بثينة شعبان: يا إلهي.. عن أي حقيقة تتحدث رايس..؟
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لقد عبرت باربرا بوكسر في سؤالها عن اعتقادها بأن حماسة السيدة رايس لشنّ الحرب على العراق، قد أدى إلى «إغفالها لاحترام الحقيقة». وأتى جواب السيدة رايس حاسماً، وإن يكن متذمراً حيث قالت: «لم أفقد في حياتي أبداً احترام الحقيقة في خدمة أي شيء. هذا ليس من طبعي ولا من شخصيتي، وآمل ألا تقصدي أنني أستخفّ بالحقيقة». حينذاك شعرت أنه عليّ أن أعود إلى نصّ شهادة السيدة رايس لأناقش معها بعض النقاط عن «حقيقة» ما يجري في الشرق الأوسط ، والهوّة الشاسعة بين ما تعتبره «حقيقة» وبين «الحقيقة» المريرة التي يعيشها أبناء هذه المنطقة، أو يموتون بسببها من دون أن يسجّل أحد معاناتهم أو أسماءهم في سجل المفقودين أو القتلى. وقد يكون من المفيد أن أبدي بعض الملاحظات حول الإطار العام لشهادة السيدة رايس ـ علماً بأنني أكتب مقالي هذا بعد موافقة اللجنة بالإجماع على تسميتها وزيرة للخارجية ـ كي يدرك القارئ مدلولات وآفاق النقاط التي أثيرها حول الشرق الأوسط والذي هو موضوع اهتمامي الحقيقي بحكم الانتماء والقلق على المصير.
لقد تحدثت السيدة رايس في شهادتها عن عالم يتألف من جزأين اثنين: أميركا وأصدقاؤها وحلفاؤها والذين أسمتهم في مواقع أخرى في الشهادة «بمجموعة الديمقراطيات»، والجزء الثاني والذي يشكل الشرق الأوسط ، أبرز معالمه يتألف من «ديكتاتورية وقنوط وغضب ، ينجب المتشددين والحركات التي تهدد أمن أميركا وأصدقاءها».
والملاحظة الثانية هي أن رايس قد اعتبرت «إجراء الانتخابات هو المعيار الوحيد للديمقراطية والحرية»، كما اعتبرت أميركا القوة التي أوكلت إليها مهمة نشر الديمقراطية والحرية، بهذا المفهوم الذي يغض النظر عن نوعية حياة الإنسان وكرامته، الأمر الذي نختلف عليه اختلافا شديداً، خاصة أن الانتخابات التي أشادت بها في الأراضي الفلسطينية، قد تزامنت مع مجازر بشعة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيين، كما تبعتها إجراءات إسرائيلية في قطاع غزة تشكل قمّة الامتهان للكرامة الإنسانية وحرية الإنسان، فضلاً عن كونها على تناقض صارخ مع كل القوانين والشرعية الدولية.
ومن الجدير ذكره «حقيقة»، أنه في جانب أصدقاء بل حلفاء إدارة السيدة رايس اليوم من الدول، كما كانت دوماً أشد الديكتاتوريات وأنظمة الطغيان الفردي بشاعة ، حتى وإن كانت تجري فيها انتخابات. ففي العديد من الدول الحليفة والصديقة للادارات الأميركية المتعاقبة ، لا تجري الانتخابات بأي شكل كان، بينما تقف الإدارة الأميركية دوماً كما هي موقفاً معادياً من العديد من الدول التي تتمتع بأنظمة ذات تعددية حزبية، وآليات عمل انتخابية ومؤسسات دستورية لتداول السلطة.
والملاحظة الثالثة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالملاحظة الأولى، هي أن السيدة رايس قد فاخرت بالتنوع الذي تتمتع به أميركا وعبّرت عن عزيمتها «بأن يتم تمثيل أميركا بأناس من كلّ الثقافات والأديان، لأن هذا تعبير واضح عن هويتنا وقيمنا»، بينما يُعتبر هذا التنوع ذاته في منطقتنا والذي يعود إلى آلاف السنين ذريعة تعمد السياسات الأميركية لاستخدامه في المنطقة من أجل تقسيمها إلى طوائف وقبائل وكانتونات عرقية أو دينية، وإلا كيف يمكن فهم المفاخرة بالتنوع الديني والعرقي في أميركا وتقديم الدعم اللامحدود لإسرائيل في منطقتنا ضد السكان العرب الأصليين، لأنهم عرب ، «مسلمين ومسيحيين» ، كي يمكّنوا إسرائيل من الحفاظ على لون ديني واحد ضمن حدودها.
لقد شعرت وأنا أشاهد شهادة رايس، ومن ثم أقرأها مراتٍ عدة، أن الشرق الأوسط الذي تتحدث عنه السيدة رايس، ليس هو ذاته الذي أعيش فيه وأتحدث لغته وأعشق تربته وأفهم قضاياه، وأحلم بمستقبل مشرق وأمن مزدهر له. شعرت أن رايس لا تعلم الكثير عن معاناة العراقيين والفلسطينيين ولم تقرأ تقرير المتحف البريطاني أو جريدة الغارديان البريطانية السبت (15) كانون الثاني(يناير) 2005، والتي تحدثت في صفحتها الأولى عن «حقيقة» تدمير القوات الأميركية المريع للثروة التاريخية والأثرية لمدينة بابل ، ولم تقرأ عن «حقيقة» اختفاء أكثر من مائتي عالم عراقي ، ولا تعرف عن «حقيقة» قتل وخطف أكثر من ثلاثمائة طبيب عراقي، وقتل أكثر من مائتي أستاذ جامعة عراقي، وهي لا تعرف عن «حقيقة» خوف النساء العراقيات من الخروج من منازلهن، وهي بالتأكيد لا تعرف «حقيقة» إمبراطورية الخوف والجريمة والإرهاب التي ولدها الاحتلال الأميركي في العراق ولا «حقيقة» الأحداث الدموية التي تهدف إلى إيصال العراقيين إلى حرب أهلية. وعلّ روبرت فيسك قد قدّم بعض الأسباب التي تقف وراء عدم معرفة السيدة رايس، كما هو الحال مع غيرها من الأميركيين، «بحقيقة» ما يجري في الشرق الأوسط ، حين وصف الإعلام في العراق بأنه «إعلام الفنادق» بعد «إعلام القوات»، حيث لا يتجرّأ الصحافيون مغادرة الفنادق إلى الشوارع والمدن والقرى ، فيكتبون من مخابئهم الأمنة ، والضحية الأولى بكتاباتهم تلك ، هي «الحقيقة». كما أسمت السيدة رايس الفلسطينيين باسم لا يدل على أنها «تحترم الحقيقة»، حين قالت إنهم «شعب الأراضي الفلسطينية» بينما هو شعب فلسطيني عريق له حقوقه وهويته منذ آلاف السنين.
ورايس لا تعرف «حقيقة» أخرى، وهي أنّ من يقبعون اليوم في السجون الإسرائيلية من فلسطينيين وسوريين ولبنانيين وعرب، يشبهون إلى حد كبير أولئك الأبطال الذين قاتلوا وضحوا في الولايات المتحدة ضدّ التمييز، والذين عبّرت رايس عن امتنانها لهم، كما أنها لا تعرف «حقيقة» مهمة ، وهي أننا اليوم في الشرق الأوسط نقاوم ، كما قاوم والدا السيدة رايس، القنوط واليأس، ونتشبث بالأمل ونعمل من أجل إنهاء الظلم والظلامية من كوكبنا، ونحن مثل السيدة رايس علّمنا آباؤنا وأجدادنا ألا نستمع لمن يقول لنا «لا، لا يمكن لكم فعل ذلك».
إن السياسات المغفلة «لحقيقة» ما يجري في الأرض عن قصد أو غير قصد، هي التي تشعل نار «الحقد والكراهية والصراعات والعنف» وتنشر أولاً وقبل كل شيء مشاعر الخوف وإذا طبقنا التجربة التي اقترحتها السيدة رايس حول الخوف، فإني أؤكد لها أن الشعب الفلسطيني والشعب العراقي هما أكثر من يعاني من الخوف في هذا العالم، الخوف من القتل والعنف والدمار والإرهاب الناجم عن الاحتلال والاستيطان والاعتقال والخطف. إن الكلمة السرية التي تحتاجها البشرية اليوم هي «التحرر من الخوف»، وهذه حاجة بشرية للجميع في الولايات المتحدة وفي أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. ولكي تتمكن وزيرة خارجية الولايات المتحدة من العمل من أجل الحرية والازدهار، لا بد من البدء من البداية الصحيحة ، وهذه البداية هي التعرف على «حقيقة» ما يجري فعلاً على الأرض، ومن ثمّ تطبيق المعايير والقيم الواحدة نفسها من دون ازدواجية على الجميع، واعتبار البشر جميعاً إخوة في الإنسانية من دون تقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء، وأماكن نور ومناطق ظلام. إن السؤال الذي أزعج السيدة رايس، سؤال السيناتورة باربرا بوكسر هو السؤال الأهم ، لأنه عبّر عن آراء ملايين البشر هنا في الشرق الأوسط ، وقبل البدء بجملة علاقات عامة، لا بدّ من التعرف على «حقيقة ما يجري على أرض الواقع»، وهي مختلفة تماماً عن «حقيقة» التقارير التي تعدها مراكز اللوبي المعروف ومصادر المعلومات المضلّلة والمغرضة، إذ لم يعد يكفي لوزيرة خارجية الولايات المتحدة أن تعلن أنها «تحترم الحقيقة»، بل أصبح من الضروي قيامها أولاً «بالبحث عن الحقيقة»، ومعرفتها «لحقيقة الأمر الواقع فعلاً»، وليس «الحقيقة مسبقة الصنع» وفق الأهواء السياسية أو الأيديولوجية، ومن ثم قيامها بوضع السياسات على أساسها، والمعيار لمعرفة «احترام الحقيقة» هي مدى تحقيق هذه السياسات لحرية وازدهار الشعوب وكرامة حقوق أفرادها في العيش الكريم والأمن.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف