جريدة الجرائد

باتريك سيل: أميركا في العراق؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حين يقوم البوليس بالتحقيق في جريمة في أي بلد فإن أول سؤال يتبادر إلى ذهنه طرحه هو: من المستفيد من الجريمة؟ أي أهداف تحققت من وراء الجريمة ولصالح أي طرف؟ يمكن طرح السؤال ذاته بشأن اجتياح العراق واحتلاله الذي تحول إلى جريمة ذات مضاعفات وأبعاد لا حدود لها.

فالمعارك الضارية التي شهدتها بغداد هذا الأسبوع تشير إلى تدهور الوضع إلى حد انتقال المبادرة إلى أيدي المقاومة. والقوات الأميركية، تساعدها قوات الشرطة المسحوقة القليلة التدريب، التابعة لرئيس الحكومة إياد علاوي، لا تكاد تسيطر على شيء خارج المنطقة الخضراء - مقر السفارة الأميركية - والحكومة العلاوية. إلى ذلك تتوالى عمليات اختطاف الرهائن وتبدو الحرب أقل ما تكون مضمونة النصر، وبالتالي يبدو تنظيم الانتخابات الوطنية في بلاد من 25 مليون نسمة أمراً بعيداً جداً عن التحقيق في كانون الثاني (يناير) 2005، أي بعد أربعة أشهر فقط من اليوم. وأما إذا جرت هذه الانتخابات رغم كل هذه الظروف فيصعب أن تؤدي إلى مجيء حكومة ذات صدقية.

لذلك فإن احتمال تشكيل حكومة عراقية مستقرة وشرعية تفرض سلطتها على البلاد كلها يبدو بعيداً جداً. ولكن إذا كان احتمال «النصر» سيتماهى مع سراب الصحراء فسوف يكون ذلك أيضاً مصير آمال أميركا في التوصل إلى مخرج مشرف من المستنقع العراقي. وسيكون الحل البديل عندئذ «سنتابع المعركة بكل القوة والشدة» - على حد قول الرئيس بوش - مع كل ما يعنيه ذلك من تصاعد عدد القتلى العراقيين والأميركيين ومزيد من التدمير المادي والثمن الباهظ.

ولكي يكون لمثل هذه السياسة البديلة نصيب من النجاح فإنها تحتاج إلى مزيد من القوات الأميركية على الأرض التي عليها أن تكون مستعدة لدخول مناطق المقاومة للتغلب عليها. ولكن مع الانتشار المتزايد للقوات العسكرية الأمريكية في أنحاء العالم لا تبدو واشنطن على استعداد لتوسيع دائرة الحرب. ولعل النتيجة الأرجح هي الوصول إلى طريق دام ومسدود يكون فيه الشعب العراقي المسحوق هو الخاسر الأكبر.
هذا وتشير التقديرات المعتدلة إلى أن عدد الضحايا المدنيين في العراق يراوح بين 30 و 40 ألف شخص، ولكن القتلى والجرحى يتراكمون بسرعة تجعل التعداد الدقيق أمراً بالغ الصعوبة.

والغريب أن لا تؤثر هذه الحرب في مركز بوش المتقدم في السباق إلى الرئاسة في الانتخابات المقبلة ضد خصمه الديموقراطي جون كري. ويعود ذلك إلى أن معظم الأميركيين ابتلعوا كذبة الإدارة الكبرى حول علاقة صدام حسين بعمليات 11 سبتمبر الإرهابية. فقد نجح بوش في أن يطرح نفسه كـ «رئيس حرب» و «محارب ضد الإرهاب» يقاتل في العراف ليحمي الأميركيين. ولكن الرأي العام قد ينقلب ضده في الأسابيع المقبلة التي تسبق تاريخ يوم الانتخاب إذاما تصاعدت الخسائر الأميركية في العراق.

*الرابحون والخاسرون
هنالك طرق مختلفة لوصف ما يجري في العراق. حجة الرئيس بوش هي أنه يحارب لـ «تحرير» العراقيين من القمع وإدخالهم جنة «الديموقراطية» أملاً في أن يشكل ذلك قدوة للمنطقة بأسرها. وهو يتناسى ما أصابه من نكسات مروعة ويعود ليتبجح في الحديث عن «مسيرة الحرية إلى الأمام».

لكن هنالك رأياً مختلفاً تماماً يقول بأن ما يجري هو حرب استعمارية بالية الطراز، لا تختلف عن الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 أو عن الاقتسام الجشع التي نفذته هاتان الدولتان للمناطق العربية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

ووفقا لهذا الرأي فإن أميركا الإمبراطورية تسعى إلى خذلان القوى القومية العربية والإسلامية المناضلة كي تمتد هيمنتها على العالم العربي وخصوصاً على النفط العربي. غير أن هنالك طريقة أخرى للنظر إلى الحرب في العراق فحواها أنها في الواقع عبارة عن نقل النزاع العربي الإسرائيلي إلى ساحة قتال أخرى تحارب فيها أميركا نيابة عن إسرائيل.
ومع أن القتال لا يزال مستمراً فليس من المبكر أن نتساءل عن الرابح والخاسر في هذه الحرب. فمن هم الرابحون والخاسرون ؟

لقد أصبح الآن ثابتاً بأن المدافعين الرئيسيين عن الحرب الأميركية على العراق هم أصدقاء إسرائيل في أميركا، أي أولئك الملقبون بالمحافظين الجدد المتواجدون بأعداد ضخمة في البنتاغون إضافة إلى العديد من الوكالات الحكومية الأميركية وخلايا التفكير والتحليل والمدارس الحربية والصحافة.

وعلى حد قول الجنرال أنتوني زيني، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأميركية فإن «أسوأ خبر تم كتمانه في واشنطن» هو أن المحافظين الجدد شجعوا الحرب على العراق لمصلحة إسرائيل. جاءت ملاحظات زيني هذه خلال مقابلة مع قناة «سي بي إس» الأميركية وهي جزء من رد الفعل الاستنكاري الذي أخذ يتضخم في واشنطن ضد المحافظين الجدد خصوصاً أولئك الذين يشار إليهم بأنهم القادة المدنيون في البنتاغون، الأمر الذي يثير الكثير من القلق في صفوف هؤلاء وفي إسرائيل نفسها.

ولعل أحدث مثال على رد الفعل هذا هو ما جاء في المقال المنشور في العدد الأخير من مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الذي يشير فيه أرثر شليزينغر، أحد أبرز المؤرخين الأميركيين المحترمين الذي تابع تسجيل «العهد الجديد» للرئيس روزفلت وبرنامج جون كنيدي المسمى «كاملوت»، وقد أشار هذا المؤرخ بإصبع الاتهام إلى إسرائيل وأنصارها الأميركيين قائلاً: «من الأكيد أن التماهي الأميركي مع إسرائيل وشارون هو السبب الأهم لكراهية العرب لأميركا.»

وهو يقتبس من كتاب سينشر في الشهر المقبل للمنظر السياسي الأميركي البرفسورة آن نورتون وعنوانه «ليو شتراوس وسياسات الإمبراطورية الأمريكية». وشتراوس هو فيلسوف ألماني لجأ إلى أميركا وبقي فيها حتى وفاته عام 1971، وكان يدرس في جامعة شيكاغو، وكان ينظر إليه كالملهم الثقافي للمحافظين الجدد بمن فيهم بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع والمهندس الرئيسي للحرب.
ويقتبس شليزينغر مقولة البروفسور نورتون بأن خطة ولفوفيتز الاستراتيجية بعد 11 سبتمبر 2001 كانت «مبنية في مفهومها ومداها الجغرافي حول مركزية إسرائيل». ويمكن فهم هذه الاستراتيجية على أنها تربط تقدم المصالح الأميركية والأمن بمصالح دولة إسرائيل وأمنها.

*شبح الفشل الاستراتيجي
كانت مصلحة إسرائيل في الحرب - أي هدفها الاستراتيجي - تدمير العراق وإضعافه أبداً كي يزول أي خطر محتمل من الشرق. وقد تحقق هذا الهدف في حربي عام 1991 و 2003، إذ لم يعد هناك عراق عربي موحد وقوي. ولقد تمت تجزئته فعلياً وأقصى ما يمكن أن يتوقع هو أن يعود في صورة فدرالية مائعة. وما أبعد ذلك عن آمال أولئك الذين يتصورون أن يتمكن العالم العربي ذات يوم من أن يثبت وجوده وقوته واستقلاله.

أما مصلحة أميركا الفعلية فلا يمكن في الواقع أن تتشابه مع مصلحة إسرائيل. فأميركا كانت تريد التخلص من شخص صدام حسين الذي كان ينظر إلى طموحاته وتهوره كمصدر تهديد للنظام السياسي الذي تتبناه أمريكا في الخليج. لكن أميركا لم تكن لتريد تدمير العراق بأسره إذ ليس لها مصلحة في عراق ضعيف ومجزأ سيصبح مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة بأسرها. وهي لم تتوقع أن يحدث فراغ في السلطة في العراق من شأنه أن يكون مصدر تهديد أكبر لمصالحها في المنطقة مما كان صدام في أي يوم.

بل على العكس فإن الرؤية الأميركية كانت تقوم على ولادة جديدة للعراق كدولة عميلة ومركز قوي للنفوذ الأميركي تؤوي قواعد عسكرية وتترك للشركات الأميركية استغلال احتياطي النفطي الضخم وتتكفل بعملية إعادة بنائه. بحيث يبقى العراق بلداً على جانب من القوة يكفي لموازنة ثقل كل من إيران والسعودية.

لقد تصور الاستراتيجيون الأميركيون أن عملية الاستيلاء على العراق وإعادة تشكيله من شأنها أن تدعم السيطرة الأميركية السياسية والعسكرية على نفط المنطقة وتثبت تفوقها على جميع منافسيها إقليمياً ودولياً.
ومن الواضح بأنه إذا كانت إسرائيل قد حققت ما تريد فإن الأهداف الاستراتيجية الأمريكية لم يتم ولن يتم تحقيقها. فبدلا من أن يصبح العراق دولة عميلة تحول إلى مرتع للعنف المعادي لأمريكا وملاذا لأعدى أعدائها.

ويبدو أن المقاومة سواء كانت من الوطنيين العراقيين أو من أتباع صدام السابقين، أو من المقاتلين الإسلاميين، مصممة على إجبار الغرب على الانسحاب من العراق. وهم يريدون طرد أميركا خارج المشرق العربي كما طردت من إيران عام 1979.
وفي هذه الأثناء مأزق أميركا أشد ما يكون خطورة وحرجاً. فهي لا تستطيع البقاء بهدوء ولا تستطيع الانسحاب. ولا يزال الفخ ينغلق على آمالها وعلى قواتها في العراق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف