حسن نافعة: دلالات ترشيح بولتون وولفوفيتز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اتخذ الرئيس جورج دبليو بوش خلال الأسبوعين الماضيين قرارين أعتقد أنهما يفصحان عن تطور جديد في سياسة الإدارة الأميركية تجاه المؤسسات الدولية عموما وتجاه منظومة الأمم المتحدة على وجه الخصوص. القرار الأول كان ترشيح جون بولتون، نائب وزير الخارجية لشؤون الرقابة على التسلح والأمن الدولي، لشغل منصب المندوب الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، خلفا لنيغروبونتي الذي أصبح مسئولا عن مجمل أجهزة الأمن الأميركية. أما القرار الثاني فكان ترشيح بول ولفوفيتز، النائب الأول لوزير الدفاع، لرئاسة البنك الدولي خلفاً لولفنسون. وينتمي الاثنان، بولتون وولفوفيتز، إلى جناح الصقور في الإدارة الأميركية التي يسيطر عليها المحافظون الجدد، وتجمع بينهما ملامح مشتركة أولها: الاحتقار الشديد لكل ما يمت للمؤسسات الدولية بصلة، وخصوصًا تلك التي لا تهيمن عليها الولايات المتحدة، والنظر إلى أنشطتها بعين الشك والريبة وكأنها أنشطة هدامة ومناهضة بطبيعتها للسياسة الأميركية. وثانيها: تأييدهما المطلق وغير المشروط لإسرائيل. ومن المعروف أن بولتون كان عضوا نشطا في إدارة المجلس الاستشاري للمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، كما أن بعض أفراد عائلة ولفوفيتز، من بينهم شقيقته، يقيمون في إسرائيل. وثالثها: إيمانهما المطلق بحق الولايات المتحدة الذي لا ينازع في الهيمنة على العالم، وبأن هذه الهيمنة ليست لصالح الولايات المتحدة وحدها، ولكن لصالح شعوب الأرض قاطبة، بل وضرورة من ضرورات تحقيق السلم والأمن الدوليين. ومن المعروف أن كليهما لعبا دورا بارزا في بلورة وصياغة التقرير الشهير المعروف باسم "مشروع القرن الأميركي الجديد"، الصادر عام 1997، والذي أصبح بمثابة الدليل المرشد للإدارة الأميركية الحالية، سياسيا وأيديولوجيا.
وإذا كان ترشيح ولفوفيتز شكل صدمة للعالم أجمع وأثار انتقادات حادة، خصوصًا في أوربا، فإن تعيين بولتون لم يثر نفس القدر من ردود الأفعال السلبية، على الرغم من أن هذا الأخير يعد الأخطر والأكثر تعبيرا وإفصاحا عن حقيقة موقف ونوايا الإدارة الأميركية الحالية تجاه المؤسسات الدولية. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن أحدا لا يملك الاعتراض على رغبة أي حكومة كانت في تعيين من تشاء مندوبا لها في أي منظمة دولية، فذلك حقها السيادي المطلق والذي لا يملك أحد منازعتها فيه. لكن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بالترشيح لمنصب دولي رفيع يفترض فيمن يشغله تمثيل مصالح جميع الدول الأعضاء، وعددها في حالة البنك الدولي يصل إلى 184 دولة، ويعبر عن توافق سياساتها وليس عن سياسة أو مصالح حكومة الدولة التي ينتمي إليها. غير أن ما يتعين التذكير به هنا هو أن وضع الولايات المتحدة في البنك الدولي يختلف عن وضعها في العديد من المنظمات الدولية الأخرى. فهي الدولة الأكثر إسهاما في رأسمال البنك وبالتالي الأكثر ثقلا من حيث الوزن التصويتي (حوالي 16 في المئة من جملة الأصوات). ورغم أن الدول الأوروبية تملك، مجتمعة، ضعف الوزن التصويتي للولايات المتحدة إلا أن العرف جرى على اقتسام رئاسة المؤسسات المالية الدولية الكبرى بينهما بحيث تؤول قيادة صندوق النقد الدولي لشخصية أوربية دائما، وقيادة البنك الدولي لشخصية أميركية أبدا.
غير أن ولفوفيتز ليس هو الشخص الأنسب، حتى بالمعايير الأميركية، لقيادة مؤسسة مالية دولية في حجم البنك الدولي، وذاك لأسباب موضوعية بحتة. فلم يكن لهذا الرجل علاقة في أي يوم من الأيام بأوساط المال او الاقتصاد أو الإدارة. فخلفيته العلمية والأكاديمية المباشرة تتصل بحقل آخر وهو حقل العلوم السياسية. ومن المعروف أنه حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو، وقام بتدريس العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعتي ييل وجونز هوبكنز، وهما من أشهر الجامعات الأميركية. غير ان وولفوتز لم يشتهر كأكاديمي أو كباحث متميز في أي من هذين المجالين، ولكنه اشتهر كمنظر ايديولوجي لفكر المحافظين الجدد، وكناشط سياسي مؤيد لإسرائيل وللمنشقين الإيرانيين والعراقيين، وأصبح من أشد المطالبين بإسقاط النظامين العراقي والإيراني، وهو ما رشحه لشغل مناصب سياسية رفيعة في وزارتي الخارجية والدفاع منذ وصول اليمين الأميركي المحافظ بقيادة ريجان إلى السلطة.
صحيح أن شغل ولفوفيتز لهذه المناصب أكسبه خبرات إدارية، حيث بلغ مجموع السنوات التي قضاها كموظف عمومي ما يقرب من ثلاثين عاما، غير أن هذه الخبرة ظلت محدودة وذلك لسبب بسيط وهو أن المواقع التي شغلها كانت في معظم الأحوال بحثية وفكرية أكثر منها أدارية أو تنظيمية. وقد ثبت بالدليل القاطع، من الناحية العملية، أن أفكاره وأحكامه وتقديراته ذات الصلة بوضع السياسات ورسم الخطط قادت إلى كوارث. فقد كان من أشد المروجين لمقولة ان صدام حسين يمتلك من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لتهديد العالم بأسره، ولم يكن مجرد واحد من مهندسي الحرب على العراق ولكنه كان من أكثرهم حماسا وتقليلا للعواقب. فقد أكد مرارا وتكرارا أن الولايات المتحدة لن تحتاج إلا إلى أقل من عشرة آلاف جندي للسيطرة على الأوضاع في العراق عقب إسقاط صدام، وقدر التكلفة الإجمالية للحرب ولإعادة الإعمار معا بين 65-95 بليون دولار. غير أن ما نراه الآن على أرض الواقع يكذب كل هذه التقديرات تماما. فقد ثبت عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق. ويبلغ عدد الجنود الذين يحاربون هناك الأن، وبعد أكثر من سنتين من إسقاط نظام صدام حسين، 170000 مقاتل، علاوة على 30000 آخرين في كل من الكويت وقطر، وهي أعداد قابلة للزيادة وليس للانخفاض. أما التكلفة الإجمالية فتتراوح بين 250-350 بليون في متوسط التقديرات. فكيف يستطيع شخص ثبت فشله إلى هذا الحد أن يقود مؤسسة في حجم وخطورة البنك الدولي؟
الواقع أن اختيار بوش لولفوفيتز يعود، في تقديري، إلى اسباب أيديولوجية وليست فنية. فهذا الرجل يؤمن إيمانا عميقا بأن القرن الحالي يجب أن يكون قرنا للهيمنة الأميركية المطلقة على العالم، وهو على استعداد لاستخدام كل الوسائل، الأخلاقية منها وغير الأخلاقية، لتحقيق هذا الهدف. وقد نسب إليه قوله في تعريف معنى القيادة: أن "القيادة شيء يختلف عن القدرة على تقديم النصح أو اتخاذ المواقف الاستعراضية..فهي تعني أولا وقبل كل شيء القدرة على حماية الأصدقاء ورعايتهم، ومعاقبة الأعداء وردعهم، ودفع كل من يرفض تقديم العون للندم يوما ما على فعلته النكراء"!. وفي تقديري أن ولفوفيتز جاء وفي نيته تخويل البنك الدولي إلى بنك أميركي: يقدم القروض بسخاء لأصدقاء أميركا ويمنعها عن أعدائها، ويخيف كل من تسول له نفسه عدم الانصياع للطلبات الأميركية بأنه سيعض على اصابعه ندما لأنه تجرأ يوما على أن يقول "لا" لسيد العالم الجديد.
وقد تبدو الصورة التي نرسمها لولفوفيتز، على هذا النحو، بشعة بالنسبة للبعض. غير أن هؤلاء سرعان ما يكتشفون أنها أقرب إلى صورة الملاك الطاهر أو الحمل الوديع إذا ما وضعت إلى جانب صورة جون بولتون، سفير أميركا الجديد لدى الأمم المتحدة، والذي سنراه خلال السنوات القادمة في مقعد رئيس مجلس الأمن. فهذا الرجل، والذي درس القانون في جامعة ييل أيضا وأصبح واحدا من كبار المحامين، يحلل الحرام ويحرم الحلال، ولو لم تفتح أبواب المناصب الرسمية أمامه فلربما أصبح زعيما لإحدى عصابات المافيا أو غسيل الأموال. فقد بنى شهرته على كيفية التحايل على القوانين المنظمة للحملات الانتخابية وعثر فيها على ثغرات كثيرة مكنته من مساعدة كثيرين على استخدام الأموال غير المشروعة في دعم الحملات الانتخابية لعتاة الجمهوريين من المحافظين الجدد. ثم استخدم بعد ذلك كرأس حربة "لتنظيف" وزارة العدل من سطوة الليبراليين الأميركيين!.
ولا يعد جون بولتون مجرد واحد من كبار الشخصيات الأميركية المعادية للمؤسسات الدولية المتعددة الأطراف ولكنه يعد كذلك من أشدها احتقارا للقانون الدولي ونفورا منه. فقد نشرت له صحيفة وول ستريت جورنال عام 1997 مقالا يؤكد فيه أن المعاهدات لا تعد قانونا إلا في الحدود اللازمة للاستخدام المحلي في الولايات المتحدة. أما على الصعيد الدولي فهي، عمليا، ليست سوى تعبير عن ترتيبات سياسية، وبالتالي لا يمكن النظر، في تقديره، للمعاهدات الدولية التي توقعها الولايات المتحدة كقوانين ملزمة واجبة الاحترام، ولكن كضرورة سياسية لا ضرر من التحلل منها مع تغير الظروف. ولذلك لم يعد غريبا ان يلقي جون بولتون بكل ثقله لدفع الولايات المتحدة إما للتحلل من اتفاقيات دولية صدقت عليها ومن التزامات دولية أبرمتها، أو للتراجع عن التصديق على اتفاقيات وقعتها، أو للعزوف عن المشاركة أصلا في بلورة اتفاقات دولية يحتاجها المجتمع الدولي لتنظيم وضبط العلاقات بين وحداته. ومن المعروف ان جون بولتون كان من أبرز المعارضين لتوقيع الولايات المتحدة على اتفاقية روما الخاصة بإنشاء محكمة الجنايات الدولية، وسخر ممن ساهموا في صياغتها إلى حد اتهامهم بالرومانسية البلهاء، فهو ينظر إلى هذه الاتفاقية على أنها product of fuzzy-minded romanticism، وتعكس، في تقديره، تفكيرا ليس ساذجا فقط وإنما خطر أيضا!.
إن من يفكر على هذا النحو لا بد ان يضمر في قرارة نفسه أشد أنواع الازدراء للتنظيم العالمي وبالتالي لا يستغرب منه اعتبار الأمم المتحدة مجرد شيء تافه لا قيمة له ولا يقدم أو يؤخر. وقد نسب إلى جون بولتون قوله: "لو أن سكرتارية الأمم المتحدة فقدت عشرة طوابق من مبناها في نيويورك فلن يتغير شيء في هذا الكون. غير أن ذلك لا يمنعه من تقدير أهمية وقيمة المؤسسات متعددة الأطراف التي تحتل فيها الولايات المتحدة موقعا قياديا، ويؤمن بالعمل الجماعي المتعدد الأطراف حين يقوم على تحالف الراغبين coalition of the willing ، شريطة أن يكون هذا التحالف بقيادة الولايات المتحدة بالطبع".
تجدر الإشارة إلى أن هذا الرجل، والذي ساهم في تأسيس منظمة أميركية غير حكومية تسمى "الرابطة الفيدرالية the Federalist Society لا يكن أي احترام للمجتمع المدني الدولي. فأهم ما أنجزته هذه الرابطة هو مشروع NGOWATCH ، والذي استهدف تتبع ومراقبة المنظمات الدولية غير الحكومية التي يعتقد أنها تمارس أنشطة مناهضة للسياسة الأميركية أو معادية لها. فما الذي يمكن أن نتوقعه من رجل كهذا حين يجلس في مقعد أميركا الدائم في مجلس الأمن؟
الأرجح أن بوش أتى به لتأديب الأمم المتحدة وإشهار العصا في وجه كل من تسول له نفسه التذكير بالقانون الدولي. فلا مكان هنا إلا للقانون الأميركي الذي هو قانون الأمم المتحضرة وبالتالي فهو القانون الوحيد الملزم والواجب الاحترام، وأي خروج عليه لا بد أن يستتبعه توقيع الجزاء ليس فقط من جانب المؤسسات الأميركية ولكن أيضا وعلى وجه الخصوص من جانب مجلس الأمن نفسه، والذي سيصبح أداة قمع في يد كونداليزا رايس حتى نهاية 2008.
وحين يحتل أمثال بولتون مقعد الرئاسة في مجلس الأمن ويصبح ولفوفيتز رئيسا للبنك الدولي لا بد أن ندرك فعلا أن القرن الأميركي الجديد لم يعد مجرد مشروع وإنما تحول إلى برنامج يجري الآن تنفيذه على أرض الواقع أمام أعيننا. ولذلك لا نملك إلا أن نقول مع المرحوم الفنان الكبير يوسف وهبي: ياللهول!.
* كاتب وجامعي مصري.