محمد نورالدين: تركيا من طرف إلى مركز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تميزت السياسة الخارجية التركية، منذ تأسيس الجمهورية عام ،1923 بأنها كانت في اتجاه واحد: أوروبا والغرب، انطلاقاً من اعجاب مصطفى كمال أتاتورك الباهر بالحضارة الغربية. مقابل ذلك، لم تشهد العلاقات التركية مع محيطها العربي والاسلامي والمسيحي انقطاعاً فحسب، بل كانت تتسم بالعداء الذي وصل حد الصدام مع معظم جيرانها. وأثناء الحرب الباردة كانت تركيا طرفاً في الاستقطابات الدولية. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، كسرت بعض الشيء، هذه الأحادية، من خلال الانفتاح على العالم التركي في القوقاز وآسيا الوسطى.
استمرت هذه السياسة الاستراتيجية، التي تجسدت في انتماءات عضوية لتركيا في منظمات ومؤسسات أوروبية وغربية، حتى اندلاع الأزمة العراقية ومن ثم احتلال العراق.
كانت التطورات العراقية، وتحول المسألة الكردية في شمال العراق، الى خطر فعلي على الوحدات الكيانية والاجتماعية لدول الجوار العراقي، مفصلاً في إحداث تحول في طريقة تعاطي السلطة التركية مع عدد كبير من القوى الاقليمية والدولية، فللمرة الأولى يحدث تقارب حقيقي بين تركيا وكل من سوريا وايران. وللمرة الأولى تتصدع الشراكة الاستراتيجية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. وللمرة الأولى تهتز بعمق العلاقات التركية مع “اسرائيل”، وتتقدم تركيا بجدية على الطريق الأوروبي.
هذه التحولات كانت مؤشرات الى ان السياسة الخارجية التركية تصاغ من جديد وفقاً لأسس جديدة. لكن سيكون من الخطأ قراءة التحولات في السياسة الخارجية الجديدة لتركيا في ضوء التطورات العراقية والأمريكية فحسب. ان هذا مرتبط بصورة وثيقة برؤية جديدة حملها حزب العدالة والتنمية لدى وصوله الى السلطة في خريف 2002. وترتبط هذه الرؤية أكثر باسم مستشار رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان، البروفيسور أحمد داوود اوغلو، استاذ العلوم السياسية، وصاحب مركز “علم وصنعت” للدراسات الاستراتيجية. وتبدو ملامح هذه الرؤية في كتابه الذي صدر قبل سنة من وصول الحزب الى السلطة ويحمل عنوان “العمق الاستراتيجي”. وإذا ما تتبعنا سياسات الحزب بعد وصوله الى السلطة تجاه معظم القضايا الحساسة، لأمكننا القول انها تطبيق عملي للنظريات التي وردت في الكتاب. لكن ذلك لا يكفي لتحديد أدق لخطوط هذه السياسة، فالدكتور اوغلو تناول هذه الاستراتيجية الجديدة في أكثر من مقالة وحوار وتصريح، ومن بينها حوار مطول لي معه قبل فترة قصيرة.
يقول داوود اوغلو ان 11 سبتمبر/ أيلول 2001 نقل العالم الى مرحلة جديدة. وبدلاً من خطاب الحرية الذي ظهر بعد انتهاء الحرب الباردة، حل خطاب الأمن الذي تجسد في حربي أفغانستان والعراق. ويوزع داوود اوغلو هذه الحقبة الى 3 مراحل: المرحلة النفسية وجسدتها حرب أفغانستان، والمرحلة الاستراتيجية وتجسدت بالحرب على العراق، ومن ثم مرحلة تأسيس نظام جديد والتي قد تستمر، تبعاً للولايات المتحدة، 10 15 سنة.
في هذا السياق، كانت تركيا تتقدم على طريق الاصلاح السياسي. وكان لا بد لكي تخرج رابحة ان تتبع سياسة خارجية مؤثرة وديناميكية ومتعددة الأبعاد، ترسي موقعاً مركزياً لتركيا في الساحة الدولية. وكانت أمام تركيا ثلاث عقبات: الارهاب، وعدم الاستقرار السياسي، والأزمات الاقتصادية. ويرى داوود اوغلو ان تركيا نجحت في استيعاب هذه العقبات وتجاوزها، وفي اتباع سياسة خارجية مرنة. وينفي ان يكون رفض البرلمان التركي المشاركة في الحرب ومن ثم موافقته بعد احتلال العراق على ارسال قوات الى هناك، تردداً وعدم وجود قرار حاسم. بل ان ذلك قرار على أعلى درجة من الوعي. فأنقرة عارضت امريكا أولاً ثم نجحت في ترميم العلاقات معها. ونجحت في استمالة دعم الاتحاد الأوروبي ودول الجوار العراقي.
ويحدد اوغلو خمسة أسس للسياسة الخارجية الجديدة التي تعمل أنقرة على اتباعها:
1- الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار الأمنية وتركيا البلد الوحيد الذي نجح في هذه المعادلة وهي هنا مثال للدول الأخرى. ومن هذه الزاوية، تركيا بلد مركز في المنطقة تاريخياً وجغرافياً.
2- تصفير (من صفر) المشكلات مع دول الجوار الجغرافي لتركيا. وهذا سيخرج تركيا من كونها بلداً طرفاً له مشكلات متواصلة مع جيرانه. ونجحت تركيا في ذلك أيما نجاح مع سوريا وايران واليونان وروسيا. بقيت فقط العلاقات مع أرمينيا التي يتم الشغل عليها في هذه المرحلة.
3- سياسة خارجية متعددة الأبعاد مرتبطة بموقع تركيا على تقاطع طرق القوى والمناطق الحيوية في العالم: آسيا أوروبا اسلام غرب، أوراسيا الاطسي، شمال جنوب، امريكا أوروبا. وفي هذا الاطار ليست علاقات تركيا مع أي طرف بديلاً من العلاقات مع طرف آخر.
4- تطوير أسلوب دبلوماسي جديد في السياسة الخارجية. وحتى الآن تُعرف تركيا في النظام الدولي بأنها جسر بين جهات عدة. هذا يعني ان دور الجسر هو الاكتفاء بمرور الآخرين فوقه، في حين ان تركيا يجب ان تُعرف في المرحلة الجديدة بأنها بلد “مركز”. وهنا على الدبلوماسية التركية ان توائم حركتها تبعاً للساحة التي تتحرك فيها، ولكل مساحة خطابها وأسلوبها، وتكون تركيا بذلك مساهمة، لا عبئاً، في التفاعل الدولي.
5- الانتقال الى دبلوماسية منتظمة ومتواصلة، وتتمثل في الالتقاء بأكبر عدد من المسؤولين على مختلف المستويات في الدول الأخرى، وفي كل القارات.
كان العام 2003 عام الخروج من المشكلات المزمنة، وعام 2004 هو عام مضاعفة التأثير التركي في المؤسسات الدولية (منظمة المؤتمر الاسلامي حلف شمال الأطلسي مأسسة اجتماعات دول الجوار الجغرافي للعراق) واظهار تركيا كقوة اقليمية مرشحة للقيام بدور عالمي. اما عام 2005 فلتعزيز العلاقات مع البلقان والشرق الأوسط والقوقاز والاتحاد الأوروبي، فيما سيكون عام 2006 عام افريقيا وامريكا اللاتينية.
يختصر أحمد داوود اوغلو الهدف النهائي من وراء هذه السياسة الخارجية الجديدة بتحويل تركيا الى بلد مركز، وتأسيس جسر صلب بين موقعها الحالي ورؤيتها المستقبلية، وعمقها التاريخي.
تركيا، إذاً، أمام استراتيجية جديدة، تحظى بإجماع داخلي، سياسي وعسكري، ونجاح تركيا في السير بين التناقضات الهائلة في محيطها وفي العالم، ولا سيما عشية وبعد احتلال العراق، مؤشر الى صوابية وعمق هذه الاستراتيجية التي تؤسس لدور عالمي لتركيا عبر اقامة روابط صداقة مع الجميع، وليس عبر القوة العسكرية التي لا تحسن امريكا و”اسرائيل” سواها.