كريم مروة: قراءة في الانتخابات العراقية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
دخل العراق بعد الانتخابات منعطفاً تاريخياً مختلفاً بالكامل عن كل تاريخه السابق، وانفتحت أمامه آفاق تبشِّر بمستقبل جديد, يتحرر فيه الشعب العراقي من آلامه ومآسيه التي رافقت حياته على امتداد عقود طويلة، وتزول المعوقات التي عطلت التطور الديموقراطي لهذا البلد العربي الكبير. ونكاد نقول ان مستقبل العراق القادم هذا سيفتح الطريق أمام تحولات كبرى في الاتجاه ذاته، تشمل العالم العربي من أقصاه الى أقصاه. ونزعم ان هذه الانتخابات، وما تشير اليه وتبشر به، باتت توفر شروطاً أفضل وأكثر جدوى للنقاش الصريح حول احداث العاملين السابقين بكل التباساتها. وهو نقاش لا بد من الانخراط فيه، من داخل العراق ومن خارجه، ليس فقط لتصفية حسابات هنا، وللتدقيق في رهانات هناك، بل للاسهام في محاولة جادة ومسؤولة لرسم صورة المستقبل الذي مهدت له الانتخابات بمجرد اجرائها، وحتى بنتائجها، الصحيح فيها والملتبس على حد سواء. وهو نقاش يواصل ويستكمل، في شروط جديدة، النقاشات السابقة التي اتخذت طابعاً شديد الحدة والصراحة من كل الجهات والاتجهات. ولنتذكر هنا - والمسافة الزمنية القصيرة تساعد على التذكر - بأن الانتخابات كانت الموضوع الأساس لتلك النقاشات. وقد كتب الكثير حولها في مرحلة التحضير لها، كما في أعقاب اجرائها. وهي كتابات حفلت بالاجتهادات السياسية حول حاضر العراق، ومستقبله على وجه الخصوص. وانقسمت اتجاهات البحث والتحليل والاستنتاج والرأي، بحسب القوى واتجاهاتها الفكرية والسياسية، وبحسب مواقعها القديمة والحديثة. وأكثر تلك الكتابات لم يكن بأقلام عراقية. بل كان في معظمه بأقلام كتّاب عرب وأجانب، لكن نوع الكتابة اختلف في المرحلة السابقة على اجراء الانتخابات عنه في المرحلة التي تلت اجراءها.
وكان الكثير من الكتابات الأولى يحمل شعارات الفكر القومي العربي القديم ذاته، يساره ويمينه على حد سواء. وهو فكر لم يأخذ المتشبثون به في الاعتبار ان الدنيا تغيرت، وأن الأفكار والمفاهيم، مثل كل شيء في حياتنا وفي حياة العالم، لحقها التغيير في أشكال التعبير عنها، من دون أن تفقد، بالضرورة، بعض جوهرها القابل للحياة. كما لم يأخذوا في الاعتبار دروس الحقبة الماضية من تاريخنا العربي الحديث الحافلة بالهزائم والانكسارات، والمليئة بالتشويهات التي أدخلها على الفكر القومي عموماً، وعلى اليساري منه في بعض تعبيراته خصوصاً، عتاة الاستبداد داخل أنظمة الحكم وعلى تخومها، وعتاة آخرون موجودون في بعض قوى الاعتراض على تلك الأنظمة وعلى سياساتها. وكان بعض أصحاب تلك الكتابات في معالجاتهم لواقع العراق الراهن. في ظل الاحتلال الأجنبي، ينصبون أنفسهم أوصياء على الشعب العراقي المغلوب على أمره. ولم يدركوا ان واجبهم، في تلك الظروف الاستثنائية الصعبة، يقضي بأن يكونوا الى جانب القوى الوطنية والديموقراطية التي كان القمع والقتل والتشريد أضعفها الى الحدود القصوى، وغيّب دورها بالكامل، وان يساعدوا هذه القوى في محاولاتها الشاقة لاستعادة أنفاسها. بل هم - هؤلاء الكتّاب - ذهبوا في الاتجاه المعاكس لتلك المهمة، موجهين الى هذه القوى تهمة التقصير في مواجهة المحتل، وتهمة التعامل معه، بفعل انخراط قياداتها وممثليها في المؤسسات التي نشأت في ظل الاحتلال، من مجلس الحكم الى الحكومة الموقتة الى المؤتمر الوطني الذي انتخب جمعية وطنية موقتة، وأخيراً الى الانتخابات المحلية والنيابية، التي انخرطت فيها هذه القوى على قاعدة قانون ادارة الدولة الموقت، الذي جرت صياغته في ظل الاحتلال وبمشاركة أساسية من ممثليه. وكان موقف هؤلاء الكتّاب، في ما كتبوه، ينطلق من أن كل تعامل مع المحتل عمل مدان - وهو موقف صحيح من حيث المبدأ - وأن المقاومة هي الرد الوطني على الاحتلال، وهو موقف صحيح من حيث المبدأ أيضاً. ولا تبغي هذه السطور الدفاع عن موقف هذه القوى العراقية، أو تبرير سياساتها. فهي وحدها القادرة على ذلك، اذا هي شاءت. اذ ان لكل شعب قواه الأكثر معرفة من أية جهة خارجية بأوضاعه وبما ينبغي عليها عمله في مواجهة هذه الأوضاع، وهي الأجدر بتحمل المسؤولية عن الموقف الذي تتخذه في الصواب والخطأ. لكننا نعتبر، ولو من بعيد، ان الوضع في العراق كان أكثر تعقيداً من ذلك الاطلاق في الحكم، الذي استسهل هؤلاء الكتّاب تحمل مسؤوليات الفصل فيه، فالمعروف ان الدولة انهارت بكل مؤسساتها مع انهيار حكم الاستبداد، بفعل الغزو الأميركي - البريطاني للبلاد، ونتيجة لامتناع أهل النظام عن الدفاع عن الوطن والاستسلام أمام الغزاة. ولم يكن أمام تلك القوى العراقية الخارجة من تحت الأرض، والآتية الى البلاد من منافيها، الا ان تحاول التصدي، ولو من موقع الضعف الذي هي عليه، للاسهام، قدر الامكان, في اعادة بناء الدولة ومؤسساتها، تدريجاً وبالصراع السلمي مع المحتل، حتى لا تكون هذه العملية الضرورية والشاقة من صنع قوى الاحتلال حصراً. أما المقاومة التي نشأت في تلك الفترة فقد كانت، في معظمها، من قوى النظام البائد، ومن قوى خارجية تشابهه وتشابهها في النهج وفي الهدف، وفي شكل العنف الدموي والعبثي الذي اتخذته. وقد طاولت تلك المقاومة، في معظم نشاطها الدموي العبثي، المدنيين العراقيين أساساً. وطاولت النخب السياسية والثقافية العراقية، والمؤسسات الوطنية العامة، ومنها النفط والكهرباء والمياه والمستشفيات وأماكن العبادة والفنادق. كما طاولت الناشطين الاجتماعيين الذين أتوا من كل أنحاء العالم لمساعدة الشعب العراقي في محنته. وطاولت ممثلي الشركات التي جاءت الى العراق من أجل الاستثمار فيه والاسهام في اعادة الحياة الى شرايين اقتصاده المدمر. ولذلك كانت تلك المقاومة، في معظمها، عملاً تدميرياً عبثياً بكل المقاييس. ولم يصدر عن هؤلاء الكتّاب والباحثين أي موقف يدين هذا الجانب التدميري في عمل المقاومة. بل هم - أو معظمهم - كانوا يصفقون لهذه المقاومة، معتبرين ان كل ضربة تقوم بها، وفي أي اتجاه، بما في ذلك قتل المدنيين عشوائياً، وتدمير أنابيب النفط الذي كان ينعكس ضرراً مباشراً على حياة العراقيين، انما هو عمل معادٍ للامبريالية(!)، ويساعد في اجبار الاحتلال على الخروج مهزوماً من العراق!
وبمعزل عن النيات، عند عدد من أصحاب هذه المواقف، وبالفصل بين من كانوا في المقاومة وطنيين باستهدافهم قوى الاحتلال دون سواها، فإن هذه المواقف تركت تأثيراً سلبياً في العملية السياسية التي هدفت القوى الوطنية والديموقراطية بكل التباساتها، من وراء الانخراط فيها الى تحرير العراق، ولو بالتدريج وفي ظل الاحتلال، من كل ارث الماضي والحاضر، والانتقال الى عراق جديد حر وسيد وديموقراطي. وقد كان المستفيد الأكبر من مواقف هؤلاء الكتّاب هم الارهابيون داخل العراق وخارجه، وقوى الاستبداد العربية التي يرعبها تحرير العراق من ماضيه المقيت المملوء بالآلام والمآسي والدماء. فضلاً عن ان ازدياد الفوضى المقرونة بالعنف الدموي العبثي كان يبرر امام الشعب العراقي حاجته الى بقاء قوى الاحتلال زمناً أطول. وتلك مفارقة عجيبة بامتياز.
ثم جاءت الانتخابات بعد مخاض عسير، على رغم كل المحاولات التي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة - لا سيما سلاح العنف العبثي بأشرس أشكاله - ضد العراقيين لمنعهم من المشاركة في الانتخابات. هنا اختلف الخطاب، ولو جزئياً. وتغيرت بعض عناصره، وبعض اتجاهات الرأي فيه، وبدأت تبرز أفكار جديدة كادت أصوات أصحابها تضيع وسط الصراخ الآخر الذي احتل الصدارة في الوضعين العراقي والعربي وحتى العالمي. ذلك ان الانتخابات أعطت لهذه الأفكار الجديدة ولأصحابها قوة وجرأة معززتين بالوقائع الجديدة المذهلة. وانفتحت، بفعل ذلك، كوة كبيرة في النفق المظلم، يطل منها العراقيون على آفاق مستقبل جديد لبلدهم، هو مستقبل قيد التكوين، مستقبل غير مسبوق في تاريخ العراق الطويل، منذ ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن.
ولسنا في حاجة للحديث عن الدلالات الكبرى التي يشير اليها اجراء الانتخابات، على قاعدة قانون ديموقراطي عصري، وعن الدلالات التي يعبّر عنها زحف الملايين الثمانية من العراقيين الى صناديق الاقتراع، متحدين الارهاب الوحشي، محددين خياراتهم بحرية، مقررين، بوعي، أو بنصف وعي، أو من دون وعي، أو حتى بوعي غريزي مستنفر، لمن يمنحون أصواتهم. وقد دلت النتائج التي أسفــــرت عنها تلك العملية الديموقراطية ان العراقــيين، الذين لم يعتادوا خلال تاريخهم الطويل على ممارسة حريتهم في اختيار ممثليـــهم، كانوا في ذروة الرقي، حتى وان كانــوا قـــد اختاروا، بنفس ديني ومذهبي، أكثرية شيعية. وهي أكثرية موقتة، تقابــلها قوة علمانـــيـــة كبيرة، مشكلة من كل مكونات المجتمع، الطائفية والمذهبية والقومية، ومهيأة في الظروف الجديدة لأن تزداد وزناً وحجماً وتأثيراً.
وجاءت هذه الانتخابات في طريقة اجرائها، وفي المشاركة الشعبية الكثيفة فيها، وفي نتائجها، نقيضاً للكثير من الحسابات والرهانات التي سبقت اجراءها. فهي كانت عملية سياسية ديموقراطية لم يشهد مثيلاً لها أي بلد عربي على امتداد عقود طويلة، بما في ذلك لبنان الاستثناء في تقاليده الديموقراطية العريقة, الذي شوهت ديموقراطيته أنظمة الاستبداد الدخيلة على تقاليده، وألحقته، أو تكاد، بالحال العربية الاستبدادية السائدة.
وعلى رغم هذه المواصفات كلها، المتمثلة بهذه الانتخابات، المذهلة بدلالاتها، وبما تشير اليه من آفاق مستقبلية، ظلت ترتفع أصوات هنا وأصوات هناك من طبيعة الأصوات القديمة ذاتها، تتحدث عن شوائب، موجودة فعلاً. وتتحدث عن نسبة من المقترعين لم تشمل أقساماً من الشعب بفعل المقاطعة، وهو أمر صحيح. وتتحدث عن غرائز طائفية طغت على الانتخابات. وهو أمر واضح أيضاً. وفات هؤلاء المشككين ان العراق يعيش تحت الاحتلال، وأن قوى النظام الاستبدادي القديم ظلت تمارس ارهابها الوحشي على شعبه، حتى مزقته وعطلت قدرته على الاحساس بالحياة، وشوهت بعض وعيه وبعض مشاعره. وفات هؤلاء, خصوصاً، ان أياً من بلداننا لم يستطع، عبر تاريخه الطويل كله، ان يمارس عملية انتخابية من نوع ما حصل في العراق وفي فلسطين، في ظل الاحتلال هنا، وفي ظل الاحتلال والعدوان هناك. وهي مفارقة عجيبة، من جملة مفارقات عجيبة أخرى.
لقد كنت، على امتداد العامين الماضيين، منذ الغزو الأميركي البريطاني للعراق وسقوط حكم الطاغية صدام حسين حتى هذه اللحظة، مواكباً للأحداث كلها في هذا البلد العربي وحوله، ومواكباً التطورات في اتجاهاتها المتناقضة. وكتبت الكثير حول قراءتي لمجرى التطور في العراق وفي المنطقة. وكنت أرى، من خلال ظلام الواقع القائم في ظل الاحتلال، بأن عراقاً جديداً حراً وديموقراطياً هو قيد الولادة والتكوين، وأن هذا العراق القادم سيسهم في احداث تحولات كبرى في العالم العربي في الاتجاه ذاته. ولذلك كنت أرى، مع آخرين من الكتّاب العرب، ان أنظمة الحكم العربية، تماماً مثل بعض حملة الفكر القومي، هي الأكثر تضرراً من ذلك التحول الديموقراطي الذي يتجه نحوه العراق بخطى سريعة ومتدرجة، ولو بأثمان من النوع الذي نشهد نماذجه في هذا العنف الهمجي الذي يستهدف العراقيين ويستهدف مؤسساتهم الحيوية، من دون أن يؤذي قوى الاحتلال الا قليلاً، ومن دون ان يمس بمصالحهم الأساسية التي من أجلها جاؤوا الى العراق حرباً وغزواً. وكنت أنطلق في رؤيتي التفاؤلية تلك من أمرين أساسيين: الأمر الأول يتعلق بمعرفتي بتاريخ العراق وبتاريخ شعبه وحركته الوطنية والديموقراطية. وهو تاريخ حافل بالنضالات ضد كل أنواع التدخل الخارجي وضد كل أنواع الاستبداد. الأمر الثاني يتعلق بفهمي للعمل السياسي، في مثل الظروف التي وقع فيها العراق فريسة الغزو الأميركي - البريطاني، هذا الغزو الذي هيأت له سياسات ومغامرات نظام الاستبداد. وهي ظروف صعبة ومعقدة. وقناعتي، وفق تجربتي السياسية الطويلة، تؤكد بأن اختيار الأشكال الملائمة للنضال، من أجل الخروج من أسر النظام القديم ومن الواقع الجديد الناشئ المتمثل بالاحتلال الأجنبي، هو عملية دقيقة، تتطلب إعمالاً للعقل في شكل مختـلف. كما تتطلب التعامل مع الظروف الناشئة بواقعية سياسية جديدة غير مألـوفـة. وهـي واقعيـة تجمع بين القرار الحاسم في النضال لتحـريـر البلاد من الاحتلال الأجنبي، بالأشكال التي تتلاءم مع الامكانات المتاحة وتخدم الأهداف المبتغاة، وبين العمل لمنع النظام القديم من العودة الى مواقعه القديمة في السلطة بصيغ جديدة، وبين الهم والجهد الراميين الى توحيد الشعب العراقي، بأطيافه المختلفة المتنوعة المتعـددة، في النضـال لاقامة عراق جديد، فيديرالي ديموقراطي بكل المعاني. وهذا، في رأيي، ما سلكته، ولو بصعوبات كبيرة، ولو بتعرجات كثيرة، ولو بأخطاء هنا وبمساومات هناك، القـوى التي انخرطت في العملية السيـاسـيـة من بداياتها حتى هذه اللحظة، وراهنـت على الانتخـابات، وأصرت على اجرائها، وأعلنت بشجاعة القبول بنتائجها الديموقراطيـة، على رغم كل ما حملته تلك النتائج من التباسات. وهي مرحلة أولية ستليها مرحلة أخـــرى في نهاية العام الحالي. وستقرر المرحلة المقبلة تلك، في شكل أكثر دقة ووضوحاً، توزع الناخبين والرأي العام فيها على القوى السياسية المختلفة، وذلك في ظل ديموقراطية جديدة راقية، يعبر عنها كل من الدستور الموقت وقانون الانتخاب القائم على النسبية.
ويشارك هذا الموقف من الانتخابات، وفي هذه القراءة لمجرى التطور في العراق، عدد غير قليل من الباحثين والمحللين والمفكرين، من عراقيين وعرب وأجانب. وتجمع الآراء في هذا الشأن على ان النضال الذي يخوضه الشعب العراقي، وتخوضه قواه الوطنية والديموقراطية، في هذه الحقبة البالغة التعقيد من تاريخ العراق الحديث، أسوة بالشعوب الأخرى، انما يخضع لقانون موضوعي لا يمكن القفز فوقه وتجاوزه. وجوهر ما يشير اليه هذا القانون وما يؤكد عليه هو ان الأهداف المطلوب تحقيقها من هذا النضال، كبيرها وصغيرها، الراهن منها والمستقبلي، إنما تتحقق على مراحل. ذلك ان المنطق الذي يقول بكل شيء أو لا شيء هو منطق مغامر، بيّنت الأحداث التي شهدناها على امتداد العقود السابقة القوة التدميرية التي ينطوي عليها. وهذا القانون ذاته هو الذي يجعل التاريخ، تاريخ كل شعب وقوم، وتاريخ العالم، ينقسم الى مراحل والى حقبات، كل واحدة منها تؤسس للتي تليها، إما بشروط تجعل الانتقال الى الحقبة التالية أكثر سهولة وأكثر تقدماً، أو بشروط تجعل عملية الانتقال هذه أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً! والعراق، مثل سائر البلدان العربية، هو في مرحلة عبور صعبة وباهظة الثمن الى المرحلة المقبلة. والعالم كله يمر في مثل ما تمر به بلداننا، بفعل المتغيرات الكبرى التي شهدها العقد الأخير من القرن الماضي. وأكثر ما نخشاه هو أن يتعذر التحول الحقيقي الصعب والمعقد في بلداننا من داخلها. فيقود ذلك الى استغلال القوى الخارجية هذا الخلل لتتدخل وتقوم بعملية قيصرية تدخل هذا التحول في التباسات قد تهدده بمرض سيحتاج الى زمن طويل للتخلص منه ومن آثاره. ذلك ان للخارج دائماً مصالحه. وهو، اذ يتدخل في قضية هنا وقضية هناك، فلتأمين مصالحه هذه، التي قد تتقاطع موقتاً مع مصالح آنية للقوى المناضلة من أجل حريتها ومن أجل التغيير. ولكن لهذا التقاطع، لكي تكون مصالحنا فيه محفوظة ومصانة بأكبر قدر ممكن، شروطاً يحددها، أولاً وقبل كل شيء، موقف القوى الوطنية والديموقراطية في البلد المعين، موقفها الواضح، غير الفئوي، وغير الآني، الموقف الذي يغلب مصلحة البلاد على مصالحه السياسية والايديولوجية أياً كان مستوى التزامه بها. ويقدم العراق مثلاً ساطعاً على ذلك. وتقدم أفغانستان،على رغم كل ما يقال عن ارتباط نظامها الحالي بالامبريالية الأميركية وبمصالحها، مثلاً آخر. ويقدم السودان مثلاً ثالثاً. ويقدم لبنان اليوم، في مواجهته الحاسمة للأزمة القديمة المستعصية على الحل، المثل الرابع.