جريدة الجرائد

علي الغفلي: واشنطن والقضايا العالمية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

اضافة الى الأحداث الدولية التي تحفل بها الساحة الدولية والتي تصب في نطاق العلاقات الدولية والسياسات الخارجية، فإن العالم يزخر بنوع آخر من المسائل الكبرى والمصيرية، والتي يطلق عليها إجمالا تسمية القضايا العالمية. فمسائل متعددة ومتنوعة مثل الإرهاب الدولي، ونقل التكنولوجيا، والبحث عن مصادر بديلة للطاقة، وعمالة الاطفال، والفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، والتمييز ضد المرأة، وغسل الاموال، والفساد الاداري والمالي، والعولمة، والتلوث البيئي، والجريمة المنظمة، وحقوق الانسان، ونشر الديمقراطية والحكم الرشيد، والانفجار السكاني، وانتشار اسلحة الدمار الشامل، والفقر ونقص الغذاء والمجاعات، والتكتلات التجارية العالمية، تشكل جميعها قضايا عالمية حقيقية وجوهرية تشغل الدول والمنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسيات في عالمنا المعاصر.

وعلى الرغم من ان معظم الاهتمام الإعلامي المرئي والمكتوب يتجه نحو تغطية الأحداث المتعلقة بالعلاقات بين دولتين او مجموعة صغيرة من الدول، أو متابعة التغير والاستمرار في قرارات السياسة الخارجية لحكومات دول العالم، فإن الحقيقة تبقى ان اهمية وخطورة القضايا العالمية تتجاوز في احيان كثيرة اهمية قرارات السياسة الخارجية البينية لعدد محدود من الدول، أو تطورات العلاقات بين حكومتين أو اكثر، وفي الاحيان المتباعدة التي تورد فيها وسائل الإعلام اخباراً تتعلق بالقضايا العالمية، فإنها تفشل في توضيح اهمية هذه الاخبار من خلال السياق العام للقضية العالمية، وتترك للمتلقي مهمة ربط الاخبار المجتزأة بعضها ببعض لتشكيل وعيه بالفهم المتكامل للقضية العالمية.
اكثر من ذلك، فإنه في الأحيان القليلة التي يتم فيها استعراض الجوانب المختلفة لهذه القضايا العالمية، فإن هذا الاستعراض يتم من خلال تخصيص ملف منفصل للقضية، الى الدرجة التي يبدو معها ان دراسة هذه القضية العالمية او تلك تمثل الاستثناء من القاعدة، ودون إعطائها الأبعاد التحليلية التي تستحقها في ضوء تشابك جوانبها الموضوعية. كما ان بعض وسائل الإعلام تقع في خطأ حصر تناول واستعراض واحدة أو اكثر من هذه القضايا العالمية في إطار اقليم جغرافي معين، وتهمل الطبيعة العالمية التي تميز القضية. كما يمكننا القول ان فئة محدودة من هذه القضايا العالمية تلقى اهتماما اعلاميا اكثر من غيرها، كأن يطغى الحديث عن الإرهاب الدولي أو العولمة أو التمييز ضد المرأة في الوطن العربي، وذلك على حساب الاهتمام الذي تلقاه القضايا الاخرى.

إن السمة الاساسية المشتركة بين هذه القضايا العالمية والمميزة لها تتمثل في ان شؤونها وشجونها تتعلق بأعداد كبيرة من دول العالم وتؤثر في أجزاء كبيرة من الشعوب، في مختلف الاقاليم الجغرافية، ولا تقتصر أبعادها على دول معدودة أو شعوب محدودة. ولقد أدت التطورات الهائلة في وسائل الاتصال والمواصلات الى تعزيز سرعة انتقال أصداء الآثار المترتبة على هذه القضايا ذات الطبيعة العالمية على دول وشعوب العالم، وذلك بعد ان اختصرت هذه التطورات كلاً من الزمان والمكان. ونظرا للصفة العالمية لهذه القضايا، فإن جهود المعالجة التي تتطلبها تتجاوز قدرة اية دولة مفردة أو عدد محدود من الدول، وتستدعي عوضا عن ذلك تكاتفا للجهود في إطار المنظمات الدولية، يتم من خلالها تخصيص الاموال والمعارف اللازمة من اجل فهم الجوانب المختلفة لهذه القضايا، ومن ثم وضع الآليات المناسبة لاحتواء آثارها السلبية.
إن الحديث عن القضايا العالمية يستدعي بالضرورة الخوض في الحديث عن أبعاد ادوار الولايات المتحدة بصفتها الدولة العظمى بالنسبة للتعامل مع هذه القضايا، وذلك نظراً لمعطيات القوة والنفوذ التي تتمتع بها هذه الدولة، والتي يمكن ان تستخدم من اجل قيادة جهود المجتمع الدولي من اجل معالجة أكبر عدد ممكن من سلبيات هذه القضايا. وفي هذا الخصوص يمكننا ان نستعرض جانبا من أهم هذه الأبعاد التي تلقيها ظلال سياسات واشنطن الحالية على طرق التعامل مع القضايا العالمية وفرص معالجتها.

1- يبدو من الواضح ان واشنطن تمارس درجة لا يستهان بها من الانتقائية في ترتيب الأولويات المتعلقة بالتعامل مع القضايا العالمية، بحيث يبدو الامر كما لو انها تختار التعامل مع تلك القضايا التي تصب في خدمة أغراض الهيمنة الاستراتيجية التي تسعى الولايات المتحدة الى تحقيقها على مستوى العالم، وتعطي بالتالي القضايا العالمية الاخرى مرتبة ثانوية من الاهمية، قد تدفع الى حرمانها الى حد بعيد من الموارد الامريكية اللازمة لمعالجتها أو مساعدة الشعوب التي ترزح تحت سلبياتها. فمن بين القضايا العالمية الكثيرة التي تشهدها الساحة الدولية، فإن واشنطن تبدو اكثر اهتماما بقضايا محددة مثل الارهاب الدولي، والحديث عن نشر الديمقراطية، واهداف احتواء انتشار التسلح النووي، وذلك لما لهذه القضايا من اهمية في تبرير النزعة العسكرية التي تنتهجها ادارة الرئيس بوش الابن في الشرق الاوسط، وتخليص الكيان الصهيوني من أعدائه التقليديين وتجريدهم من الاسلحة التي قد تهدد أمن الدولة اليهودية، وتهيئة الظروف المناسبة لاستقبال الثقل الكامل للهيمنة الامريكية في أقاليم العالم المختلفة، وضمان استمرار تدفق النفط من موارده في الخليج.

2- كما يبدو جلياً تفضيل واشنطن التقليل من شأن وأهمية المنظمات الدولية في الساحة الدولية، والعمل على توظيف هيئة الامم المتحدة بوصفها المنظمة العالمية الكبرى لخدمة أهداف الهيمنة التي تسعى الولايات المتحدة الى تحقيقها، وذلك من خلال توجيهها نحو إضفاء الشرعية على سياسات واشنطن، وعدم التردد في استبعادها وتهميش دورها عندما يتضح انها تقف عائقا في طريق تنفيذ سياساتها الاستراتيجية.
ومن شأن استخفاف واشنطن بالامم المتحدة ان يحرم جهود معالجة القضايا العالمية من أهم الآليات المطلوبة للقيام بجهد دولي جماعي منظم يمكن ان يسهم في تعزيز امكانات وفرص التعامل مع الجوانب الإشكالية لهذه القضايا. وليس أدل على ذلك من استبعاد واشنطن للمنظمة الدولية في اطار الحرب على الارهاب، وانفراد المحافظين الجدد في الحكومة الامريكية بتحديد المقصود بالارهاب والشروع بتوظيف الادوات العسكرية من اجل غزو افغانستان والعراق تحت دعوى استئصال الارهاب، والذهاب الى أبعد من ذلك من خلال وضع قواعد جديدة في التعامل الدولي من قبيل “من ليس معنا فهو ضدنا”. لم تسمح الولايات المتحدة للامم المتحدة بتبني مؤتمر دولي حول الارهاب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ايلول ،2001 وعملت على فرض رؤيتها الخاصة في هذا الصدد، لتجد اليوم بعد مرور اكثر من ثلاث سنوات من النشاط العسكري المحموم، تماما كما كان متوقعا، ان الإرهاب ما يزال قضية تؤرق العالم.

3- مهما بلغت درجة الثراء الاقتصادي في الولايات المتحدة، فإن قيام واشنطن بتخصيص الاموال والجهود الدبلوماسية نحو التعامل مع بعض القضايا العالمية يحرم من تخصيصها لقضايا اخرى، وذلك في الوقت الذي ندرك فيه ان جهود مساعدة دول وشعوب العالم على معالجة الجوانب الاشكالية التي تتضمنها العديد من القضايا العالمية تتطلب ان تستثمر الدولة العظمى قدرا كبيرا من قدراتها السياسية والاقتصادية من اجل تفعيل الآليات الدولية المطلوبة. ففي هذا الصدد، يمكننا الاشارة الى ان إنفاق واشنطن مئات المليارات من الدولارات في اطار ما تطلق عليه الحرب على الارهاب يحرم بكل تأكيد جهود معالجة قضايا الفقر والجوع والتخلف التي تفترس عشرات الدول والمليارات من شعوب العالم.
إن جزءا يسيرا من الاموال التي انفقتها واشنطن ضمن الحرب على الارهاب كان يمكن ان يتكفل بمساعدة الامم المتحدة على تحقيق التقدم المنشود على صعيد تحقيق الاهداف التنموية الثمانية للألفية الثالثة. كما ان النشاط العسكري المكثف الذي اقترفته ادارة بوش خلال الولاية الرئاسية الاولى يصنع شكوكا كبيرة حول مصداقية الوعود التي تطلقها هذه الادارة مع بدء الولاية الرئاسية الثانية بخصوص اعتماد الجهود الدبلوماسية في التعامل مع قضية نشر الديمقراطية أو معالجة قضية حقوق الانسان، على سبيل المثال.

4- ولا تتردد واشنطن في الاستخفاف بما يمكن تسميته الإجماع العالمي حول بعض القضايا العالمية، الى الدرجة التي يمكن معها ان تعمد الى إنكار اهمية بعض القضايا والتشكيك في الحقائق العلمية التي تشكل اسس فهم أبعاد وخطورة هذه القضية أو تلك. ولذلك، فإنه على الرغم من تراكم الحقائق العلمية التي تشير الى دور الغازات الضارة التي تنطلق من استخدام الوقود الأحفوري في تلويث البيئة الجوية والتسبب في تآكل طبقة الأوزون، فإن واشنطن تختار باستمرار عدم التصديق على بروتوكول كيوتو الذي يدعو دول العالم الصناعية الى تخفيض النسب المنطلقة من الغازات المتهمة بتدمير الأوزون. ومن عجب ان يصر الرئيس الامريكي بوش عقب بدء سريان بنود كيوتو على التصريح بأن الاسس التي يقوم عليها البروتوكول خاطئة تماما، ليختار بذلك منافاة الأدلة العلمية التي يسوقها المتخصصون في شأن مسببات الخلل في طبقة الأوزون.
إن الهيمنة الامريكية على الساحة العالمية امر متوقع ومفهوم في ضوء عناصر القوة التي تمتلكها الدولة العظمى والنفوذ الهائل الذي تتيحه لها هذه القوة. بيد ان المجتمع الدولي يتوقع ان توظف واشنطن جانباً من ادوار الهيمنة التي تتوفر لديها في سبيل قيادة المجتمع الدولي نحو تشكيل قناعات عالمية في خصوص الشؤون والشجون التي تثيرها القضايا العالمية المتعددة، وتزعم الجهود اللازمة من اجل معالجة سلبيات القضايا واستثمار الفرص التي تتضمنها. تقع على الولايات المتحدة مسؤولية البدء في التعامل مع مختلف القضايا العالمية الملحة من منطلق تحقيق المصالح العالمية، وليس من منطلق وصفها بالمسائل الثانوية في ضوء سعي الدولة العظمى نحو تحقيق مصالحها الضيقة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف