جريدة الجرائد

الرجل واحد ولكن متنوعة هي المتغيرات

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إذا كان فوز الرئيس جورج بوش الابن بولاية ثانية في البيت الأبيض قد أطلق التكهنات والتوقعات التي تصب في أن الأعوام القادمة لن تشهد تغيراً في السياسات الخارجية الأميركية، فإن للمرء أن يفترض حدوث شيء من المتغيرات والتحويرات بناء على معطيات عديدة تستحق الرصد والتحليل، المقارنة والمقاربة: فالرجل واحد، ولكن متناقضة هي المعطيات. ولأن الموقف التقليدي الأول ينطوي على شيء من التشاؤم خاصة في العالم العربي، ينبغي للمرء أن يلاحظ بأن الرجل قد يقاوم التغيير في دواخله، ولكنه لا يمكن قط أن يقاوم موجات الحث الكبيرة التي لن تتركه على ما هو عليه قط. هذه هي سُنة الأزل. ولكن كيف سيكون عليه التغير والتحول بالنسبة للرئيس جورج بوش، وما هي أهم مبررات هذه الاستجابات والاستحالات المتوقعة والآخذة بالطفو على بشرة الإدارة الأميركية بشكل تكهنات وشائعات عن تعيينات جديدة وإعفاءات من مناصب كبيرة تشمل أسماء قديمة رافقت بوش منذ استلامه مفاتيح البيت الأبيض عام 2000.
لاشك في أن بوش ليس برجل سكوني static، فلو كان هو من هذا النوع المتحجر لما فاز في الانتخابات الرئاسية بكفاءة وأصوات مشهود بها ولها. ولكن للمرء أن يعتقد وبالكفاية من المبررات بأن (بوش ما بعد المعركة) الانتخابية لا يمكن أن يبقى هو نفسه كما كان قبل عامين أو ثلاثة. لقد استجابت شخصيته لمأساة 11 سبتمبر عام 2001 على نحو واضح تمت ترجمته إلى سياسات فاعلة، الأمر الذي يفسر اتهامه للسيناتور جون كيري بأنه لم يزل يحيا بعقلية ما قبل 11 سبتمبر. ومن ناحية أخرى، كان بوش يعيش مرحلة خوف وسواسية عبر فترة التنافس مع جون كيري بسبب تجربة والده لولاية ثانية في عقد التسعينيات الماضي ، الأمر الذي يلقي الضوء على استماتته وجهود والده في المنافسات الانتخابية خشية أن يطلع سوء الحظ برأسه على هذه العائلة الرئاسية مرة ثانية. كانت معركة السباق إلى البيت الأبيض حامية الوطيس، وكان بوش خلالها يتلقى السهام من كل حدب وصوب، وهي سهام جلها من النقد المؤثر والقوي الذي أطلقه الديمقراطيون ضده شخصياً وضد إدارته عامة. ولا ريب في أن واحدة من أهم النقاط التي أثيرت ضده تتمثل في اسلوب معالجته لقضية العراق، تأسيساً على دعائم معلوماتية غير مؤكدة ولا موثوق فيها، وعلى أساس أنها أخطأت الهدف الحقيقي للحرب على الإرهاب وهي منظمة القاعدة بقيادة أسامة بن لادن. لذا لن يكون من المستبعد أن يكرس الرئيس بوش فرقاً من المستشارين والباحثين والمحققين في سبيل استخراج ما يكفي من الأدلة والبيانات التي يمكن أن تفسر قراره بغزو العراق وبالتدخل في شؤون الشرق الأوسط من هذه النافذة على سبيل اختلاق الدعم النفسي الكافي للجمهور الأميركي وللجندي الأميركي من أجل إدامة زخم الحملة العسكرية في العراق. كما أنه لن يتوانى عن تحقيق شيء ملموس مما وعد بتنفيذه في بغداد من أجل إرضاء المشاهدين في واشنطن ونيويورك. ومن أهم هذه (الملموسات) المطلوبة هو توجيه ضربات قاصمة للمنظمات الارهابية الوافدة إلى العراق، زيادة على إصراره المتوقع على تحقيق الانتخابات في العراق كنوع من أنواع الالتزام (الكوني) بنشر الديمقراطية خاصة في منطقة ملتهبة كالشرق الأوسط، وهي المنطقة التي عدّها بوش، صراحة، مفتاحاً للسلام العالمي.
لقد كان السيناتور جون كيري وفريقه دائماً ما يؤكدون على أن الرئيس بوش قد تسبب في انقسام صف الشعب الأميركي إلى فريقين بسبب الحرب على العراق وما نتج عنها من إشكالات. وبهذا جهزه منافسه بنقطة غاية في الأهمية ، وهي ذات النقطة التي أكد عليها في أول خطاب بعد فوزه في الانتخابات، ذلك أنه وجّه خطابه إلى هؤلاء الأميركان الذين (لم ينتخبوه) على سبيل تطييب الخواطر ولمّ الشمل وتجاوز ذات البين. من هنا يمكن للمرء أن يتوقع خطاباً إعلامياً رسمياً موجهاً بصفة خاصة إلى هذه الفئة الواسعة من الجمهور الأميركي من أجل إقناعها بصواب قرارت الولاية الأولى، وبضرورة تحقيق الدعم الكافي للخطوات التالية: (فأميركا في خطر، وها هو العدو يُخرج رأسه في بلاد الرافدين حيث ينبغي القضاء عليه هناك... من أجل أميركا آمنة !)
أما الحديث المتواتر عن إمكانية استبدال وزير الخارجية، كولن باول، بوزير جديد، فهو يمثل أهم محطات المسار الجديد لقطار الإدارة الأميركية، وهو مسار مستوحى كذلك من النقد القوي واللاذع الذي امتطاه السيناتور جون كيري ومساعدوه ضد بوش. وهنا لابد أن يحاول الرئيس جورج بوش أن يتنبه إلى الاختلالات التي شابت السياسة الخارجية الأميركية، خاصة بقدر تعلق الأمر بالعلاقات مع أوروبا. ومرة ثانية، فقد أكد حليف الرئيس بوش الأهم في أوروبا، رئيس الوزراء توني بلير، بأن بوش (الجديد) سيبذل كل جهوده من أجل تقوية التحالف مع أوروبا ونزع كل ما من شأنه أن يؤثر على التعاون بين قطبي الأطلسي، الأميركي والأوروبي. ويبدو بأن أوروبا تنتظر مبادرات حسن نية من الرئيس بوش الآن بعد أن سارع زعماؤها إلى تهنئته بالفوز وإلى التذكير بالأواصر الطيبة القديمة بين ساحلي الأطلسي، الشرقي والغربي. ويأتي الاستقبال الحافل لرئيس الوزراء العراقي، أياد علاوي، من قبل الزعماء الأوربيين يوم 5/11، بيّنة على حسن نيات أوروبا واستعدادها للوقوف مع أميركا في العراق، وإن كان الأمر نسبياً. بيد أن الطريق طويلة للفوز بتأييد أوروبا، ولكن الرئيس جورج بوش سيحاول أن يسلكها، خاصة بعدما انتهى من المسائل الكبيرة الأكثر إثارة للجدل وللنقد الأوروبي في العراق وأفغانستان وفي سواهما من بقاع العالم. ولكن أوروبا قالت بكل وضوح أن المعركة ضد الإرهاب مشتركة بينها وبين أميركا.
وإذا كانت مسألة العراق العويصة تشكل وجهاً واحداً من شائكية الشرق الأوسط خاصة مع الهجوم على الفلوجة، فإن مسألة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تمثل الوجه الآخر والأكثر عتمة بسبب استطالته وتحوله إلى مرض مزمن، إذا صح التعبير في مثل هذا السياق. بيد أن هناك شيئاً من الضوء في نهاية النفق بالنسبة للعقل الإداري الأميركي الذي يأخذ مواقف إسرائيل بنظر الاعتبار والاحترام. إن ما حدث بالنسبة لقيادة ياسر عرفات للسلطة الفلسطينية وتغيبه عن إدارتها، إنما يحيل خطة خارطة الطريق، التي اقترحها الرئيس بوش وأصر عليها، إلى برنامج ممكن التحقق، خاصة إذا ما صعدت نجوم شخصيات فلسطينية يفضلها الأميركان والإسرائيليون للحوار ولتبادل الرأي. ويبدو للمراقب الفطن أن وجود محمود عباس أبو مازن وأحمد قريع على رأس السلطة في فلسطين اليوم إنما يشكل عاملاً مساعداً على ترويج خطة السلام وحقنها بأمصال الحياة والديمومة، خاصة بعد نجاح أرييل شارون في تمرير قراره بالتخلي عن بعض المستعمرات الإسرائيلية في قطاع غزة. إذاً، تبدو الطريق أكثر انفتاحاً ووضوحاً من أجل المسير نحو دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تعيشان جنباً إلى جنب بسلام ووئام. وإذا كانت الحكومة الإسرائيلية تدعي باستحالة التفاوض مع رجل كعرفات، فإن ظهور قيادة جديدة أكثر قدرة على التفاهم والتحاور يجعل مهمة الولايات المتحدة أكثر إمكانية على التحقق.
لقد ارتكن نقد كيري للرئيس بوش بقوة إلى أن سمعة أميركا قد ساءت بسبب سياسات الأخير، خاصة مع الشعور الأميركي القوي بأن الولايات المتحدة أصبحت أكثر عزلة عن العالم بينما راحت صورتها تتشوه بسبب العنجهية العسكريتارية التي إنتهجها بوش. إنه لمن المؤكد، ومنذ أشهر، إن تحاول الإدارة الأميركية العمل بطريقة الحشد المركز على هذا الموضوع، خاصة بعد أن دعا الرئيس بوش الأميركان إلى تعلم اللغات الشرقية وإلى دراسة مجتمعات الدول التي يهتم بها الأميركيون سياسياً وعسكرياً. لذا فإن إدارة بوش في عهدها الثاني ستعمل جاهدة على هذا الخط في سبيل تقديم صورة جديدة لأميركا، صورة تنأى بنفسها عما يؤوله المضادون لأميركا في أنها تقود (حملة صليبية) ضد الإسلام والمسلمين. وينطبق ذات الشيء على أفكار ثقافات وحضارت أخرى، خاصة في شرقي آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ستعمل إدارة الرئيس بوش جاهدة على تمثيل أميركا وإدارتها على نحو مختلف يحاول إزالة ما علق بصورتها من براثن وشوائب. ولكن السؤال الأهم هو: هل سيتحقق ذلك للرئيس بوش وهو يتعامل مع هذا العدد الكبير من المواضيع وعبر هذه الجبهات المختلفة والمترامية ؟ لنترك الإجابة لأربعة أعوام قادمة، ربما تكون زاخرة، بالمتغيرات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف