جريدة الجرائد

جابر عصفور: التنوع الثقافي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كانت مفاجأة بهيجة أن اختار المؤتمر الإسلامي الرابع لوزراء الثقافة العولمة والتنوع الثقافي موضوعا أساسيا له‏,‏ في اجتماعه بمدينة الجزائر ما بين الخامس عشر والسابع عشر من شهر ديسمبر المنصرم‏,‏ وذلك إدراكا منه بأهمية الموضوع‏,‏ واستجابة لتيار عالمي لايزال يتزايد فيما يتصل باحترام الهويات الحضارية والخصوصيات الثقافية‏.‏ واختيار عنوان العولمة والتنوع الثقافي في ذاته له دلالة في هذا السياق‏,‏ فالمصطلح الأول كالثاني من المصطلحات الحديثة التي انتشرت أخيرا‏.‏ وإذا كان الأول قد اقترن بتيار هيمنة جديد‏,‏ فإن الثاني اقترن بما هو نقيضها في الثقافة علي وجه التحديد‏.‏

وكان من الضروري أن تتضمن كلمة مصر التعبير عن التقدير والاهتمام بموضوع المؤتمر‏,‏ وذلك من منطلق تحيزنا للتنوع الثقافي الذي هو وسيلة فاعلة للحفاظ علي الهويات الثقافية‏,‏ والخصوصيات الحضارية لشعوب الكرة الأرضية‏.‏ وفي الوقت نفسه‏,‏ التمسك بالتنوع الثقافي بوصفه مفهوما معاصرا ونظرية تلقي قبولا متزايدا‏,‏ وذلك من حيث النظر إليه علي أنه أفضل سبيل لمواجهة الأخطار التي حملتها العولمة‏,‏ خصوصا في سعيها إلي فرض نمط واحد علي الكرة الأرضية‏.‏ وقد كان التنوع الثقافي‏,‏ ولا يزال‏,‏ من حيث هو مفهوم ونظرية‏,‏ مرتبطا بالمتغيرات الجذرية التي شهدها العالم كله‏,‏ ودفعتنا إلي إعادة النظر في أوضاعنا الثقافية‏,‏ وذلك علي نحو اقترن بتأكيد المنطلقات التالية‏:‏

أولا‏:‏ إعلاء مبدأ تجديد الخطاب الثقافي بما يجعله يتناسب وتحديات العصر‏,‏ الأمر الذي يعني التخلي عن المقولات المستهلكة‏,‏ والشعارات التي فقدت معناها‏,‏ والتحالفات التي ثبت خطرها‏.‏

ثانيا‏:‏ إبراز الوجه المستنير المبدع في الخطاب الإسلامي‏,‏ تأكيدا لقيمه الأساسية التي لا تفارق التسامح‏,‏ وتعترف بالكرامة الإنسانية وتحض علي الاجتهاد‏,‏ وتبحث عن المعرفة التي هي ضالة المؤمن في كل مكان‏,‏ وتتيح الحرية المطلوبة للعقل الإسلامي كي يواصل دورته الفاعلة في التاريخ وبالتاريخ‏.‏

ثالثا‏:‏ تأكيد التنوع الثقافي من حيث هو تقبل للتباين علي مستوي الذات‏,‏ واحترام للمغايرة علي مستوي الآخر الأجنبي‏,‏ وهو الأمر الذي يعني أنه لا تقبل حقيقيا للتنوع الثقافي في جانب واحد فحسب‏,‏ ومن منظور علاقتنا بالآخر وحده‏,‏ فالأصل هو علاقتنا بأنفسنا وقدرتنا علي احترام اختلافنا الذي هو الأساس في احترامنا اختلاف الآخر الأجنبي عنا‏,‏ أو دفعه إلي احترام اختلافنا عنه‏.‏
ويترتب علي ذلك أن حوارنا مع غيرنا في أفق الحضارة أو الثقافة‏,‏ أو حتي في التأويل الديني‏,‏ لن ينجح إلا إذا أقمنا حوارا مثمرا بين أنفسنا ومع المختلف عنا‏,‏ من بيننا‏,‏ وفينا‏,‏ داخل العالم الإسلامي المتباين الذي ننتسب إليه‏,‏ والذي لا يعرف بعضه بعضا حق المعرفة‏,‏ ولا يزال يواجه أصعب اختلافاته بالصمت لا الحوار‏.‏

رابعا‏:‏ وتكتمل قدرتنا علي الحوار مع الآخر عندما نعرفه معرفة عميقة‏,‏ ولا نختزله في قوالب جامدة‏,‏ أو تصورات مبتسرة ومشوهة‏,‏ فالآخر الأجنبي ليس واحدا‏,‏ وفيه الصديق والعدو والمحايد‏.‏ وذلك منطقي في عالم يموج بالتيارات التي لابد لنا أن نعرفها معرفة دراسة ووعي‏.‏ ومن هذا المنطلق‏,‏ فإن تبني المؤتمر الإسلامي الرابع لوزراء الثقافة مبدأ التنوع الثقافي يعني انحيازه لتيار عالمي كامل‏,‏ تيار يواجه العولمة بمبدأ التنوع الثقافي الذي شاع في الكوكب الأرضي‏,‏ خصوصا بعد أن أصدرت اليونسكو تقريرها الشهير تنوعنا الخلاق‏,‏ وبعد أن أصدرت الأمم المتحدة تقريرها الوثيقة‏-‏ بعد أحداث سبتمبر‏-‏ بعنوان عبور الانقسام‏.‏

خامسا‏:‏ لا معني لقبول معني التنوع الثقافي مع قرينه الخاص بحوار الحضارات وتفاعلها إلا مع قبول مبدأ الحق في الاختلاف‏,‏ وإطلاق العنان لحرية التفكير والإبداع التي تضيف إلي التنوع الإنساني ثراءه‏,‏ ولا تقيم حواجز عدائية بين الطوائف السياسية أو الثقافية أو الدينية‏.‏ وتوسيع مدي المشاركة ضروري من هذا المنظور‏,‏ جنبا إلي جنب توسيع دائرة الممارسة الديمقراطية المقترنة بحرية الإنسان في أن يبدع‏,‏ وأن يفكر‏,‏ وأن يصنع عالمه علي عينه‏,‏ وبما لا يدمر عوالم الآخرين‏,‏ بل بما يضيف إليها‏.‏

سادسا‏:‏ يعتني التنوع الثقافي بمبدأ الاعتماد المتبادل الذي يعني التعاون بين الأطراف الفاعلة في الوحدة الثرية بتنوعها‏,‏ والقادرة علي أن تتيح لعناصرها حرية المباينة دون القضاء علي أساس الوحدة‏.‏ وإذا كان ديننا يعلمنا أن الله سبحانه وتعالي جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف‏,‏ فإن التعارف يعني‏-‏ فيما يعني‏-‏ المعرفة التي هي أصل القوة في هذا العصر‏,‏ واحترام الاختلاف الذي هو مصدر ثراء‏,‏ والتسامح الذي ينقض التعصب‏.‏

سابعا‏:‏ إن إرهاب العولمة الذي نراه بصوره المختلفة في عالمنا‏,‏ اليوم‏,‏ يعني فرض نمط بعينه من الثقافة والاقتصاد والسياسة بالقوة‏.‏ وهذا النوع من الإرهاب هو الوجه الآخر من الإرهاب الديني الذي يفرض فهما تفسيريا بعينه‏,‏ أو تأويلا دينيا دون سواه‏,‏ وذلك في موقف قمعي يري في المختلف كافرا يجب استئصاله‏.‏ والنتيجة هي ممارسة الوجه الآخر من قمع العولمة‏,‏ القمع الذي يهدف إلي الاستئصال دينيا أو حضاريا أو ثقافيا أو اقتصاديا‏,‏ فلا مجال لاختلاف أو تنوع مع إرهاب العولمة الذي هو الوجه الآخر من إرهاب الجماعات المتمسحة‏-‏ ظلما‏-‏ باسم الدين الذي لا يعرف الإرهاب ولا يقبله‏,‏ ويدعو إلي المجادلة بالتي هي أحسن‏,‏ وإلي قبول التنوع في الاجتهاد‏.‏

ثامنا‏:‏ يكتمل ثالوث الإرهاب بالاغتصاب الذي لا يزال متواصلا لحق الشعب الفلسطيني في أن يوجد‏,‏ ويتحرر‏,‏ في وطن مستقل يضيف إلي الإنسانية ما يؤكد قيمها التي لا تزال مهدرة في التراب الفلسطيني وغير الفلسطيني‏.‏

ومن هذا المنظور‏,‏ تنطلق استراتيجية العمل التي نتحرك علي أساسها في وزارة الثقافة المصرية وهي استراتيجية تعتمد علي ما يلي‏:‏

‏1-‏ تأكيد الدور الثقافي في قضايا التنمية المستديمة أو المستدامة‏,‏ إيمانا بأن المدخل الثقافي هو المدخل الأمثل والعنصر الفاعل في كل مجالاتها‏.‏

‏2-‏ وحدة الوسائل والوسائط الثقافية‏,‏ السمعية البصرية‏,‏ وذلك من المنظور الذي يرتقي بكل حواس الإنسان وقدراته‏,‏ ويراعي الفرد والجماعة‏,‏ ولا يغفل وسيطا‏,‏ أو يعطي الأولوية لوسيلة علي حساب غيرها‏,‏ بل يتكامل في تحقيق أهدافه عبر تنوع وسائله ووسائطه‏.‏

‏3-‏ توسيع دائرة القراءة المستنيرة التي تدعو إلي قيم الحوار والتنوع‏,‏ وذلك في أكبر مشروع عربي للقراءة‏,‏ هو مشروع القراءة للجميع الذي وزع عشرات الملايين من النسخ بأرخص الأثمان‏.‏

‏4-‏ تشجيع الترجمة وإطلاق فاعليتها من منطلق ضرورة معرفة الآخر‏,‏ ولكن بما يقضي علي المركزية الأوروبية الأمريكية‏,‏ وينفتح علي الكوكب الأرضي بكل ثقافاته‏,‏ خصوصا بعد أن تهاوي مفهوم المركزية‏,‏ وأصبح العالم أكثر تقبلا لمفهوم المراكز المتعددة المتكافئة‏.‏

‏5-‏ إقامة المؤتمرات والندوات المحلية والقومية والعالمية لتوسيع مبدأ الحوار الذي يبدأ من الذات‏,‏ ولا يتوقف عند حد في هذا العالم الذي نعيشه‏,‏ والذي تتزايد حاجته إلي الحوار‏.‏

‏6-‏ الحفاظ علي التراث الحضاري الإسلامي المضيء وصيانته‏,‏ وإشاعته‏,‏ واستلهامه‏,‏ سواء بمعناه المادي أو المعنوي‏,‏ الشفاهي أو الكتابي‏,‏ وذلك بما يؤكد الخصوصية وبما لا ينقض معني الوحدة القومية أو الدينية أو الإنسانية‏.‏

‏7-‏ التعاون مع الهيئات والمؤسسات والوزارات المعنية لصياغة استراتيجية ثقافية شاملة‏,‏ سواء بالمعني الديني السمح‏,‏ أو بالمعني التكاملي الذي لا ينفصل فيه التعليم عن الثقافة‏,‏ أو تنفصل الثقافة عن السياسة أو الإعلام‏.‏

‏8-‏ الكشف‏-‏ من منطلق هذه الاستراتيجية‏,‏ وبكل الوسائل والوسائط الممكنة‏-‏ عن كل ما يعوق ثقافة التنوع الخلاق‏,‏ وقيم الحوار والاستنارة والتقدم‏,‏ وذلك بشجاعة ودون مواربة‏,‏ وبانحياز كامل إلي كل ما يحرر الإنسان من شروط الضرورة‏.‏

‏9-‏ الإسهام الفاعل في المنظمات الدولية والقومية لدعم ثقافة التنوع الخلاق‏,‏ والإفادة من خبرات الآخرين‏,‏ والتعاون معهم في الأهداف الإنسانية المشتركة‏.‏ وفي الوقت نفسه‏,‏ إقامة علاقات ثقافية متوازنة‏,‏ بعيدا عن المنظور الضيق للمركزية بأي معني من معانيها‏,‏ وتأسيسا لتواصل جديد نتطلع إليه مع الأمم التي تبصرنا في التواصل الثقافي معها‏.‏

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف