جريدة الجرائد

حلمي شعراوي: الصومال ودول المنفى في العالم العربي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عرفت النظم السياسية وخاصة منذ الحرب العالمية الثانية نمط "حكومة المنفى"، سواء كانت حكومة ديجول الفرنسية، أو ما جاء بعدها في الجزائر وأنجولا، وحتى منظمة التحرير الفلسطينية. وكان – وما زال - الاعتبار الحاكم هو وجود أوضاع غير شرعية في البلد الذي يحكمه الاستعمار أو الاحتلال، بما يجعل أية حكومة "محلية" غير شرعية، أو تصل المقاومة لها إلى درجة عزلها في "منفى داخلي"؛ إشارة إلى عدم تمثيلها لشعبها أو عدم تعامل قوى الشعب الفاعلة معها.
لكن حالة الصومال وصلت بعيداً في هذا الصدد، فقد انهارت "الدولة" نفسها وليس مجرد حكومتها عام 1991، وأدت صراعات القوى الراغبة في السيطرة أو في التعامل كبديل جديد إلى عدم الاتفاق على أي شكل للحكم، لا في الداخل ولا في المنفى حتى عام 2000، وكانت المبادرة في جيبوتي وقتئذ توصلت إلى تشكيل حكومة "صلاد" التي لم تعمر بدورها، حتى جاءت مبادرة منظمة "الإيجاد" في نيروبي لتعلن حكومة جديدة برئاسة "يوسف حسن أحمد" أوائل أكتوبر 2004 بعد تكوين "برلماني" بالتوافق بين الفرقاء المتقاتلين والذين يزيد عددهم على العشرين!
ورغم أنه لم يوجد بالصومال شكل للحكم المنظم منذ ثلاثة عشر عاماً، كحالة غريبة ونادرة في التاريخ الحديث، إلا أننا كتبنا مرة عن هذا الوضع تحت عنوان مناسب له هو "دولة اللادولة"؛ وذلك إزاء رصدنا لانتظام "مهام الدولة" الصورية وبدون حكومة مثل انتظام العملية الاقتصادية والأسواق والتبادل والخدمات والاتصال الخارجي... إلخ أي أنه كانت ثمة "دولة" بدون حكومة! وكاد ذلك في نظر الكثيرين يبدو أفضل من وجود "حكومة" بدون دولة تحت رايات الاستعمار أو الاحتلال، أو تمثيل دور دولة في المنفى مثلما حدث للصومال في نيروبي.
قد يثير ذلك التنظيمات العربية السياسية والاجتماعية والثقافية لتأمل عناصر ما يجري، تأملاً عميقاً ومسؤولاً. ويحتاج ذلك أن يتخلى هؤلاء جميعاً عن سطحية الحديث عن مجرد التقسيم والتفتيت، والانفصال... الخ لأن الأمر في حالة الصومال وغيرها يتعلق ببناء "الدولة" وكيانات وهويات الشعوب والمجتمعات نفسها، وليس مجرد التقسيم.! وما يجري أمامنا في السودان ليس مجرد تقسيم، وليست الحال في فلسطين من جهة أو العراق نفسه من جهة أخرى مجرد تقسيم، ولا حالة الصومال تشير إلى مجرد التقسيم أو التفتيت، ولكن "مسألة الدولة" هي التي أصبحت تفرض نوعاً جديداً من التفكير. لقد تعطلت في العالم العربي كثيراً فكريات الفيدرالية التي قامت على أساسها دول كبرى من نوع الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها، تلك التي تحترم التنوع الكيفي والجهوي والاجتماعي، بل ولم تجد الولايات المتحدة نفسها إلا "مشروع الدولة" تعود إليه في أزمتها بعد ما ادعته من عالمية النظم والقيم السياسية والتنظيم العالمي... الخ لكن تحالفات المصالح و"دور الدولة" لرأب الصدع؛ بات ضرورياً، حتى لحماية مصالح الشركات العالمية التي تقودها رغم عبورها للحدود...!

ما علاقة ذلك كله بحالة "الصومال" وشعبه المسكين وهو البطل الصامد وراء مشروع "دولته" رغم كل هذه الضربات؟ وقد يندهش البعض لتحية شعب في هذه الظروف على بطولته! لكن لو يعرف الجميع كم كتب عن التكوين "الديمقراطي" للشعب الصومالي طوال الستينيات وحتى أيام ديكتاتورية السبعينيات بسبب تكوينه الاجتماعي التوحيدي رغم عشائريته، لو أعاد الناس القراءة، لاكتشفوا جذور عودة الشعب الصومالي –تدريجياً- لمشروع الدولة- مشروع الديمقراطية الصومالية! وليس صدفة أن رجل "الدولة" الجديد "عبد الله يوسف أحمد"، هو من رجالات الحرس القديم، وابن القبيلة أو العشيرة الضاربة في أنحاء الصومال؛ تجارة، ومثقفين، وأقاليم متباعدة وهم الداروط. ولا شك أن ثلاثة عشر عاماً من "الاضطراب" السياسي هي رقم أقل من خمسة عشر عاماً عرفها الشعب اللبناني في مثل هذه الظروف، لكنه بتراث ديمقراطي من ثقافته وكبريائه سرعان ما عاد لمشروع "الدولة" مهما كان الجدل حول مكوناتها... فلكل شعب روايته.. كما قال الراحل إدوارد سعيد!

ويستثمر الصوماليون هناك رغبة "الخارج" في قدر من الاستقرار، يتساوق مع مثله في أفغانستان واليمن والعراق- إن أمكن- حتى لا تستثمر قوى الإرهاب هذه "الأراضي" للعمل انطلاقاً منها، خاصة وهناك ساحة تهديد أوسع قائمة في غرب أفريقيا انطلاقاً من غرب السودان. هذه إحدى المبررات القوية للاتفاق الصومالي "الخارجي". لكن التفسير "الداخلي" سيعود إلى رغبة التحالفات الصومالية المتصارعة في الركون إلى الراحة، لبعض الوقت أو طول الوقت. وهي تحالفات ليست بسيطة كما يبدو من مسميات "لوردات الحرب".... الخ.

فهذه بدورها صورة تبريرية للتدخل والتدمير، حيث يعرف الجميع أن ثمة تحالفات تجارية رأسمالية قوية في العاصمة مقديشو يقودها المؤتمر الوطني المتحد وتحالفه، وثمة تحالف في الجنوب (كيسيمايو) (الجبهة والحركة الوطنية وجيش ريجانويه... الخ) يتصارع حول مصير الأراضي الزراعية (الموز..) والمراعي وتقسيماتها، فيما يشبه الوضع في دارفور.

وثمة تحالف شمالي حول الثروة الحيوانية الهائلة في الصومال والتي تنافس أستراليا على أسواق الخليج خاصة، وهو التحالف المشرف على التصدير وبعض الموانئ ويتعامل مع الخليج والإثيوبيين ودويلة "البونت"... إلخ ولا مانع عنده من بقاء الإقليم الشمالي المسمى "صوماليلاند" مستقراً قليلاً كممر لتجارة الماشية الكبيرة، ويرتبط بذلك احتمال استمرار "بلاد بونت"! وكل ذلك سيُسوّى –بالفيدرالية- خلال المرحلة الانتقالية لمدة خمس سنوات، إذ وعدت هرجيسا بالتفاوض بعدها من أجل دستور دائم وانتخابات عامة. كما سارعت "بونتلاند" بتعيين رئيسها احتفاظاً بوضعها في الفيدرالية.

إذن فـ"حكومة" عبدالله يوسف أحمد ستكون أمام عدة خيارات مهمة لكي تحول "حكومة" المنفى إلى "دولة" مستقرة، وليست "دولة في المنفى". فهي إما أن تصاحب قوات "التدخل الأجنبي" عن طريق الاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي لفرض أوضاع تضمن سرعة الاستقرار ضد الإرهاب في القرن الأفريقي والبحر الأحمر حسب خطط معلنة فعلاً (تصريحات رئيس الاتحاد الأفريقي ورئيس الإيجاد، والأمم المتحدة)... إلخ. وبذلك تكون "دولة منفى" مستوردة وإما أن تحاول أن تكون دولة مستقلة مستخدمة المعنى الصحيح للفيدرالية التي تحقق "التوازن" بين قوى داخلية صاحبة مصالح، ويتحول الاقتتال إلى توافق تفاوضي حول أوضاع وتقسيمات "الثروة والسلطة" حسب مصطلحات التجربة السودانية الأليمة!

في هذه الحالة لن نحتاج كثيراً إلا لتنظيم الأوضاع الاقتصادية وأجهزة الإعلام والاتصال وأوضاع السلاح والأمن، والتنسيق بين القائم منها فعلاً طوال فترة التصارع، وهناك تقديرات بالحاجة إلى خمسة مليارات دولار لتحقيق هذا الاستقرار قد تكون مغرية للمتحدثين عن السلطة والثروة أيضاً لمعاونة الاستقرار. وهذه النظرة المتفائلة محاطة للأسف بمصاعب شتى ممثلة في الميليشيات التي لم تسترح للحلول الدبلوماسية في المنفى! وفي القبائل الخمس التي تبحث عن التوازن الدقيق بين فرقاء سلاح وليس بين مؤسسات، وبين علاقات خارجية تأسست على السلاح أو التجارة أو فواتير الاتفاق.

ويبقى عنصر دول الجوار: قد لا نعرف بالضبط مدى ما يخبئه محور/ أثيوبياً، كينيا للشأن الصومالي، محور صياغة القرن الأفريقي وشرقي أفريقيا، وهل هي تحركات قوى إقليمية يدعم منها الاتحاد الأوروبي أثيوبيا (تنازل مؤخراً عن 750 مليون دولار من ديونه) أم دور العراب الكيني للولايات المتحدة. لكن المؤكد أننا نعرف أن العالم العربي هو الذي سيجد نفسه أمام اتساع تجربة حكومات أو دول المنفى، تلك الحكومات أو الدول المنفية من الخارج والمنفية في الداخل، أي التي تنفيها قوى خارجية، أو تنفي نفسها بنفسها عن القوى الداخلية، ومثل هذه الحكومات قد تشكل شرقا أوسط كبيرا، أو حتى "عالماً" عربياً... لكنها بالتأكيد لا تشكل وطناً عربياً.
وأملنا في الصومال كبير.. لإرسال بعض الإجابات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف