في رثاء محمود عطا الله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نبيل شرف الدين:
محمود عطالله .. مرثية رجل مخلص
ربما لا يعرف قراء (إيلاف) الكثير عن الفقيد محمود عطالله، ولا عن دوره في كواليس مطبخها الصحافي، تماماً كما كنت أجهله شخصياً قبل نحو عامين حين أسند إليه ناشر (إيلاف) الأستاذ عثمان العمير، مهمة إدارة التحرير، وفي البداية سألت عنه الزملاء الذين اندهشوا أنني لا أعرفه، رغم أنه "بلدياتي" من مصر، وأنه أحد "أساطين المهنة" وحرسها القديم، بل وينتمي منذ سنوات تكوينه لمؤسسة "الأهرام" التي أنتمي إليها أيضاً، وكانت بالفعل هذه واحدة من نتائج انسحابي الطوعي عن مشهد الصحافة الصاخب، وشوارعه الجانبية، لكن كان هناك أيضاً أمر ما ـ تبينته في ما بعد ـ في شخصية الفقيد ساهم في جهل الكثيرين به، وهو ميله الصادق للانزواء بعيداً عن الأضواء والضجيج، وإيثار العمل بإخلاص نادر من خلف الكواليس، وفق تقاليد مهنية صارمة، ربما كانت سمة أصيلة من سمات ذلك الجيل من "شيوخ المهنة"، وهو أمر لم يكن بالطبع غائباً عن ذهن الناشر حين قرر في لحظة فارقة من عمر (إيلاف)، والتي كانت تنتقل فيها من مرحلة التأسيس إلى لحظة "المأسسة"، بمعنى الاحتراف القائم على عمل مؤسسي، لا مكان فيه للتقديرات الشخصية، بل للمعايير الموضوعية، التي ستكون هي في نهاية المطاف معيار نجاح تجربة الصحافة الإليكترونية، التي أزعم أن (إيلاف) واحدة من إرهاصاتها الرائدة على الصعيد العربي برمته .
ومنذ اليوم الأول لإدارة فريق (إيلاف)، بدا الفقيد ملماً بتفاصيل دورة العمل اليومية، وقدرات كل الزملاء، إلى الحد الذي يصعب معه تصور أنه جديد على هذا الكيان الافتراضي، أما الأكثر إثارة في هذا السياق فإن طبيعة التواصل اليومي بين الزملاء المراسلين والمحررين التي تفرضها علينا مقتضيات الشبكة، كأن نكون في عدة قارات، لا يجمع بيننا سوى برامج التخاطب والحوار عبر الإنترنت، الأمر الذي حرمنا من التواصل الإنساني، وكيمياء التفاعل بين البشر، لدرجة أن معظم العاملين في (إيلاف) لم يقدر لهم لقاء حقيقي ولو لمرة واحدة، وبالتالي فقد اندهش كثير من الزملاء حين فوجئوا بأن محمود عطالله، "شاب" في العقد السابع من عمره، ومع ذلك فقد تعلم كيفية التواصل مع هذه الشبكة الرائعة، التي غيرت وجه العالم كما لم يحدث من قبل، ولم يجلس واضعاً يده على خده قائلاً إن وقت التعلم والخبرات الجديدة قد مضى، أو ينظر للأمر باستعلاء لا معنى له، كما يفعل كثيرون ممن يجثمون على صدر المهنة وأبنائها منذ عقود طويلة، بينما يفتقدون لأبسط قدرات الصحافي العصري كالتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، وإجادة لغة أجنبية واحدة على الأقل، جنباً إلى جنب اللغة العربية الأم التي ينبغي عليه أن يجيدها أولاً، بل وليتهم يكتفون بهذا الجهل المخجل، لكنهم رغم ذلك يتعالون على الأمر، مادامت جيوش السكرتارية والمترجمين والمعاونين رهن إشارة من أصابعهم القابضة على آلة الإعلام العربية، التي لا تختلف كثيراً في أعراضها وأمراضها عن آلة الحكم، مثل التكلس والجمود والتخلف والاستبداد والتحريض والكيل بمكيالين وانعدام معايير العدل والكفاءة، مقابل شيوع معايير شخصية كإيثار المصالح الذاتية على غيرها من المصالح المرسلة، ناهيك عن ضيق الأفاق والصدور، أمام كل موهبة أو كفاءة تبشر بالخير، إذ يبادرون مع صبيتهم إلى تهميشها وعزلها والتضييق عليها وتجاهلها ومحاربتها بكل وسيلة ممكنة .
بدا الفقيد محمود عطالله منذ الوهلة الأولى لعلاقتنا المهنية، مثل أي شاب في مقتبل العمر، يتعلم كل ما هو جديد، ويسعى إلى المعرفة ولو أتت من شباب أصغر من أبنائه، ويمضي ساعات أمام شاشة الكمبيوتر، يتصفح مواقع الإنترنت، ويسهم معنا في رئاسته للاجتماع اليومي، الأغرب وربما الأول من نوعه، الذي يجري عبر الشبكة من عدة قارات، فيقترح أفكاراً، ويتابع ما نفذ من مقترحات، ويستمع للصغير قبل الكبير، ولكل شكوى، ويدقق ما يرد من ملحوظات عبر البريد، ويقيم ما تم إنجازه من ملفات، ولم يبد تأففاً من مشقة الكتابة على لوحة المفاتيح، خاصة لرجل في مثل عمره، كان القسط الأكبر من حياته ابن ثقافة الأوراق والأحبار، ليجد نفسه فجأة أمام "قارة جديدة" من الخبرات، وجيل جديد من المحررين لهم ذائقة مختلفة وأدوات لم تكن لتخطر على بال جيله إلا من باب "الخيال العلمي"، ومع ذلك تفاعل الرجل بشجاعة نادرة، وراح يدشن لمنظومة جديدة من التقاليد، وهو المغرم بها بطبعه، فيوزع علينا كتيباً من إعداده عن اللغة الصحافية السليمة، وهو العاشق الحقيقي للغة العربية، والغواص الماهر في محيطها، وهنا أذكر أن أكثر ما كان يثير حفيظته أن يضبط صحافياً متلبساً بارتكاب خطأ في اللغة، نحواً أو صرفاً، فضلاً عن الإملاء، وطالما ردد أن هناك ثلاث خطايا لا تغتفر للصحافي "الكذب، وشهوة الانتقام، والجهل باللغة"، ويسهب في شرح مخاطر كل خطئية على حده، ليصل إلى مسألة اللغة هذه وكأنها "ملعبه المفضل" قائلاً إن لكل مهنة أدوات، ولا يتصور وجود رسام لا يعرف كيف يستخدم الفرشاة، ولا موسيقي لا يعرف كيف يعزف، ونحن كصحافيين فإن أهم أدواتنا هي اللغة، فهي وسيلة تواصلنا مع الناس، ومن دونها لا صحافة ولا صحف ولا كتابة ولا كتب، وأنه لا يمكن النظر لهذه المسألة باعتبارها ثانوية .
التقيت العم محمود، كما كنت أحب أن أناديه للمرة الأولى والوحيدة في مكان اختاره بنفسه، وهو ما يعكس ذوقه الكلاسيكي الذي عززته سنوات الإقامة الطويلة في بريطانيا، بلاد التقاليد العتيدة والقواعد الصارمة، كانت هذه المرة قبل نحو عام حين زار القاهرة، اتصل بي وضرب موعداً للقاء بمقهى فندق "النيل هيلتون"، وهو لمن لا يعرف من أقدم مقاهي الفنادق المصرية، وكان شاهداً على أحداث وشخصيات تركت بصمات لا تنسى في تاريخ مصر والمنطقة بأسرها، أدركت منذ أن حدد لي هذا المكان، أي طراز من الرجال هذا الذي أتعامل معه يومياً عبر الإنترنت، دون أن ألتقيه مرة واحدة، فهذا الاختيار في حد ذاته، ليس من باب المصادفات، بقدر ما يعكس "ذائقة جيل" من حراس مهنة الصحافة وحرسها الحديدي، لأن هذا المكان، الذي لم يعد كما كان، يختزل حالة من الحنين "النوستالوجيا" لزمن كان بوسع الصحافي فيه أن يغير وزارة، وأن يجبر وزيراً على الاستقالة، حين كان الصحافي مهنياً مستقلاً، لا يبحث عن تذكرة سفر مجانية، ولا عن منصب يعتلي به رقاب البلاد والعباد، بل كان ينصب نفسه نائباً ـ غير منتخب ـ عن البسطاء، وحائط دفاع عن مصالحهم، لكن هكذا كان محمود عطالله وجيله من "أساتذة المهنة"، كان الرجل لا يميل إلى لغة تقديم النصائح المجانية لكل عابر سبيل، بل تكفي الإشارة، ولمن لا يفهم، أو لا يريد أن يخوض غمارها، ليصل بنفسه إلى الخبرات التي هي أثمن عرضها مجاناً، أو حتى لا يصل، فسلوك التعالم وادعاء الحكمة لم يكن يوماً من سمات هؤلاء المخلصين الحقيقيين لمهنة إن لم تجد من تلتهمه، التهمت أعز الأبناء، تماماً .. كما أفعل أنا الآن، حين أكتب عن أستاذي محمود عطالله، الذي التقيته قبل ساعات في آخر اجتماع "افتراضي" عبر الإنترنت صباح اليوم، ولم يشأ الرجل أن يعتذر رغم مرضه، بل حضر وشارك وقاد الدفة، مثل أي ملاّح يدرك جيداً مدى خطورة أن يكون المرء مسؤولا عن سفينة أبحرت بالفعل وسط العواصف وأسماك القرش والحيتان، ويعلم أن الأمر تجاوز الحرص على حياته وحده فحسب، ليصل إلى الحرص على مستقبل جيل سيذكرون هؤلاء الربابنة بكل الخير، وكل الوفاء لما قدموه للمهنة وللبسطاء وللحياة برمتها، التي ستستمر، ولن تتوقف عند أحد، ولعله انطلاقاً من هذه القناعة التي وصل إليها هؤلاء "الآباء المؤسسين" لهذه المهنة القاسية، ما جعلهم يدركون ببساطة وصرامة أنه ليس هناك ثمة ما يستحق أن يبيع المرء ضميره من أجله، وأنه ليس هناك ما هو أثمن من "ضمير حيّ"، هو بكل يقين المعيار الحقيقي لإنسانيتنا، وقيمة ما نختزنه في نفوسنا من خير هو آخر ما يبقى منا، حتى لو رحلنا عن هذا العالم .
عم محمود .. صعب أن أرثيك، ولم يكن سهلاً أن أكتب عنكم هذا في حياتكم، لإدراكي أنك لم تكن من ذلك الطراز المغرم بسماع عبارات الإطراء، حتى لو كانت في موضعها، ولأنك لم تضبط يوماً متلبساً بممارسة "تورم الذات"، بل عشت ومت متواضعاً حقيقياً دون أدنى ادعاء، شأن كل الأخيار الطيبين الكبار، الذين آثروا العمل بإخلاص نادر على الصخب، والعطاء حتى الرمق الأخير على ثقافة الخطف، وسلوك "الخطافين" المنتشرين في كل حدب وصوب، وكأنني أرى ابتسامتك عم محمود وأنت ترقد وادعاً بسلام .. قرير العين، راضياً مرتاح الضمير، فلك .. ولوالدينا ولكل من أضاء شمعة في هذا الكون، كل الرحمة والمغفرة، وسبحان من له الدوام.
***
نصر المجالي:
محمود عطالله .. آه ياني
ترحل يا صديقي بعد نصف ساعة من حديثي الهاتفي معك لماذا؟ وها أنا ارمي القفاز إليك ، وكنت عودتني اسمع منك كلمة "آه ياني" كلما حلّ خطب.. واليوم آه ياني يا أبا كريم الغادي المرتحل بعيدا.. في يوم رحيلك تستحق كلمتا آه ياني معناهما.. ولم اكن أصدق نعيك،، ألم تك قبل 30 دقيقة من وداعك الأخير معي على الهاتف توصيني خيرا بما اتفقنا على تسميته طفلتنا "إيلاف" وناسها وأهلها، ولم تسمع مني حين قلت لك "إذهب إلى طبيبك،، لقد اعتبرتها مزحة ثقيلة مني.. أليس كذلك؟ فمثلك لم يكن مسكونا بهوس الأطباء والموت سواء بسواء، رغم القلب الصلب المصلوب في السنوات العشر الأخيرة،، صعقت يا ابا كريم من رسالة ناصر الغنيم مديرنا العام يقول لي فيها "العوض بسلامتك؟؟" ولقد اعتبرتها واحدة من مزحاته إياها مخففا عنا النرفزة وعطب الأعصاب في دوامة عمل ممتد 24 لا ينقطع.
محمود عطا الله آه ياني، عرفتها منك منذ 22 عاما حين اللقاء الأول في صحيفة (الشرق الأوسط) حين تتداعى الأحداث والتقارير وتزدحم صالة التحرير بتقارير المراسلين وأخبار الوكالات حين يصب حدث جلل جام غضب علينا في وقت الذروة.. لقد كنت الوحيد تعتلي الذروة بيننا صبرا، ودأبا.. وحتى كانت تصدر الطبعة الأولى كنا نلقي عصا الترحال في مكتبك نرتاح إلى تلك الآه ياني،، تزيل عن أكتافنا الصغيرة وعثاء مسابقة الريح في إضافة آخر معلومة تصل حتى يكون تقريرنا الخبري مكتملا لغة وتحريرا وعنونة وصورة مرافقة وتزداد (الشرق الأوسط) في مباشرتها لقرائها ألقاً وجاذبية.
ومع الموعد الثاني بعد نيف وثلاث عشرة سنين عددا، نلتقي ثانية نحن "جماعة عثمان العمير" في ديرة ابنته (إيلاف) حيث هي اسم على مسمى، لتجمعتنا تحت سقفها الافتراضي الالكتروني من مطلع الشمس إلى حيث مغيبها كوكبة تتداخل أجيالها وأجناسها وجنسياتها لتشكل فريقا متناغما تذوب فوارقه الجنسية والعمرية في مسيرة عطاء لا ينضب وإنجاز يرقبه الجميع ويحنو عليه ويتابعه بشغف ومتعة لا من مثلها من قبل ولا من بعد.
وآه ياني، يترجل محمود عطا الله عن السرج فجأة، كواحد من الفرسان المرموقين في بلاط صاحبة الجلالة، فارسا عف اللسان حيث تلوثت ألسنة كثيرة، شهما حيث تكالبت زمر من العصابات الغثة في محاولة لطرد العملة الثمينة السمينة من السوق الذي لا بد أن يكون صنّاعه وتجاره وسابكي معادنه الثمينة من الأحرار ليس العبيد والمتسولين والمرتزقة من هواة الوقوف على بوابات العطاء الزائف المبتذل لشراء الذمم والضمائر،، ولقد كنت يا أبا كريم من الكاظمين الغيظ العافين عن الناس، هكذا عرفتك الأهرام والشرق الأوسط وشارع فليت ستريت ثم "إيلافنا المؤتلفة جهود ناسها وأهلها ائتلافا عز نظيره في زمن الضياع والغربة لتشكل وطنا للجميع يتفيأون تحت ظله وظلاله.. وكلمة لا تخشى في الحق لومة لائم وبشر الصابرين".
ترجلت أبا كريم اليوم، نودعك بصبرك وعزمك فأنت عشت ورحلت مرابطا صديقا صدوقا للصدق وأهل الصدق وأولي العزم من الرجال الرجال ، هنيئا لمن نعزيهم بك اليوم وأولهم نحن ذكراك العطرة العبقة، ستبقى هذه الذكرى معتمرة صدورنا وآمالنا وطموحاتنا فدربنا طويل طويل، وكنت أحد شمعاته التي لم تنطفىء في دياجير خلت من العتمة،، لقد رحلت عنا ضياء صافي القلب طاهر السريرة صادقا نقيا.
محمود عطا الله بياك يابه ،، وآه ياني. معذرة،، دموعنا وقلوبنا المكسورة المهيضة الجناح بفقدك تودعك. ووعدا لك فالمسيرة ستستمر، ألست من طلب مني آخر طلب هو أن أتابع وأظل أتابع،، إيه يا صديقي ،، أعد بأن أظل أتابع.
***
زهير كاظم عبود:
محمود عطا الله.. وداعاً
للكلمة رفقة الدرب، ولمتابعة الحقيقة رفقة الالتزام، وأن تكون الكلمة صادقة وصريحة وواقعية ومن اجل المستقبل هدفاً تسعى "إيلاف" التي نرعاها ونصونها ونحرص عليها لأن تكون غايتها وراعيتها. غير أن لرعاية الراحل محمـود عطا الله طعماً خاصاً، فقد كان يسقيها بماء القلب، ويمنحها من روحه، ويجللها بمحبته.
محمود عطا وكل الطيبين الذين أستمروا يسقون الكلمة في ساقية "إيلاف" من أجل أن تكون لنا صفحة تليق بمستقبلنا لاتحدها الحدود ولاترسم لها السلطات خطوطاً حمراء، صفحة رقيبها الحقيقة وحدودها المستقبل الذي يليق بالإنسان في منطقتنا الغارقة بالمحن.
محمود عطا الله الذي شكل مع رفاق الدرب وحملة الأمانة بقاء شعلة "إيلاف" متألقة ومتوهجة تنير ظلمة الكلمات فتبدو مشرقة وواضحة. غير أن محمود عطا الله آثر أن يتوقف بعد أن ادى ماعليه من مهمة رسمها بضميره، رحل محمود عنا بعد ان سلم الراية ليخلد الى الراحة الأبدية بعد أن حلقت روحه راضية مرضية.
محمود عطا الله وداعاً غير أن "إيلاف" ستبقى بعدنا رمزاً لمتابعة الحقيقة والمستقبل العربي.
محمود عطا الله وداعاً وسيكمل رفاقك الطريق.
***
سمية درويش من غزة:
وداعا سيدي... أبو كريم
تساقطت كل الكلمات حتى كاد قلمي يبكي كشدو الكروان عاجزا عن وجود أي معني في كل المعاجم ، واصفا فارس الكلمة.
فطعنات الزمان في عمره لم تثن عن ترجل الكلمة حين ذابت أيامه مع أوراق الصحافة وهام عبير سحره عبر الشبكة العنكبوتية.
مكث بيننا هادئا وغادرت يا أبا كريم بكل صمت حتى انفطر القلب لوعة لعدم لقياك ، ولطالما تمنيت أن تطأ قدميك ارض فلسطين، ناهما من ثراتها ، مسامرا أهلها، حين طغى المرح على حوارك متخيلا انك تتذوق البيتزا في بيتي مع أطفالي الذين طالما مازحتهم.
ويا ليت الأقدار أمهلتني المزيد من الوقت في اكتشاف طيات أيامك ،وكيف لي أنسى عملاقا فارق كل حدود العمر محتضنا مراحل شبابه بكل اتزانها ومرحها.
فطالما تمنيت امتطاء هذه الحدود وعبور البحر لألتقي به ولو رشفة قهوة لعلي ارتشف معها من انهار ثقافاته ولو بعض الشئ.
ولكني أقول عذرا سيدي عذرا أيها الفقيد إن لم أسير في جنازتك مشيعا ،ولكني استحلفت كل النوارس ، وهمست للكروان ان يحلق جوارك يشدو بكل كلمات الرثاء.
عبدالله زقوت من غزة:
في رثاء محمود عطالله
هناك رجال يصنعون الأحداث .. و هناك رجال يصنعون التاريخ .. و يسجلون أسمائهم في لوحاته المشرفة .. بحروف من نور .. تخلدهم الأجيال لعطائهم اللامحدود .. لعمق انتماءهم لأمتهم العربية و الإسلامية .. و قضاياها العادلة.. كل حسب اختصاصه .. و هذا هو حال محمود عطا الله رحمه الله .
عرفت الأستاذ محمود عطا الله – رحمه الله - عندما هاتفني للمرة الأولى في تشرين ثاني ( نوفمبر ) 2004 م .. إبان فترة من الأحداث العصيبة التي مرت بها فلسطين .. اطمأن على حالي .. على وضعي .. حفزني .. شجعني .. طلب مني المزيد .. لم يدر ببالي أن أتحادث معه .. سمعت رنين هاتفي .. و إذا به يعرفني على نفسه .. تلك لحظات لن أنساها طوال حياتي .. طلب مني تقريرا للوضع العام إبان رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات .. لم أتوانى لحظة عن إعداده و إرساله... فما كان منه إلا الإطراء و التشجيع للأفضل...
كانت المرة الثانية في كانون ثاني ( يناير ) الماضي ..و حادثني بها إبان الانتخابات الرئاسية الفلسطينية .. حين طلب مني إجراء مقابلة خاصة بـ " إيلاف " ، مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس ( أبو مازن ) .. يومها لم يكن الرئيس موجودا بغزة .. فعاود الاتصال بي للمرة الثانية.. فأخبرته بزميلي بشار دراغمة المتواجد برام الله ... و الذي بدوره أنجز المطلوب منه .. لم يدعني و يذهب بل طلب مني نفس الشيء مع منافس عباس للرئاسة مصطفى البرغوثي .. كم كانت سعادتي لإنجاز هذا العمل.. تلك هي اللحظات السعيدة التي لازمتني مع أستاذي عطا الله ..
ماذا أقول .. ماذا أضيف .. لقد سبقوني زميلاتي و زملائي في رثاء أستاذنا الكبير الذي استحق من الجميع .. عن جدارة أن يمجده التاريخ .. والأجيال المتلاحقة .. فقد كان رحمه الله لا يألو جهدا من اجل تأكيد .. عروبيته .. وصدق انتمائه .. و إيمانه بعمله .. و تفانيه لمهنته .. وستبقى بصماته الواضحة على جميع ما عاشره و تعامل معه في كل المطبوعات و الوسائل الاعلامية..
عزاؤنا فيك رسالتك الذي قضيت من أجلها.. فخلدك وخلد ذكرك في الصالحين إلى انقضاء الدهر.. وحسبنا أن كان لنا شرف التتلمذ في تك المدرسة العملاقة مدرسة " إيلاف " التي ستبقى منارة و إشعاعا.. فليهنك عزك.. ولتهنك حياتك... ولتهنك موتتك... وحبذا يوم نلقاك مع الأحبة محمد ( ص ) وصحبه.. عند مليك مقتدر رحمن كريم... رحمك الله ورحم جميع شهدائنا.... وداعا .. وأسأله تعالى أن يجمعنا بك في جنان النعيم .. إنه سميع مجيب الدعاء .
رحيل محمود عطاالله نائب رئيس تحرير إيلاف