سمير قصير: حتى الهاوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كله تمام! الرئيس الحريري لن يعطل بعد اليوم مسيرة الاصلاح الظافرة، النواب مشوا مثل الساعة، الرئيس عمر كرامي سوف يشكل حكومة لا يعترض عملها اي صوت من داخلها. وغداً صباحاً او بعد غد سوف ترون كيف تقوم دولة القانون والمؤسسات فتنهي الفساد ولن يكون هناك حاجة بعد ذلك لباريس 2 ولا لباريس 3. قالها بالحرف رئيس الحكومة المكلف مساء امس. كله تمام، فعلاً.
المشكلة ان أحدا لا يصدق. لا، المشكلة الفعلية هي ان ثمة من يصدق، هناك في اعلى هرم السلطة اللبنانية. لا يصدق الجزء المتعلق بالفساد والاصلاح، ولا بالمؤسسات والقانون، بالتأكيد، لكنه يصدق ان اموره صارت على ما يرام بعدما انتهى من الشراكة بالاكراه مع الرئيس الحريري، وانه وضع التمديد وراءه ومن دون ان يدفع الثمن.
الدنيا قامت ولم تقعد منذ حصل التمديد، لكن هناك من يعتقد انه انجز نجاحاً هائلاً لمجرد انه لم يقم عن كرسيه، تلك المشكلة، بل المأساة. لكنها مأساة محدودة، رغم فظاعتها، بالمقارنة مع تلك التي تأتينا اصداؤها من دمشق حيث من الواضح انه يسود جو من اللاعقلانية ندر مثيله في التاريخ السوري الحديث.
لنترك جانباً السلطة الممدد لها في لبنان، فهي لم تهتم يوماً ان تكون عقلانية. ولكن الحكم السوري الوارث مبادئ الواقعية السياسية، كيف وصل الى هذا التهور؟ طبعاً، حين يصل وزير خارجية سوريا الى اتهام مجلس الامن بالتفاهة، لا يعود ممكناً الاستغراب من فقدان البوصلة. أصلاً، ان مجرد بقاء هذا الوزير على رأس الديبلوماسية السورية رغم سلسلة من الاخطاء المتعاظمة منذ خمسة اعوام، هو دعوة مفتوحة الى تجاهل معايير البراغماتية في تقويم الاداء المتبقي من البعثَين.
بيد ان الوزير فاروق الشرع ليس كل شيء في سوريا، او هكذا يؤمل على الاقل، ولا بد من الاستمرار في البحث عن الاسباب التي تدفع بالحكم البعثي الى الاصرار على عدم التعامل مع المعطى الدولي الجديد في « اطار واقعي وعملي»، على ما نصحه به الرئيس المصري حسني مبارك.
صحيح ان الحكم في سوريا «كوعه واسع»، على حد قول احد الزملاء في دمشق، وان تأخره في التأقلم مع ما يستجد حوله يعكس عطباً تكوينياً فيه. ومن هذا المنطلق، قد يكون منطقياً ان تستقبل القيادة السورية القرار 1559 بتجاهله، فتخرقه بعد اقل من اربع وعشرين ساعة على صدوره بتنفيذ التمديد للرئيس اللبناني. لكن القرار 1559 مضت عليه الآن ستة اسابيع تخللها تقرير الامين العام الذي اوضح ما اعتقده السوريون ملتبساً ولم يكن، ثم البيان الرئاسي الذي منح القرار الاصلي قوة الاجماع. وحتى لو افترضنا ان الانعطاف بسياسة ثقيلة مثل السياسة السورية يلزمه الكثير من التأني، فقد مر ما يكفي من الوقت حتى يتبين ان دمشق لا تعدّل مسارها وانها مصرة على المضي بثبات حتى الهاوية.
لنتصور لحظة ما كان يمكن الحكم السوري ان يفعل بعد صدور القرار 1559 وتأكده من تقهقر موقفه الديبلوماسي وتهافت حججه وحجج الحكم اللبناني. كان يمكنه ان يوحي بانه أخذ علماً بالمعادلة الجديدة. وان لم يشأ التنازل امام الولايات المتحدة، كان يمكنه على الاقل التسلح امامها بتسوية تاريخية مع لبنان. لنتصور مثلاً انه بادر الى سحب قواته بشكل لا يحتمل التشكيك من لبنان الاوسط (بيروت وجبل لبنان وطرابلس) والغاء منصب «رئيس شعبة الامن والاستطلاع» الذي يمارس عملياً الوصاية على لبنان، وانه ناشد حليفه الرئيس اللبناني الممدد له بان يعلن امتناعه الاستفادة من التعديل الدستوري، ثم انه شجع على انتخاب رئيس آخر يكون مقبولاً من كل الاطراف. ألم يكن في وسعه عند ذلك الاعلان عن روزنامة لسحب قواته المتبقية تسمح له في الحقيقة بابقائها بضع سنوات اضافية، وبرضا مجلس الامن ومعظم قوى المعارضة اللبنانية؟
لكن لا، هذا منطقي اكثر من اللزوم، والمتبقي من البعثين في دمشق، مثل توأمه السالف في بغداد، لم يعد يحب المنطق. فبالفعل، عبثاً يحاول المرء ان يجد مسوغات لهذا السير الى الهاوية. نترك جانباً خطاب العزة والكرامة الذي لا يطعم خبزاً ولا يمنع من الاذعان، وان متأخراً، امام الاملاءات الاميركية حين تتعلق بضبط الحدود مع العراق او الامتناع عن استضافة مسؤولي حركة «حماس». كذلك نترك جانباً الحجة الاستراتيجية القائمة على اعتبار التحكم بلبنان ضرورياً لمواجهة «الاخطار المتربصة بسوريا والمنطقة». فأين لبنان اليوم من العراق، حيث تتربص الاخطار المتربصة؟ وهل من معنى في هذه المرحلة لمقولة «لبنان الخاصرة الرخوة لسوريا»؟ ربما كان هذا صحيحاً في السبعينات، لكن في عصر الاحتلال الاميركي للعراق والاختلال الهائل لميزان القوى بين العرب واسرائيل، يصبح الكلام عن الاهمية الاستراتيجية لهذه الهضبة في جبال لبنان او لذاك الممر مثيراً للسخرية. ثم حين نعلم ان شبكة التجسس الاسرائيلية التي تم كشفها اخيراً في سوريا ضمّت ضابطاً في المخابرات جنّده عميل لبناني، فهذا يفترض ان يدفع الى التفكير بضرورة تخفيف التمدد العسكري السوري بدل انفلاشه.
لا سبب حقيقة لعناد الحكم البعثي غير سوء التقدير الذي يجعله يتلهف الى صفقة جديدة حول لبنان. هذه هي البراغماتية البعثية الجديدة، تنطق بها من دون ادنى حياء ابواق نظام التلازم على ضفتي الحدود: لا تهتموا بالقرار 1559، فهو ليس الا وسيلة للحصول على شيء آخر من سوريا، غداً سينسونه (بما يوحي ان سوريا ستلبي الطلب!). اما ما يقوله الاميركيون جهاراً وتكراراً حول الفصل بين العراق ولبنان وما يضمرونه حول ضرورة انفتاح نظام الحكم في سوريا، فلماذا يأبه به اهل البعث؟ تعلموا في كتاب عتيق ان صفقة ما ستأتي وتنقذهم حين يصبحون على حافة الهاوية، وهاهم يسرعون الخطى اليها. كله تمام، اما قلنا لكم؟
كله تمام، سيظلون يقولون حين سيكتشفون ان الهاوية انفتحت امامهم ولا صفقة تنقذهم.