جريدة الجرائد

نعوم تشومسكي: بين فيتنام والعراق

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ظللت من المنتقدين للحرب الأميركية في الهند الصينية أو فيتنام ، ولا أخفي أن هناك ما يدفع بالفعل لتوجيه نقد آخر للطريقة التي يدور بها الجدل، هذه الأيام ، بين جون كيري وجورج دبليو بوش ، مرشحَّي الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة ، في حملتيهما الممتدة ، على خلفية هذا الحضور المكثف لملف حرب فيتنام في اجندتهما ، وهما يلهثان للفوز بثقة الناخب الأميركي . وطبيعي أن يستصحب كل ذلك أسئلة من شاكلة لماذا سيادة مثل ذلك النقاش حول حرب مضى عليها الزمن ، على حساب حرب ماثلة وحية وطازجة في العراق .
وللتذكير ، ولإعطاء خلفية ضرورية لذلك الجدل ، فقد تمادى منافحو الرئيس بوش للتشكيك في أداء كيري في فيتنام بداية ، ثم انتقلوا لشهادته أمام الكونغرس في 1971 التي اعترف فيها بارتكاب أميركا لجرائم حرب وجرائم تعذيب ، وإن كان كيري فيما يبدو ميالا للتملص من تلك الشهادة بحكم التقاطعات التي يمكن لها أن تحدثها على خطابه السياسي الحالي .
من جانبي أقول بداية إننا أمام قضيتين ، وهما تحديدا ، ماذا جرى في فيتنام؟ ولماذا اثارته على هذا النحو الذي يوشك أن يغطي ، إن لم يطمس، ما يدور في العراق ؟
وهنا أقول : السجل التاريخي في هذا الشأن واضح جدا . ومن ثم فالقضية هي ما إذا كانت أميركا قد قررت أن تكون أمينة مع تاريخها أم لا ..! وأشير هنا الى أن أميركا ، كدولة نافذة ، تستطيع أن تنكر وتتنكر ما ارتكبته وقامت به ، ولكن ذلك سيكون واحدا من أكثر المواقف غير المقبولة ، وخاصة حين تصدر من دولة عظمى .
وعودة لجون كيري ، لنا أن نقرأ شهادة الرجل في 1971 في سياقاتها الصحيحة . لأنه ، ومع قوله بتلك الشهادة في ذلك الزمن ، كان 70 في المائة من أفراد الشعب الأميركي قد اعتبروا سلفا أن حرب فيتنام خطأ جوهري وغير أخلاقية. وهنا لا بد أن نلتفت الى التسجيل التاريخي للتجاوزات الأميركية في تلك الحرب . فقد أورد بيرنارد فول ، وهو في عداد أكثر تاريخيينا تقديرا وثقة ، أنه وبحلول عام 1965 كان أكثر من 150 ألفا من الفيتناميين قد قتلوا بما أسماه ( القوة العسكرية الأميركية الساحقة ) وبما استصحبته من استخدام لقنابل النابالم والغازات السامة . والى ذلك كان بيرنارد قد حذر عام 1967 ، وقبل عامين من وصول جون كيري الى فيتنام ليؤدي خدمته ، بالقول : إن فيتنام قد لا تبقى في الوجود ككيان تاريخي أو ثقافي ، لأن ذلك البلد يموت أحاديا تحت وابل الآلة العسكرية الأميركية المنهمرة على مساحة بالغة الصغر في حجمها الجغرافي.
والى ذلك وسّعت أميركا من مدى تلك الحرب في الستينيات وجعلتها تشمل كل الهند الصينية ، فيما اضطر السكان في كل تلك المنطقة الى العيش في القرى وفي أكواخ تحت الأرض هروبا من قصف طائرات الـ«بي 52» على مدى عامين كاملين . ومثل هذا التقدير ليس من بنات أفكاري ، ولكنه شهادة لفريد برانفام، الصحافي والعامل في مجال العون العالمي ، وقد أورد كل ذلك مع تفاصيل أخرى مخيفة في كتابه «سهل الأذى في لاوس» . وقد أجرى برانفام شخصيا مقابلات مع أكثر من 2000 من المزارعين الذين اضطروا للهروب من القصف الأميركي في لاوس . وقد قال أي فرد من أولئك الذين شملهم الاستطلاع إن قراهم سويت بالأرض تماما من جراء القصف الأميركي ، وللعلم ، فالدليل على ذلك لا يزال قائما الى اليوم لدى الذين زاروا ويزورون ذلك السهل .
ومعلوم هنا أن تكثيف ذلك القصف وعلى ذلك النحو العشوائي كان من وجهة النظر الأميركية بسبب تحركات عصابات محاربي فيتنام التي تخيرت شن هجومها وتحركاتها من غابات شائكة تستعصي معها عمليات الرصد والتدقيق المطلوبة من قبل القوات الأميركية.
والى ذلك ، توالت الحرب لتمتد بألسنة لهبها الى كمبوديا ، وهنا لا بد من وقفة أخرى مع شرائط التسجيل التي تم الإفراج عنها أخيرا ، والتي تحمل محادثات بين هنري كيسنجر والرئيس الراحل ريتشارد نيكسون . وفي تلك الشرائط هناك كلمات من كيسنجر بأن الرئيس نيكسون قد وجه بـ «قصف مكثف في كمبوديا ضد أي شيء يطير وأي شيء يتحرك».
وكما أورد برانفام ، فقد أسقطت أميركا 6 ملايين و 727 ألفا و48 طنا من القنابل في منطقة الهند الصينية ، وذلك رقم أكثر من ثلاثة أضعاف ما أسقط على كل القارة الأوروبية ومسرح العمليات الحربية الباسفيكي خلال الحرب العالمية الثانية . والى ذلك فلن نستطيع أن نعرف كم عدد المزارعين الأبرياء الذين قتلوا كنتيجة لذلك القصف غير القانوني في تلك المنطقة ، ولكن روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأميركي السابق، ذهب الى تقدير ذلك العدد بنحو 3 ملايين و400 ألف . وبما أن قوة النيران وآلة الحرب الأميركية الضخمة والساحقة ، وراء قضاء غالبية عظمى في ذلك الرقم لنحبها ، فالتقدير البديهي يقول إن عدد الأبرياء الذين ماتوا في تلك الحصيلة لا بد وأن يقفز الى مئات الآلاف .
أما على صعيد وجه القضية الآخر ، وأعني إثارة القضية وتصعيدها ، وخاصة من جانب معسكر الرئيس بوش ، فعلم السياسة يقول إن ذلك جهد منهم لجهة قهر التاريخ القبيح . وأشير هنا الى ان الدول ذات النفوذ تحتاج الى تضامن الشعوب ، وتسلك في ذلك مناهج شتى بينها اخضاع المعلومات للتصنيف والانتقاء فيها ، وبينها قهر التاريخ للتغطية على سياسات معاصرة غير محبوبة ، وكل ذلك يكون انطلاقا من قاعدة بديهية ومعروفة ، وهي أن الناس وحين يمسكون بالحقيقة يمارسون حق المعارضة .
أقول بذلك لأن وضع نهاية لممارسات التعذيب في فيتنام فرضت بمعارضة شعبية بشعب تحصل على المعلومات ، فتعرف على ما يدور حقيقة ، ومن ثم أصبح على بينة من أمره . وللعلم هنا أيضا فتلك الحرب بدأت في 1962 ، ولكن الشعب الأميركي لم يستدر بقوة ضدها الا بعد عشر سنوات في عام 1972 ، أي بعد حصوله على المعلومات .
ومن هنا فما يثير الانتباه في حرب أميركا في العراق ، وهذه جزئية جديرة بالتوقف عندها ، وهي أنه ولأول مرة تنشأ حركة شعبية كبيرة وواسعة لحرب من قبل أن تبدأ . وهذا يقود الى استنتاج محوري وهو أن الشعب قد تغير ، أو قل أن ثمة تحولات حدثت لديه في رؤاه وطرق تفكيره . والسبب هنا أيضا بديهي ، فقد أصبح أكثر إحاطة ، وذلك مما يخيف الذين يجلسون على مقاعد السلطة ، هنا يكمن السبب وراء رغبتهم في إعادة تشكيل تاريخ الماضي . ولكن قضية الأمانة مع التاريخ تبقى قائمة ، وعلى أميركا ، وعلى من يتقدمون لقيادتها ، أن يوالوا طرح هذه القضية على أنفسهم بعيدا عن المصالح الآنية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف