جريدة الجرائد

مطاع صفدي: أميركا تنافس نفسها

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ليس ثمة حدث انتخابي رئاسي في تاريخ (الديمقراطية) الامريكية يماثل حدثا عالميا وبؤرة اهتمام لا من قبل الدول فقط بل الشعوب كذلك، كما هي حال معركة البيت الابيض الراهنة.
فالرئيس الامريكي القادم هو رئيس العالم. لكن هذا العالم لا يتاح له ان يدلي بأصواته مباشرة، وان كان لابد له ان يطالب بمثل هذا الحق يوما ما اذا ظلت امريكا مصرة علي حكم المعمورة والتصرف بمصائرها الكلية. غير ان هناك رأيا عاما كونيا عبّر سلفاً عن رفضه القاطع لاستمرار بوش وفريقه الايديولوجي المهووس في السيطرة مجددا علي البيت الابيض. وقد لا يكون لهذا الرأي العام ثمة صوت مباشر يصب في صناديق الاقتراع الامريكية، الا انه لا يعدم تأثيرا اما في المزاج السياسي السائد خلال معارك الاعداد لهذه الانتخابات وتبرز اصداؤه هذه الايام في اهم الخطابات المعارضة التي يلقيها زعماء الحزب الديمقراطي اثناء مؤتمرهم القومي المنعقد في الاسبوع الماضي.
فليست عوامل السياسة الخارجية لعهد بوش المنصرم هي التي تتدخل هذه المرة في مصير الرئاسيات وحدها، بل ان ردود الفعل الدولية والمجتمعية علي هذه السياسة لدي معظم بلاد العالم لم تذهب هباء.
وبالرغم من ان الجمهور الغاضب لم يعتد في الماضي ان يأبه بما تفعله حكوماته في الخارج، الا انه هذه المرة ومع مشكلة الارهاب وحرب العراق، تحس النخب المثقفة علي الاقل ان دولتها قد دخلت في مرحلة التلقي لردود الفعل علي ارتكاباتها من ما وراء حدودها، وان المحيطات الكبري لم تعد تعصمها من غضب المقهورين وهم في اقصي صحاريهم.
هناك ما يشبه الاجماع بين المراقبين والمحللين في امريكا نفسها علي ما يشبه اولوية التأثير في هذه الانتخابات لعقابيل السياسة الخارجية. وهو تحول واضح لم تكن تعرفه تقاليد المعارك الرئاسية الماضية منذ مشكلة الحرب الفيتنامية، فلا مناص لبوش وفريقه من التعرض لمحاكمة الرأي العام التي يسعي الحزب الديمقراطي لان يجسدها ويعبر عنها، كما تحقق له ذلك الي حد بعيد خلال مؤتمره الكبير ذاك، وقد كان محط الانتباه الاعلامي والجماهيري امريكياً ودولياً، بحيث انه لم يتبق للحزب الجمهوري الا موقف الدفاع ضد الاتهامات والادانات التي تنصب علي رئيسه من كل حدب وصوب، فالغضب العربي والعالمي يصير كذلك الي غضب امريكي علي الصعيد الشعبي، ما يجعل الاجواء السياسية الصاخبة المحيطة بمعركة البيت الابيض تنقلب الي ما هو اقرب الي سلسلة من الاستفتاءات الشعبية الذاهبة الي ما هو اقصي من اسقاط العهد البوشي انتخابيا فحسب، فقد قال كارتر في خطابه حلال المؤتمر ان الشعب يريد رئيسا لا يضلله خصوصا في ما يتعلق بقضايا امنه. فالادانة الاخلاقية تسبق السقوط الانتخابي، الذي يصير حتميا ان لم تتكرر عمليات التزوير والتلاعب بالاصوات حسبما يقول الخبراء. واحتمال الغش يبقي قائما الي درجة ان تسعة من اعضاء الكونغرس ارسلوا كتابا الي الامين العام الامم المتحدة يطالبونه فيه بارسال مندوبين عنه لمراقبة عمليات فرز الاصوات وهو الحدث الاول من نوعه الذي يقع في بلاد الديمقراطية الاولي، كما تصف امريكا نفسها به.
غير ان السؤال الحاسم هو ان كانت امريكا تختلف من عهد رئاسي الي آخر، او ان مذهب الامركة الامبراطورية، علي وجه الخصوص، يمكنه ان ينقضي مع انقضاء العهد البوشي وادارته الايديولوجية المتطرفة. ذلك هو موضوع الشك الاساسي الباعث علي القلق الجدي من قبل كثيرين من مفكري اوروبا وبعضهم من امريكا نفسها. فقد لا يكون مذهب الامركة الامبراطورية طارئا علي الاستراتيجية الكلية للسلطة الحاكمة بقدر ما اضحي هو الصيفة العملية للمفهوم الاخر الذي ينص علي ان امريكا هي قائدة العالم.
والمفهوم امسي شعارا اعلاميا متداولا، ولا يختلف عليه احد تقريبا من الطبقة السياسية. وبالطبع ليس موضع تباين بين الحزبين المتنافسين علي عرش الرئاسة او الامبراطورية التي هي قائمة فعلا بالنسبة لهما معا. لكن ربما تعددت الاراء حول كيفية العلاقة بين هذه الامبراطورية وموضوعها الذي هو العالم هل ستكون علاقة حاكم بمحكوم. والحاكم هذا يمتلك كل عوامل القوة والتفوق، بينما سوف يحرم المحكوم منها، ويمنع من اكتساب بعضها، بشتي الطرق بما فيها الحرب الاستباقية التي ابتكرتها ادارة بوش ونفذتها في العراق، ولكنها كما يبدو اضحت بندا رئيسيا في تكتيك تلك الاستراتيجية. ومن تابع الموضوعة المسيطرة علي معظم خطابات زعماء المؤتمر للحزب الديمقراطي، يلحظ بكل بساطة ان الوطنية الامريكية لم تعد تعني شيئا اخر الا امريكا القوية. وان كان الرئيس السابق كلينتون قد ألح علي ان القوة لا تتعارض مع الحكمة، منتقدا بذلك سياسة خلفه المستندة فقط الي مبدأ القوة الفظة وحدها. بمعني ان الديمقراطيين ليسوا معارضين للحرب كمبدأ، شرط ان تتوافر لها ظروف النجاح اعتبارا من الاعداد الجيد لها والممارسة الحاسمة والاستغلال الذكي لنتائجها العسكرية، بتطويرها الي العوامل المساعدة علي قيام سلام الهيمنة غير المباشرة. اي كل تلك العناصر التي اخفقت حرب بوش علي العراق في توفيرها لنجاحها.
من يقرأ كتاب بريجنسكي الاخير الخيار الحقيقي.. امريكيا وبقية العالم ، وهو استاذ استراتيجية القطبية الاحادية لما بعد الحرب الباردة، يكتشف بسهولة ان استراتيجية الهيمنة ليست موضوع نقاش، لكن كل الجهد الذي يقع علي العهود الرئاسية ويميزها عن بعضها انما ينبغي ان ينصب علي ممارسة هذه الهيمنة واساليبها، وبما ان فترة ما بعد الحرب الباردة، ومنذ مطلع التسعينات، قدمت نموذجين من هذه الممارسة، احدهما مع الرئيس كلينتون، والآخر مع الرئيس الحالي، وكان كلاهما يقعان علي طرفي نقيض من بعضهما فان العهد الثالث الاتي الذي لا بد ان يمثل الخيار الافضل، عليه ان يوفق بين تجربة الهيمنة عن طريق اطلاق العولمة الاقتصادية التي ميزت مذهب كلينتون، وان كان شابها بعض الضعف والتردد في رأي متطرفي المذهب البوشي، وبين تجربة الهيمنة بوسيلة العولمة العسكرية والامنية مع كل ما ادت اليه من انواع الكوارث علي كل صعيد. ولعل افدح كارثة، يخشاها منظرو الهيمنة بعد تهافت النسخة البوشية، هو ان تتعدي الاضرار حدود النسخة المتهافتة، لتبلغ ايديولوجيا الهيمنة ذاتها التي باتت المعقل العقائدي الاخير لثقافة الليبرالية الجديدة، ذلك ان كل ما تبقي من رهان او برهان لهذه الليبرالية علي (صدقيتها) لدي ادعيائها هو تحقيق سلسلة تمارين من الانتصارات العسكرية او الاقتصادية علي المسرح الدولي تحت مصطلحاتها المختلفة، بدءا من محاربة الارهاب، الي نشر الديمقراطية في بلاد العرب والاسلام، الي امتطاء صهوة الدبابة المتنقلة ما بين البؤر المشتعلة بنيرانها عينها وفي هذه البلاد ذاتها، كأنما لم يعد ثمة من مستقبل اخر لليبرالية الجديدة الا باستعادة ماضي الاستعمار الاوروبي بكل رموزه وارتكاباته وشعاراته المضللة، مع اضافة هذا التطور المستحدث الذي يخص الأمركة وهو أحادية السيطرة بدون أي منافسة حتي أقرب الحلفاء التقليديين.
سوف يظل البحث عن أية اختلافات أساسية بين حزبي السلطة المؤسسية لا طائل تحته. فالجمهوري والديمقراطي فصيلان متنافسان في خدمة الولاء الواحد للرأسمالية سواء في عهدها القديم عبر الصراع مع الشيوعية، أو في مرحلتها الراهنة ضد بقية العالم . فحين يختفي العدو المادي الشخصي يمكن توجيه الصراع ضدالأفكاروالأشباح والرموز التي يمكن أن تتلبس كل دولة أخري قابلة للمعارضة، أو متمتعة بمغريات الغنائم.
وهكذا لم يستطع المرشح كيري أن يقدم نفسه إلي جمهور حزبه إلا كمحارب بطل من أبطال فيتنام. وكذلك فعل رؤساء الحزب الآخرون في تكريسه. فأمريكا الوطنية لم يعد يمكن توصيفها إلا علي أنها دولة الحرب التي لا معيار لها سوي القتال والانتصار العسكري. وعلي هذا لن يحتل البيت الأبيض من اليوم فصاعداً إلا الطغاة وحدهم، سواء جاؤوا من هذا الحزب أو ذاك. أما المجالات الأخري كالاقتصاد والسياسة وحتي الثقافة والتربية، فلن يدخلها الرئيس الأمريكي، كائناً من كان.
إن جو العسكرة كان سائداً للأسف لدي زعماء الحزب الديمقراطي، في حين أن القيادات الأخري من الصفوف الأدني كانت مستنفرة ضد مثالب بوش وطريقته الغبية في عسكرة السياسة، واستبعاد الحلفاء، وإظهار أمريكا كأنها عدوة العالم الأولي، لكن لم يتكلم أحد من خطباء المؤتمر المتبارين في فنون البلاغة والفصاحة وإثارة حماسة الجمهور، حول أية بدائل واضحة متميزة عن مناهج الإدارة المحلية. وقد غاب تحديد الموقف من الحرب العراقية. فلا حلول واقعية أو سحرية تمتلكها إدارة الرئيس الديمقراطي إن احتلت قريباً البيت الأبيض.
أوروبا ليست متفائلة بالتغيير الرئاسي إن تحقق، وهي ليست مطمئنة تماماً لدعوة العودة إلي المشاركة التي يري فيها الحزب الديمقراطي أنها تشكل حجر الأساس من مشروع التغيير، كما يتباري قادته في ترديد شعاراته، ومثلما أعطاه بريجنسكي صياغته الفكرية الكاملة في كتابه الخيار الحقيقي . إذ يدرك قادة أوروبا أن أمريكا لا تريد من بلادهم إلا تلك المشاركة في تحمل أعباء الهيمنة وتكاليفها المادية والمعنوية الباهظة، وأن هذا النداء الموجه إلي العالم أجمع كما يجدد احترامه لأمريكا ليس سوي مطالبة العالم بقبول مبدأ الهيمنة وإعادة تلاؤمه مع ظروفها كأمر واقع لا مفر منه.
كل ما يخشاه منظرو الهيمنة الأحادية، وفي مقدمتهم بريجنسكي، هو أن يكون عهد بوش المظلم لم يحقق فشله الخاص فحسب، لكنه أعطي المثل الأسوأ عن الهيمنة كاستراتيجية شاملة لحاضر ومستقبل العلاقة الأمريكية مع بقية العالم، بدءاً من العلاقة مع أوروبا، وما أصابها من انحراف خلال الخلاف المستحكم حول الحرب علي العراق، وتطورات الاحتلال، ومستقبل المنطقة العربية والاسلامية كلها، وفي مركزها مسألة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وهي المعضلة التي لا حل آخر لها عند المرشح الديمقراطي يختلف جذرياً عن النهج البوشي ـ الشاروني، فما دام كيري وبطانته لا يمتلكان إلا أسلوب المزايدة الدعاوية حول الأمن الاسرائيلي وجعله ليس مجرد تابع للأمن القومي الأمريكي، بل يغدو رديفاً له ومتطابقاً مع ضروراته المبدئية ذاتها، هذا يعني بكل بساطة أن الحرب وحدها هي التي ستشكل الخيار الحقيقي لأمريكا، بصرف النظر عمن يسكن البيت الأبيض.
لن يكون هناك أي مشروع تغيير ناجع لأية إدارة مع بقية العالم إن لم تدخله من بابه الوحيد، الذي هو باب المعضلة الإسرائيلية أولاً وآخرا. هذا الفهم البسيط لأصعب المشكلات الدولية المعاصرة، قد توصلت إليه أوروبا أخيراً في الوقت الذي ما زالت فيه عقلية الهيمنة تشارك فيها، بنسب متفاوتة مختلف إدارات الرئاسة الأمريكية لفترة ما بعد الحرب الباردة، هذا الفهم البسيط، يظل مستعصيا بالنسبة لعقلية مؤسسة السلطة في واشنطن. ولا يبدو أن إدارة كيري ستلتقط المفتاح السحري، أو أنها سوف تشكل بعض الانزياح عن تقاليد تلك المؤسسة. هذا بالرغم من البداهة العامة حول ضرورة الإقرار بعدالة قضية فلسطين في الفكر السياسي الدولي، ولدي قطاع مهم من الرأي العام الأمريكي نفسه، ورغم أن الاعتقاد الدولي بأن السلام العالمي أضحي متوقفاً علي مصير هذه العدالة إن كانت ستتحقق يوماًما أم أن منطق الإرهاب والحروب الاستباقية المتنقلة ستبقي له الأولوية في توجيه العلاقات الدولية، فمن الواضح أن المرشح كيري يرفض أن يستوعب دروس سلفه في العهد البوشي، وهو من حيث أنه يعارضه في مختلف تصرفاته، لا تصل به الجرأة إلي حد نقد مبدأ الحرب ضد العراق، في الوقت الذي يدعم قيام الجدار العنصري في فلسطين.
ذلك هو المعادل الحقيقي لشعار أمن إسرائيل من أمن أمريكا ، وما دام الشعب الفلسطيني يمتلك ثمة كياناً سياسياً ما، سواء وراء فعالية المقاومة الحالية، أو انتظاراً لدولة الاستقلال، فمعني ذلك أنه لا أمن لإسرائيل، الذي هو من أمن أمريكا، وبالتالي لا بد من متابعة مشروع الاستئصال للشعب والوطن والكيان في مختلف أشكاله، إسرائيلياً وأمريكياً معاً. والرد عليه سيكون كذلك عربياً وإسلامياً وإنسانياً. هكذا تموت الفوارق في المبني والمعني بين الإرهاب والحرب المعممة، يصيران وجهين لممارسة واحدة ومتداخلة. ويتأكد قرار مؤسسة الحكم الأمريكي بإعلان الامبراطورية، كما لو كان إعلاناً للحرب علي العالم أجمع.
(واجب) الوطنية الأمريكية الذي يتنافس حول ادعائه كل من بوش وكيري، أمست له دلالة واحدة هي واجب الهيمنة والحفاظ عليها بكل ثمن، والتصارع حول أفضل الأساليب، أو الخيارات حسب مصطلح بريجنسكي من أجل تحقيقها واستتباب أمنها الخاص، ولو كان ذلك علي حساب أمن الإنسانية جمعاء، أو بقية العالم حسب هذا المصطلح عينه. ولا ينتظر المراقبون الجديون أي نقاش حول هذا الواجب بين الرئيسين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف