جريدة الجرائد

صلاح الدين حافظ: مارينز الديمقراطية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حين تحدثنا قي المقال الماضي، عن الأسلوبين الأمريكيين، الناعم والخشن للتدخل في بلادنا لفرض الديمقراطية المعلبة، وعن التجارب السابقة التي حقق فيها هذا التدخل نجاحا ملحوظا، من انتخابات اندونيسيا إلى صربيا وكرواتيا وأوكرانيا وجورجيا، بفضل “فرق تنظيم الثورة الديمقراطية”، اندهش بعض القراء، واستنكر آخرون، معتبرين ما قلناه نوعا من الدعاية السوداء ضد الصديق الأمريكي.
وها نحن نزيد الموضوع وضوحا، ليس لمجرد الرد على حملات “المتأمركين العرب”، ولكن أساساً لتنوير الرأي العام المنقسم سياسيا ونفسيا، بين معارض لمبدأ التدخل الأجنبي عموما في أدق دقائق الشأن الوطني والقومي، وهو انتخاب ممثله واختيار نائبه، وبين مرحب بهذا التدخل، بحجة أن لا أمل في تغيير الأوضاع القائمة، والتخلص من نظم الحكم الفاسدة والمستبدة، إلا بتدخل خارجي قوي وصارم!
ولقد تحدثنا في المرة الماضية عن تحديات التغيير ومخاطر الضغوط على مصر في عام الانتخابات هذا، باعتبارها المرشحة الأولى، لتجريب أسلوبي الضغط الأمريكي الناعم أولا ثم الخشن في النهاية، اليوم نتحدث عن انتخابات العراق التي جرت يوم الأحد الماضي، تحت شعار استعادة الديمقراطية للشعب العراقي، كما يروج الأمريكيون وحلفاؤهم.
وبداية لا نزال نقول إن الانتخابات العراقية، بصرف النظر عن نتائجها الختامية، هي ناقصة الشرعية منقوصة المصداقية، ومن ثم لا تعبر عن مجمل طوائف وفئات الشعب العراقي، لسببين ظاهرين: أولهما أنها تمت تحت إشراف ورعاية وإدارة وحماية قوات الاحتلال الأجنبي، وفي مقدمتها 150 ألف جندي أمريكي، وثانيهما أنها تمت في ظل مقاطعة فئات معتبرة من الشعب العراقي، أبرزها طوائف السنة، التي لا يمكن تقرير مصير العراق بدونها، ولا وضع دستور وإقامة حكم شرعي ووطني في غيبتها، مع كامل الاحترام للأغلبية الشيعية المتحالفة مع الأقلية الكردية ولو مؤقتا!
وبرغم مهرجانات الدعاية البراقة، وحملاتها الإعلانية التلفزيونية الباذخة التكاليف، إلا أن أقوى وأحدث جيش احتلال في العالم، لم يستطع أن يضمن سلامة أرواح الناخبين والمرشحين، لأن العنف المضاد كان أشرس، والنتيجة المتوقعة هي انقسام هائل في بلد يحكمه الاحتلال، وتتنازعه الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية، وتتحكم فيه شراسة القوة وعنف القتل المتبادل!
ما يهمنا الآن، هو التعرف الى بعض تفاصيل “إعداد الحملة الديمقراطية للانتخابات العراقية”، من الذي وضعها؟ من الذي مولها ونفذها؟ هل سارت على الطريقة التي سبق أن نفذها مصممو “الثورة الديمقراطية” في أوكرانيا وجورجيا أخيراً، أم أخذت أسلوبا وشكلا مختلفين؟
لن نجتهد ونؤلف شيئا من عندنا، ولكننا أمام تقرير مهم كتبه ونشره يوم 26 يناير/ كانون الثاني الماضي، أي قبل يوم الانتخابات العراقية بأربعة أيام فقط، كل من الكاتبين الأمريكيين كارل فيك وروبين رايت، حول كيفية تدريب وقيادة الحملة الانتخابية في العراق وبصورة سرية، بحيث لا تظهر فيها المؤثرات الأمريكية بشكل مباشر.
يقول التقرير: “من أجل العراق نموذجا للديمقراطية في العالم العربي، بذلت ثلاث مؤسسات أمريكية، هي المعهد الديمقراطي للشؤون الدولية، والمعهد الجمهوري الدولي، والمؤسسة الدولية لنظم الانتخابات، جهودا مضنية على مدى ثلاثة عشر شهرا سابقة، لوضع استراتيجية هندسة الانتخابات العراقية، عبر مكاتبها المركزية في بغداد داخل المنطقة الخضراء المحصنة وفروعها في أنحاء العراق، وأنفقت نحو 90 مليون دولار على برامج تدريب بعض العراقيين على تنفيذ الحملة، حيث درب المعهد الديمقراطي وحده على سبيل المثال عشرة آلاف عراقي من مختلف الأحزاب السياسية”.
يضيف التقرير: “إن هذه المؤسسات الأمريكية الثلاث، اعتمدت أسلوب تقسيم العمل في ما بينها، حتى لا يقع التعارض، ما بين محاضرات التوجيه ودورات التدريب والتنظيم والدعاية، وهو الأسلوب نفسه، الذي سبق اتباعه في انتخابات اندونيسيا واليمن ودول أوروبا الشرقية، وأثبت نجاحه”.

***
وبينما كانت “طلائع المارينز الديمقراطي”، تعمل في بغداد وغيرها من المدن والمناطق العراقية، تحت الخطر المقيم، وفي ظل حماية المارينز العسكري، كانت قواعده الرئيسية وخطوط إمداده ودعمه، تنتشر في دول الجوار الصديقة والحليفة، كما يقول التقرير، ويضيف إن إحدى أهم العقبات أمام هذه المهمة الصعبة، لم تكن مخاطر هجمات المسلحين العنيفة والمفاجئة فقط، إنما كانت أيضا في نظرة رجل الشارع العراقي العادي، لمؤسسة أمريكية جاءت مع القوات العسكرية، لتعليمه الديمقراطية، تحت شراسة القتال ولعلعة السلاح والانفجارات، وهي نظرة ساخرة غير مقتنعة.
فكيف تغلبت المؤسسات الأمريكية الثلاث على مثل هذه النظرة؟ يقول التقرير، إن الرؤوس الكبيرة، فضلت استيراد خبراء من جنسيات مختلفة ليكونوا كتائب المدربين والمنظمين وراسمي الملصقات وواضعي الشعارات الذين يحتكون بالشارع العراقي ودورات التأهيل والتجريب، وكان معظمهم من البرازيل وفرنسا والأكوادور والبوسنة وصربيا ودول أخرى، وبقي الأمريكيون في الصورة الخلفية دائما، سواء في الأماكن الحصينة داخل بغداد، وفي عواصم عربية وغربية قريبة!
ونستخلص من كل ما ورد في هذا التقرير الأمريكي، أن صناعة الانتخابات الديمقراطية، أصبحت صناعة ثقيلة ومكلفة وخطرة أيضا، وأنها تحتل أهمية خاصة في برنامج الرئيس بوش لنشر الديمقراطية ومحاربة الطغيان والاستبداد في العالم، كما قال في خطاب تنصيبه منذ أسبوعين، وأن معدل سرعتها سوف يزداد خلال السنوات الأربع القادمة، لتحديث وإصلاح المجتمعات الفاسدة وتغيير نظم الحكم المستبدة، خصوصا في العالمين العربي والإسلامي، وأن الحلفاء الأوروبيين يباركون الأسلوب الأمريكي هذا، سواء كان ناعما أو خشنا عند اللزوم، وأن اللعبة أثبتت نجاحها المذهل في دول أكثر تعقيدا مثل دول أوروبا الشرقية، الأمر الذي يغري بتكرارها من الآن فصاعدا.
من ناحيتنا لا نعتقد أن هذه اللعبة الديمقراطية، قد نجحت تماما في الانتخابات العراقية، بما يماثل نجاحها في دول أخرى، للأسباب التي سبق أن ذكرناها، والتي تميز الوضع العراقي تحت الاحتلال وفي ظل المقاومة المسلحة، والمقاطعة السنية خصوصا، لكن المؤكد أن حملة المارينز الديمقراطي، نجحت جزئيا، خصوصا أن التقرير الأمريكي سالف الذكر، يقول إنها اخترقت 400 حزب سياسي ومنظمة مدنية، من الأحزاب الدينية، حتى الأحزاب الشيوعية، التي راهنت على حكاية “جعل العراق بؤرة الديمقراطية” على أنقاض نظام صدام حسين الذي اضطهد الجميع، فمهد الأرض لقبول أي بديل حتى لو كان احتلالا أجنبيا!

***
بقيت أمامنا ملاحظتان مرتبطتان بحكاية المارينز الديمقراطي هذه..
الملاحظة الأولى، هي أن كاتبا وباحثا أمريكيا معروفا، هو توماس كاروزرز، مدير مشروع الديمقراطية وحكم القانون في مؤسسة “كارنيجي” الأمريكية ذائعة الصيت، طرح الأسبوع الماضي مبادرة جديدة تحت عنوان “الأسلوب الأفضل لدعم الإصلاح في الشرق الأوسط”.
ويبني مبادرته على أساس أنه ما دام التدخل الرسمي الأمريكي في إصلاح الشرق الأوسط، الذي تسميه إدارة الرئيس بوش “مبادرة الإصلاح والمشاركة” أصبح مكروها لسمعته بين الشعوب العربية والإسلامية، فإن علينا أن نطرح بديلا يقوم على خصخصة هذا المشروع والمبادرة، وتسليمه لمؤسسة أهلية، كما حدث مع أوروبا وآسيا، وكما هو حال الصندوق القومي لدعم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، وساعتها سيتمكن القائمون على مبادرة الإصلاح والمشاركة من التحرر من الطابع الرسمي، والعمل بحرية والتحرك بين الشعوب العربية ومنظماتها المدنية بمرونة أكثر، بشرط أن توفر الإدارة الأمريكية التمويل اللازم وان تبتعد عن الصورة!
الملاحظة الثانية، هي أنه بينما كانت أول أمريكية سمراء تحلف اليمين القانونية في واشنطن، وتتسلم عملها وزيرة للخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس كانت سالفتها البيضاء، مادلين أولبرايت وزيرة خارجية إدارة الرئيس السابق كلينتون من الحزب الديمقراطي، تجوب شوارع القاهرة وتجول على مجالس المثقفين وتلتقي بالسياسيين والصحافيين، بهدف “تقصي الحقائق والتعرف الى وجهات النظر المختلفة في مصر حول الإصلاح الديمقراطي” كما أعلنت صراحة، وأنها بصفتها عضوا في مجلس الشؤون الخارجية، ستقدم تقريرا عن زيارتها.
ورغم أننا لا نعرف على وجه الدقة طبيعة هذه المهمة، ولا ما دار في الحوار مع عديد من رموز المجتمع المصري، إلا أن اللافت للنظر، هو ما نقلته بعض الصحف المصرية عنها، وخلاصته أنها وهي المنتمية للحزب الديمقراطي المعارض تتشكك في أسلوب الرئيس الجمهوري جورج بوش وأركان حكمه، الذي يسعى لفرض الديمقراطية فرضا وفورا على شعوب ودول المنطقة، إذ ان التدخل المباشر، أو حتى الدعم الأمريكي المباشر لقوى المعارضة والإصلاح الديمقراطي، يمكن أن يستخدم سلاحا مضادا.. هكذا تكلمت أولبرايت.
لكن في النهاية، علينا أن نستخلص الدرس المفيد، من جميع النماذج الثلاثة التي قدمناها، نموذج المارينز الديمقراطي في العراق، ومبادرة خبير مؤسسة كارنيجي وتصريحات مادلين أولبرايت في القاهرة.
إذ إننا نرى أنها كلها تصب في تيار واحد، وإن اختلفت بعض ملامحه: تيار تصنيع وتصدير الإصلاح الديمقراطي بالأسلوب الأمريكي، يستوي في ذلك إن جاء بالضغط الناعم، أو جاء بالتدخل الخشن، إن وقع بأسلوب مادلين أو بأسلوب كوندو...

***
** آخر الكلام: يقول الشاعر العراقي الجواهري:
لنا حقٌ يُرجى بالتماسِ
وباطلُهم ينفذُ بالسلاحِ

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف