقطت عبارة الموت لاسرائيل في معقل صناعتها، وتخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن الشعار اليتيم، وهاهي منظمة حماس تمارس العمل السياسي، وتدخل حلبة الانتخابات التي أعدت لها أمريكا ورضت عنها اسرائيل، ليس الحديث عن اسرائيل والموقف منها، فهي كيان غاصب مرفوض، ولكن الحديث عن توظيف خطبة الجمعة لأغراض سياسية دعائية، الحديث عن توقيت خطبة الجمعة على ضوء أوامر تأتي من خارج الحدود...
وهل ينسى العراقيون أن بعض هؤلاء كانوا رأس الفتنة في تمزيق الصف العراقي هنا وهناك؟
متى كان العراق عزيزا على هؤلاء؟
ليس من حق أي قوة أن تصادر حرية الرأي، ولأمام الجمعة كل الحق بطرح رأيه السياسي بالأحداث، وبما يجري على الساحة العراقية والعربية والعالمية، ولكن ليس من حقه أبداً أن يستغل منبر الجمعة لترويج رأيه السياسي، ترى هل عدمت كل الممكنات ليستغل ببشاعة وبدائية وجشع منبر رسول الله ليعمم حضرته رأيه السياسي على الناس؟ هذه وسائل الإعلام منتشرة في كل مكان، حرة، رحبة ، فعليه أن يتوجه إليها ليجعل منها منبره السياسي، أما منبر محمد وعلي، فهو منبر الضمير الأخلاقي، وليس منبراً شخصيا لهذا وذاك، مهما كانت منزلته الروحية، وبالتالي، فإنه مخول بالوعظ والإرشاد والهداية، وليس مخولا بتخوين الناس، وترويج سياسة حزب معين، ليس مخولا أن ينتصر عبر المنبر الجميل لهذه الفئة أو تلك.
أن هؤلاء يقتلون منبر الجمعة...
ليتذكر هؤلاء أن منبر جامعة طهران كان مليونيا، ثم تحول ألفيا،والآن لا يتعدى بضع مئات، شيبة، عاطلون، متعبين، تقرا على عيونهم علامات النعاس وشهوة البقاء الكسيح...
إنهم يعرفون ذلك...
ولكن الطغيان... وكما قلت أن رجل الدين مجرد أن يلتف حوله الناس، يطغي، يتحكم، ينظر من فوق، يمشي متبخترا، لا يقرأ العالم، ولا يلتفت ما حوله، يهين المثقف والعالم (الدنيوي)، ولذا ليس عجبا أن يستغل منبر الجمعة لشهواته السياسية...
وغدا سوف نلتقي بمنبر فارغ!
وهؤلاء هم المسئولون.
وهنا لابد أن أسجل إعجابي بالكثير من خطباء الجمعة، فقد استمتعت لاحدهم يوما وهو ينصح بعدم تشغيل الأطفال الصغار، ومرة سمعت أحدهم وهو ينصح برمي النفايات بمكان بعيد عن المحلة، ومرة ثالثة سمعت أخر ينصح بتبني طفلا يتيما...
هذه هي الخطبة السليمة، وليس خطبة أولئك السياسيين، و يا ليتهم يجيدون تحليل خبر سياسي واحد بطريقة سليمة، فضاعت الأخلاق وضاعت السياسة من على المنبر المسكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
والى اللقاء في حلقة مقبلة إن شاء الله تعالى