هل يصلّي المسلمون بالعبريّة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الإشكاليّات الّتي قد تثيرها بعض المفردات الشّائعة في لغة الحضارة العربيّة والإسلاميّة قد تكشف لنا عن جوانب هامّة لها أبعاد تتعدّى الجانب اللّغوي المحض فتلامس علاقات وتثاقفات بعيدة الغور لا زالت مستترة عن أعين الكثيرين. ومن بين هذه المفردات أودّ التّوقّف عند واحدة هي من أهمّ هذه المفردات الّتي وردت في القرآن والأحاديث النّبويّة، والتي كثيرًا ما تُستعمل في التلبيات والصّلوات، وأعني بها مفردة "اللّهُمّ". وهذه المفردة كما سيتّضح فيما يلي هي مفردة عبريّة صيغةً ونُطقًا.
غنيّ عن القول إنّ علاقة الإسلام باليهوديّة في جزيرة العرب معروفة ولا حاجة إلى تكرار الحديث عنها. فاليهوديّة كانت شائعة في جزيرة العرب وبين قبائل العرب، حيث كانت اليهوديّة شائعة في حمير وبني كنانة وبني الحارس بن كعب وكندة. ومع بداية الدّعوة الإسلاميّة فقد حاول الرّسول السّير على خطى اليهوديّة، فمن ذلك مثلاً، ما يتعلّق بصوم عاشوراء، وهو يوم الكفّارة، أي الغفران، فقد أخرج البخاري في الصّحيح: "عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال ما هذا، قالوا: هذا يوم صالحٌ، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى، فقال: أنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
وقبل الولوج في التّطرُّق إلى مسألة مفردة "اللّهمّ"، لنقرأ معًا أوّلاً ما يرويه لنا ابن سعد في طبقاته الكبرى: "أخبرنا إسماعيل بن عبد اللّه بن أبي أويس المدني قال: حدّثني أبي عن أبي الجارود الرّبيع بن قُزيع عن عُقبة بن بشير أنّه سأل محمد بن عليّ: منْ أوّل من تكّلم بالعربيّة؟ قال: إسماعيل بن إبرهيم، صلّى اللّه عليهما، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، قال قلتُ: فما كان كلامُ النّاس قبل ذلك يا أبا جعفر؟ قال: العبرانيّة. قال قلت: فما كان كلام اللّه الّذي أُنزلَ على رسله وعباده في ذلك الزّمان؟ قال: العبرانيّة". (الطبقات الكبرى،ج ١، ص ٠٥).
وفي حديثه عن أميّة بن أبي الصّلت يذكر الأصفهاني في كتاب الأغاني: "كان أميّة بن أبي الصّلت قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المُسوح تَعبّدًا وكان ممّن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفيّة، وحرّم الخمر وشكّ في الأوثان، وكان مُحَقِّقًا والتمسَ الدّين وطمع في النّبوّة لأنّه قرأ في الكُتب أنّ نبيًّا يُبعَثُ من العرب فكان يريدُ أن يكونَه" (الأغاني،ج ٤، ص ٩٢١).
وعلى ما يبدو، وكما يروي لنا السّلف أيضًا فإنّ كتاب اللّه الأوّل مكتوب باللّغة العبريّة وليس العربيّة. كذا يذكر ابن قتيبة ويروي الأصفهاني في الأغاني: "عن عبدالله بن مسلم قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفُها العربُ...، وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة"، (الأغاني ج ٤، ص ٨٢١-٩٢١). وكلام ابن قتيبة هذا يعني أنّهم لا يحتجّون بشعره في ما يخصّ اللّغة العربيّة ومفرداتها لأنّه يأتي بكلمات من »كتاب اللّه عزّ وجلّ الأوّل« الّذي قرأه، والمكتوب بالعبريّة بالطّبع.
لنعد إذن بعد هذا التّقديم إلى البحث في مفردة "اللّهمّ" الّتي نحن بصدد الكشف عن بعض الجوانب المستترة فيها والّتي غابت عن أعين السّلف.
ما معنى القول إنّ أمية بن أبي أبي الصّلت كان يأتي في شعره بأشياء لا تفهمها العرب؟ والجواب على ذلك واضح، ويمكن اختصاره في أنّه كان يأتي بمفردات غير عربيّة ممّا قرأه في الكتب، وهي كتب باللّغة العبريّة بلا أدنى شكّ. ولهذا يزوّدنا الأصفهاني في مكان آخر بإشارة إلى مركزيّة هذه المفردة: »ويُقال إنّ أميّة قدم على أهل مكّة »باسْمِكَ اللّهُمَّ« فجعلوها في أوّل كُتبهم مكانَ »باسم اللّه الرّحمن الرّحيم«، (الأغاني، ج ٤، ص ٠٣١).
لقد احتار الأقدمون في أمر هذه المفردة، فكيف حاولوا تفسير هذه الصّيغة؟"قال الفرّاء: معنى اللّهمَّ: يا أللّه أُمَّ بخير. وقال الزّجّاج: هذا إقدام عظيم لأنّ كلّ ما كان من هذاالهمز الّذي طُرح فأكثر الكلام الإتيان به، يُقال ويلُ أُمّه وويل امّه، والأكثر إثبات الهمز... وقال الزّجّاج: وزعم الفرّاء إنّ الضّمّة الّتي هي في الهاء ضمّة الهمزة الّتي كانت في أُمّ، وهذا مُحال أن يُترَك الضّمّ الّذي هو دليل على نداء المُفرد، وأن يُجعل في اسم اللّه ضمّة أُمَّ، هذا إلحاد في اسم اللّه... قال أبو إسحق، وقال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم: اللّهمّ بمعنى يا أللّه، وإن الميم المشدّدة عوض من يا، لأنّهم لم يجدوا يا مع هذه الميم في كلمة واحدة، ووجدوا اسم اللّه مستعملاً بيا إذا لم يذكروا الميم في آخر كلمة، فعلموا أنّ الميم في آخر الكلمة بمنزلة يا في أوّلها. والضّمّة الّتي هي في الهاء هي ضمّة الاسم المنادى المفرد، والميم مفتوحة لسكونها وسكون الميم قبلها"، (لسان العرب، ج ٣١، ص ٠٧٤).
والسؤال الّذي يفرض نفسه هو، لماذا احتار السّلف في أمر هذه المفردة؟
ما من شكّ في أنّ سبب هذه الحيرة يكمن أوّلاً في كونها صيغة غريبة لا يوجد لها مثيل في اللّغة العربيّة، ناهيك عن كونها مفردة مرتبطة باسم الجلالة لا غير، بالإضافة إلى كونها مفردة كانت شائعة قبل الإسلام وخاصّة في تلبيات الجاهليّة. ولهذا السّبب طفقوا يبحثون عن تعليل لهذه الصّيغة الشّائعة والفريدة.
والحقيقة هي أنّهم لو كانوا يعرفون اللّغة العبريّة لهان الأمر عليهم. ولكي لا أبقي مجالاً للشكّ في ما أرمي إليه من أنّ هذه المفردة هي مفردة عبريّة، دعونا نذهب إلى كتاب سيبويه ونقرأ ما ورد فيه بشأن »اللّهمّ«: "وقال الخليل رحمه اللّه: اللّهمّ نداء والميم ها هنا بدل من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه اللّه آخر الكلمة بمنزلة يا في أوّلها، إلاّ أنّ الميم ها هنا في الكلمة كما أنّ نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها. فالميم في هذا الاسم حرفان أوّلهما مجزوم، والهاء مرتفعةٌ لأنّه وقع عليها الإعرابُ. وإذا ألحقت الميم لم تصف الاسمَ، من قِبَلِ أنّه صار مع الميم عندهم بمنزلة صوت كقولك: يا هَناهْ... فقد صرّفوا هذا الاسم على وجوهٍ لكثرته في كلامهم، ولأنّ له حالاً ليست لغيره ... والشّيء إذا كثر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره ممّا هو مثله كتاب سيبويه، ج٢ ص ٦٩١-٧٩١.
إذن، المفتاح الّذي نفتح به مغاليق هذه المفردة هي ما يذكره سيبويه، من خلال إشارة عابرة، بشأن الميم الّتي في آخر اللّهم، والإشارة هي: "إلاّ أنّ الميم ها هنا في الكلمة كما أنّ نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها".
ما هي نون المسلمين هذه؟ هذه النّون، كما يعلم الجميع، هي نون جمع المذكّر السّالم. إذن، الميم في مفردة اللّهمّ هي بمثابة نون المسلمين، أي تفيد الجمع. وهذه الميم بالذّات هي علامة الجمع في اللّغة العبريّة. ومثال على ذلك، كلمة يهودي تُجمع في العبريّة: يهوديم، وكلمة عربي تُجمع: عربيم، إلخ. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ مفردة اللّه، كما وردت في التّوراة، هي بصيغة الجمع في اللّغة العبريّة، أي: إلهيم، وبالحرف العبري: אלהים.
من هنا نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه، وهو أنّه ومن كثرة استعمال كلمة إلهيم العبريّة في جزيرة العرب بتأثير اليهوديّة والنّصرانيّة، فقد بقيت عبريّة في نطقها، أي إلهيم، ثمّ تحوّلت مع مرور الزّمن إلى هذه الصّورة "اللّهم" في العربيّة، وبقيت ميم الجمع العبريّة معها. ولذا، على ما يبدو فقد قال سيبويه إنّ ميم اللّهم بمنزلة نون المسلمين، دون أن يفصح.
لقد اقتضى الأمر أن نفتح مغاليق هذه المسألة ونُفسّر هذه المفردة على حقيقتها، ليكون قولنا بذلك قولاً فصلاً تكمل معه المعرفة.