كتَّاب إيلاف

الملف العراقي الألماني: التجنيس والجنسية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أعتقد بأن الملف العراقي الألماني من الملفات المهمة التي ينبغي التصدي لها من قبل الحكومة العراقية لما لهذا الملف من تأثير سياسي واقتصادي وانساني. و يمس هذا الأخير، في المستقبل القريب، مصائر عشرات الآلاف من اللاجئين العراقيين المهددين بالإرجاع إلى بلادهم. فضلاً عن إن الملف في جانبه السياسي مثقل من خلال التسليح المؤلم لنظام دكتاتوري بحيث ترك إرثاً ثقيلاً لدى العراقيين يصل إلى إدانة ألمانيا الإتحادية واعتبار وموقفها السلبي من عدم المشاركة في تحرير العراق ومن ثمّ في إعادة بنائه استمراراً لمواقفها ضد العراق. ولكن السياسة الواقعية التي هي سمة العصر، دون الركون إلى تشنجات وعداءات، تستلزم معالجة هذا الملف بحكمة تقود إلى إقامة علاقات طبيعية بين الطرفين تعالج كافة المشكلات الإنسانية والسياسية والاقتصادية، خاصة وإن العراق في وضعه الحالي بحاجة إلى التفاعل مع البلدان الصناعية ومع الدول التي لها ثقل اقتصادي وسياسي لبناء مستقبله.
في الجانب الإنساني : يقُدَرَ عدد العراقيين المقيمين في ألمانيا الإتحادية إبان انتخابات الجمعية الوطنية في 31 ك2 بحوالي 90000 هاجروا من بلادهم في العقود الأخيرة بسبب من الملاحقة السياسية وسوء الأوضاع المعيشية منذ أن تربع حزب البعث على السلطة في العراق وكرّس سياسة ديكتاتورية دفعت هؤلاء إلى ترك بلادهم واللجوء إلى بلدان أخرى. وبين هذا العدد بضعة آلاف أقاموا في المانيا بشطريها آنذاك هرباً من الإنقلاب البعثي الدموي في العام 1963 الذي أباح دم اليساريين والديمقراطيين الليبراليين. ومنذ قرابة أربعة عقود وحتى الآن تجنس آلاف من العراقيين بالجنسية الألمانية فسقطت عنهم الجنسية العراقية وفق القوانين المعمول بها في المانية الإتحادية و و فق القوانين العراقية إبان الحكم البعثي القاضية بعدم ازدواجية الجنسية واسقاط مواطنة اؤلئك الاشخاص الذين يكتسبون جنسية بلد آخر.. و يواجه هؤلاء في الوقت الحاضر، بعد أن تحرر العراق من النظام الدكتاتوري، أزمة حقيقية هي أزمة إنسانية وحقوقية مثلما هي أزمة قانونية تستوجب الحلول. بمعنى أن العراقي الذي اكتسب الجنسية الألمانية سقطت عنه الجنسية العراقية حيث لاتقبل السلطات التي منحته الجنسية بأن يحتفظ بجنسيته العراقية، كما أن الحكومة البعثية كانت تسقط عنه المواطنة العراقية قانوناً لدى اكتسابه جنسية بلد آخر.
وبهذا الصدد كانت ثمة اتفاقية بين الحكومة العراقية والحكومة الألمانية تقضي بأن يسلم المواطنون العراقيون جوازاتهم الى الجهات الألمانية المعنية لدى تجنسهم ليصار إلى إعلام الجهات العراقية المسئولة بذلك. وكانت الحكومة العراقية التي تقر قوانينها بعدم جواز ازدواجية الجنسية تتغافل عن أؤلئك المتجنسين الذين يعملون غالباً في أجهزتها الأمنية أو في منظمة من منظماتها الموالية، بينما تستفيد من الاتفاق المعقود لمعرفة المعارضين والتعامل مع ملفاتهم الأمنية التي كثيرا ما قادت إلى ملاحقتهم في البلدان التي يعيشون فيها ومصادرة أملاكهم والتنكيل بأسرهم في العراق. وبالمقابل فإن شرط اسقاط المواطنة العراقية وفق القانون الألماني يعني انقطاع الشخص عن بلده الأصلي والحيلولة دون الاستفادة من إدارة شؤون ملكيته وموجوداته في بلده الأصلي.
لقد أقرت الحكومة العراقية الموقتة بعيد سقوط النظام الدكتاتوري مبدأ ازدواجية الجنسية آخذة بنظر الاعتبار هجرة ملايين العراقيين ولجوئهم إلى بلدان أخرى، ومع ذلك يبدو هذا القرار ناقصاً من حيث أنه صادر عن حكومة موقتة تعيش أوضاعاً لم تمكنها حتى الآن من أن تقيم علاقات دبلوماسية ممثلة بسفارات متكاملة التمثيل تعني بتفاصيل العلاقة بين العراق والبلدان الإخرى، و قد تغيّر حكومة منتخبة في نهاية العام الحالي بعض القوانين التي صدرت إبان وجود الحكومة الانتقالية. أما فيما يخص عمل السفارات العراقية في الوقت الحاضر، وخاصة السفارة في المانيا الاتحادية، فهي لم تستكمل عدتها وتبلور رؤيتها لمشكلات العراقيين عموماً ومشكلات إقامتهم وجهة انتمائهم وشرعية اصدار جوازات عراقية جديدة لهم ولأبنائهم بما لا يتعارض مع القوانين الألمانية.
لدى زيارة عبد القادر آقصو وزير الداخلية التركي لألمانيا الإتحادية ( إنظر أيضاً ايلاف 12 أبريل ) طلب منه نظيره اوتو شيلي وزير داخية ألمانيا الاتحادية تسليمه قائمة بأسماء مواطنين أتراك تجنسوا بالجنسية الالمانية ويقدر عددهم بحوالي 50000 ثمّ عادوا وحصلوا من الحكومة التركية على جوازات سفر باعتبارهم مواطنين أتراك مما ينافي قوانين التجنس الألمانية. وعاتب الوزير شيلي نظيره لأنه لم يجلب معه تلك القائمة وطلب منه تحضير وتسليم قائمة بأسمائهم. وفي حديث مع آقصو قال وزير الداخية الألماني : انه لايمكن القبول بأن يكون الأتراك الذين تجنسوا وأصبحوا مواطنين ألمان أن يتجنسوا بالمواطنة التركية مجدداً. وقال : نحن لا نقبل بهذا.
وكما أوضح آتو شيلي بأن هؤلاء ستسحب عنهم المواطنة الألمانية ولا يعود لهم الحق في البقاء في المانيا الإتحادية، وربما لدواعي انسانية يمكنهم تقديم طلبات الحصول على البقاء موقتا في البلاد وفي إطار فقدان امتيازات المواطنة، والتي تعني فقدان مشروعية اقامتهم من غير عمل وفقدان كافة الامتيازات لجهة الضمان الاجتماعي والصحي وغيرها.
في الواقع ان قوانين ألمانية الإتحادية الصارمة في التجنس، والتي تنتقد من قبل العديد من الدول باعتبارها غير ملائمة للعصر، بل إنها تنطلق من منطلق التعصب للهوية الألمانية، تلزم المواطنين العرب المتجنسين بالإنقطاع عن بلدانهم التي وفدوا منها. ولكن عدد المواطنين العرب قليل جداً بالمقارنة مع أعداد العراقيين الذين تجنسوا بالجنسية الألمانية. وهكذا فإن الملف العراقي الألماني يتسم بالتعقيد وبتنوع المشاكل التي تحتاج في الواقع إلى حلول، قد تكون صعبة ولكنها على أية حال بحاجة إلى التصدي لها من قبل الحكومة العراقية للوصول إلى اتفاقات وتسويات لصالح الأعداد الكبيرة من اللاجئين العراقيين والمتجنسين ولصالح مستقبل العلاقات العراقية والألمانية الاتحادية.
عدا عن المتجنسين العراقيين بالجنسية الألمانية يبلغ عدد اللاجئين العراقيين وفق الاحصائية التي قدمت في الانتخابات حوالي 90000 عراقي. ومعظم هؤلاء قدموا لاجئين وتقدموا بطلب قبولهم سياسيين هربوا من عسف وملاحقة النظام البعثي الدكتاتوري، ولكن القوانين الألمانية الصارمة والتشدد في فتح حدود البلاد أمام اللجوء، والضغوطات السياسية الداخلية فضلاً عن الأزمة الاقتصادية التي تلف البلاد من أكثر من عقد لم يتح إلاّ لعدد قليل من اللاجئين العراقيين بأن يعترف بهم كلاجئين سياسيين. ويبقى عشرات الآلاف منهم يقيم في البلاد إقامة موقتة أو إقامة لدواعي انسانية. وهم مهددون بالارجاع القسري الى العراق. وتنتظر السلطات الألمانية ساعة تسفيرهم عندما تهدأ عمليات الإرهاب. وفعلا بدأت ببعض الاجراءات بتسجيل الاسماء وبسحب جوازات السفر الموقتة التي تمنحها لبعض اللاجئين.
أما في الجانب السياسي فإن العلاقة الألمانية العراقية في العقود الماضية اتسمت بالجودة مع النظام البعثي. وبغض النظر عن التفاصيل السياسية الايجابية والسلبية في تلك العلاقة فان الجانب الاقتصادي برز على نحو واضح في بحيث بلغ حجم التبادل التجاري مستوى عالياً وساهمت كثير من الشركات الألمانية في إنشاء مشاريع كبيرة في العراق. ولكن أسوأ ما تلك العلاقة يكمن في الجانب التسليحي لنظام الدكتاتور صدام. وكانت تقارير عديدة قد أشارت وسمّت أسماء حوالي 300 شركة ألمانية ساهمت في تسليح الجيش العراقي وبضمنها الأسلحة والغازات السامة التي استعملها النظام وراح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين. وقد جاء أيضاً في تقرير رئيس لجنة التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل المكلفة من قبل الامم المتحدة بأن المانيا الإتحادية وردت للبظام العراقي في ديسمبر 2002، رغم المقاطعة، اسلحة ومواسير خاصة تدخل في بناء وتركيب صواريخ بعيدة المدى. وكان سياسيون قد أعلنوا بأن المانيا دربت في وقت سابق ضباطاً عراقيين من الدرجة الأولى للمخابرات وللجيش العراقي. ويبدو أن موقف ألمانيا الاتحادية، فضلاً عن التسليح الواسع والتدريب المكثف، اتخذت موقفاً حاداً في مناهضة قرار تحرير العراق، واتخذت مواقف سلبية من دعم العملية واستنكفت عن المساهمة في الجهد العسكري والسياسي لإعادة إعمار العراق، يبدو أن هذا الموقف ترك آثاراً سلبية لدى الكثير من المواطنين العراققين بقدر ما ترك لدى السياسيين العراقيين الذين يديرون التحول في العراق الجديد. ومع أن ألمانيا بدأت تخطوا بعض الخطوات الخجولة بتدريب أعداد صغيرة من أفراد الجيش العراقي إلاّ أنها مازالت غير ميالة لتكثيف مساهمتها في العملية الجارية.
وهكذا فإن ملف العلاقات العراقية الألمانية مثقل بالمشكلات في جانبها السياسي والإنساني. وأعتقد بأن التصدي لهذا الملف ينبغي أن يكون جاداً ومثمراً في آن واحد، لأنه يتعامل في الواقع مع مصير العراقيين في المانيا ومع مستقبل العلاقات بين العراق الذي هو بأمس الحاجة إلى علاقات مع دولة متقدمة صناعياً وتقنياً، بالإضافة إلى ضرورة تضميد جروح الماضي الذي سببتها المساهمة غير المسئولة بل اللاانسانية في مجال التسليح الألماني لنظام دكتاتوري معلن. كما أعتقد بأن حكومة عراقية ستنتخب في نهاية العام الحالي مؤطرة بمجلس نيابي وبقوانين تشريعية ينبغي عليها أن تتصدى لهذا الملف باعتباره ملفا مهماً في علاقة العراق بالدول الأخرى دون إغفال عن مصالحها وتثبيت مواقفها بشكل معلن وصريح.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف