أخلاق العبيد!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
دائما ما نسمع: افتحوا النوافذ لتجديد الهواء وتسهيل التنفس.. أو دعونا نخرج للنزهة ورؤية المناظر الطبيعية لإزاحة جواثم الهم والغم عن الصدور. هذه الامور وما شابهها من متطلبات بشرية مألوفة لا تحتاج الى تفسير او تحليل... لكن عندما نرى انساناً يشعر بالاختناق والاضطراب من لفحات النسيم والهواء العليل، نكون أمام حالة مرضية فشلت في التعاطي السوي مع الاجواء الطبيعية، وان ثمة مكروها يتلبسها.. هنا فقط يصبح تأمل هذه النوعية من النماذج الانسانية ذا أهمية، تزداد درجاتها مع توسع عدد المصابين بهذه الاعراض الفريدة.. لأن الاستثناء حين يتحول الى قاعدة يتوجب معه المتابعة والرصد.
تواردت إلى ذهني بدايات هذه الفكرة عندما استرجعت قصة قصيرة للأديب السوري البارع ابراهيم صموئيل، ولم يخطر ببالي انه بعد مرور هذه السنوات على قراءتي للقصة ان تكون مدخلا لمقالة ما، وأن هذا العمل المكثف والمختزل باقتدار سوف يمدني بمعطيات اكثر لإيصال ما نربو اليه.
ملخص القصة وهي بعنوان «البيت الواطي» عن رجل يعاني من باب بيته القديم، لانه يضطر كل يوم للانحناء لكي يدلف دون ان يصطدم بسقف الباب.. فكان يحلم بيوم يشتري فيه منزلا جديداً ذا باب سقفه عالٍ حتى يدخل ويخرج دون اضطراره للانحناء.. وعندما تحققت أمنيته وجد نفسه غير قادر على التوقف عن عادة طأطأة الرأس.. انتهت القصة.
ما أن أفقت من هذه المعاني الرهيبة والمختزنة في ذاكرتي حتى داهمتني تفاصيل كتاب لمفكر اميركي «أريك فروم» بعنوان «الهروب من الحرية» وكنت قد قرأته ايضا منذ سنوات طويلة، وكأن ثمة مؤامرة جميلة تنسج خيوطها حول ليلي الأعزل، الا من ورقة بيضاء، وقلم يتنقل بين أصابعي في حيرة مريرة للعثور على فكرة ينقض عليها.. وقد كان.
يناقش كتاب «الهروب من الحرية» مسألة وجود أشخاص يرون الحرية كابوساً يرتعبون من رؤيته، ولا يعرفون كيفية ممارستها بشكل طبيعي. وخطورة الكتاب تكمن في انه يشير الى ان هؤلاء الفارين من وجه الحرية هم في واقع الامر عبيد او مقهورون من انظمة مؤسساتية مستبدة.
ويفسر الكاتب هذه المفارقة المفزعة بأن المقهورين يعتادون مع مرور الوقت على التلذذ بالعبودية وخدمة الأسياد، بل ويستمدون كيانهم من الوضع القمعي، فيفقدون قدرتهم على ممارسة حياتهم الخاصة المستقلة، بعد ان تماهى المقهور مع قاهره.. فيتحول حلم الحرية الى فزّاعة تعريهم امام انفسهم بحقيقة عجزهم عن تبرير وجودهم كبشر.
الخيط اللاضم بين قصة «البيت الواطي» وكتاب «الهروب من الحرية» يضعنا امام حالة غريبة من إدمان الطاعة العمياء، وتذويب الذات في ذوات الطغاة سواء كانوا افراداً او انظمة او مؤسسات.
تلك النماذج الممسوخة راجت وانتشرت على يد صناع القهر الذين احترفوا تقديمه كوجبات ضرورية واساسية تتحول مع مرور الوقت الى قوانين فطرية او ما يسمى بـ «اخلاق العبيد» يتلذذ به زبائن القمع، لان اي تغيير ايجابي يطرأ على هذا الوضع المأساوي يصيبهم بخلل ينال كل كيانهم وهذا يذكرنا بما حدث للسجين التركي الذي فقد بصره حين افرج عنه، لانه شاهد نور النهار بعد حبسه اربعين عاما في غرفة محكمة الإعتام.
لكن ليست هذه هي المشكلة في رأينا لان جبروت المستبد، واستمرار وجود سياطه فوق رقاب من دونه ربما يدفع الى تكريس هذه الاوضاع، المفترض رفضها، اطول فترة ممكنة او ان الضحايا لا يشعرون بذنب تجاه ما يقترفون في حق انفسهم.
انما الخطير في الأمر ان شريحة واسعة ممن يحلمون بيوم الفرج والخلاص من جلاديهم ويتمتعون بوعي كاف عن آدميتهم وضرورة الافراج عن كرامتهم المهدورة تراهم بعد زوال هذه الطغمات البشرية لايزالون مقصرين عن اداء حرياتهم الحقة، وبعد ان كانوا أسرى لسجّانيهم، صاروا أسرى لذاكرتهم المذبوحة بالتراث القمعي، مقيدين بما يكرهونه .
ويبررون ما كانوا يمجونه أصلا. لذلك ينتاب المرء احيانا سؤال اكره سماع الاجابة عليه: ماهو المطلوب حقا، تحرير الناس ممن يستعبدونهم، أم تحرير الناس من رزايا انفسهم؟.. واذا كانت ممارسة الحرية مسئولية كبيرة، فهل باتت ممارسة أخلاق العبيد مسئولية أيضاً؟.