د.تركي الحمد: إسرائيل التي لا نريد أن نعرف..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من نافلة القول أن إسرائيل دولة قامت على العنف والإرهاب، وبناءً على إيديولوجيا عنصرية، وهي دولة توسعية لا تستمر في الوجود إلا بالتمدد على حساب الجيران، وإهدار كل عرف وكل حق، هذه أمور لم تعد خافية على كل ذي عين ترى، ولن نكرر ما قيل ويقال في هذا الشأن، فإسرائيل المتحدث عنها هنا هي الوجه الآخر الذي نتجاهله، أو يؤلمنا كثيراً أن نعرفه ونواجهه. المتحدث عنه هو إسرائيل التي ببساطة هزمتنا، وببساطة نحرتنا، وببساطة دحرتنا.
هذه «الإسرائيل» هي محل القول ومربط الفرس: لماذا علت وكنا نحن من المنحدرين، ولماذا انتصرت وبقينا نحن من المهزومين. أكتب هذه الكلمات وما زال في ذهني ذلك التقرير الذي نشرته ذات يوم مجلة «الجمهور» اللبنانية، وذلك قبيل حرب عام 1967، والذي كان يدور حول التخلف الذي يعاني منه المجتمع الإسرائيلي، من خلال المقارنة بين نمط الحياة في تل أبيب ونمط الحياة في بيروت.
كان التقرير زاخراً بصور لرجال ونساء يقطعون الشارع بلا نظام، وبباعة يبيعون سلعهم على الرصيف، وأشياء أخرى لا أذكرها حقيقة. كانت المجلة تعتبر تحقيقها ذاك سبقاً صحافياً، وكنا نصدق كل شيء يتحدث عن إسرائيل بسلبية، فقد كانت مجرد دويلة عصابات جعلها الاستعمار دولة على أرض فلسطين. وكنا وقتها نعتقد بالتفوق على «العدو الصهيوني»، وأن ما حدث من «نكبة» عام 1948، كان نتيجة الخيانة والتآمر والأسلحة الفاسدة، ولا شيء غير ذلك، ونترقب متى تكون المواجهة كي تكون العودة إلى حصون عكا، وشواطئ حيفا، وبيارات البرتقال في يافا، في أيام معدودات، إن لم يكن في سويعات نزهة قصيرة، فالقضية مقاومة.
وجاءت المواجهة، واستهلتها مجلة «الأسبوع العربي» آنذاك بعنوان ما زلت أذكره بوضوح يقول: «بداية النهاية لإسرائيل»، فإذا بنا نتهاوى كأعجاز نخل خاوية، في صباح يوم لم تمتد سويعاته حتى تتوسط الشمس كبد السماء. تبين لنا أن «جيشهم» أقوى من كل «جيوشنا »، وأن موسادهم أقوى من أعتى مخابراتنا التي كانت تبعث الرعب في أوصالنا، وأن جنودهم أفتك من جنودنا، فأخذتنا الحيرة، وما زالت، ونحن نتساءل: لماذا حدث ما حدث، وكيف حدث، وأين تكمن العلة.
وتعددت الإجابات من بعد ذلك اليوم المشئوم وحتى اليوم. فمن قائل بمؤامرة دبرت بليل حالك سواده، ومن قائل ابحث عن أميركا والغرب، ومن قائل أن البعد عن الله كان السبب، ومن قائل أنها كبوة لا يلبث أن يعقبها صحوة، ومن قائل أنها لم تكن هزيمة على الإطلاق، فالهدف كان هو إسقاط الأنظمة الثورية في المنطقة، وطالما أنها لم تسقط، فإنه النصر المبين، ومن قائل بأننا خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب.
تعددت الأسئلة ولكن بقي الجواب واحد على تعدد الأجوبة: لم يكن الخلل في الذات، ولكنها عوامل خارج الذات هي من فعل ما فعل، وصنع ما صنع. إجابات متعددة، ولكنها لم تصل في النهاية إلى الجواب الحقيقي لما نحن فيه، رغم أن الجواب بسيط وواضح، ولكنه غير مريح للذات المنتفخة على غير أساس ملموس من واقع. وهذا الجواب لا يحتاج إلى محلل قدير، أو منظر ألمعي، أو فيلسوف كبير كي يراه بمجهر لا يملكه كل أحد، بقدر ما أنه يكمن في حقيقة بسيطة تكشف كل الجواب، ولكننا لا نريد أن نقرأ الواقع، أو أننا نقرأه ولكننا لا نقرأه في الوقت ذاته، لأننا نقرأ بنظارات لم تعد صالحة.
حقائق بسيطة تكشف السبب. فمثلاً، كان من ضمن الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام إسرائيليان: آرون شيشانوفر وأفرام هيرشكو، وذلك لاكتشافهما كيف تتخلص الخلية الحية من البروتينات الضارة، وبذلك يسهمان في محاولة الوصول إلى علاج لأمراض عدة مثل اللوكيميا وغيرها. ومثلاً، بين التصنيف السنوي لأفضل خمسمئة جامعة في العالم، أن من بينها سبع جامعات إسرائيلية، إحداها واحدة من أفضل مئة جامعة في العالم.
وبذلك تحتل إسرائيل المرتبة الثانية عشرة دولياً في هذا المجال، من بين خمس وثلاثين دولة. وبالمقابل، ومنذ نشوء جائزة نوبل وحتى اليوم، لم يفز بها عربي واحد في مجال العلوم النظرية والتطبيقية على السواء، ولم يكن أحمد زويل حين فاز بها عربياً، بقدر ما كان أميركياً يعيش في أميركا، ولو أنه بقي في عالمه العربي ما كان ليفوز بها في الغالب، لا لأنه عربي، كما قد يحلو للبعض أن ينظر للمسألة من زاوية التآمر والاستهداف، ولكن لأن قدراته لن تجد تلك القنوات القادرة على استيعابها.
أمثلة تعبر عن الكثير، بمثل ما يعبر رأس جبل الجليد العائم عما يخفيه الماء منه. فإسرائيل الأخرى تختلف عن إسرائيل التي نتعامل معها، أو تلك التي لا نريد أن نعرف غيرها، ولكننا لا نستطيع أن نفهم إسرائيل التي تتعامل معنا، إلا بمعرفة إسرائيل الأخرى. فإسرائيل بالنسبة لنا ليست إلا صنيعة الاستعمار والصهيونية، وتجسيد المؤامرة الدائمة ضد العرب والمسلمين، وغاصبة فلسطين، والوحش الذي يفتك بكل ما هو عربي ومسلم، ويدنس كل ما هو مقدس لدينا.
ليكن كل ذلك على افتراض صحته كله أو بعضه، ولكن مجرد العلم بذلك لا يسمن ولا يغني من جوع، طالما أن هذه الإسرائيل قادرة على الوقوف في وجه العرب والتغلب عليهم طوال هذه العقود من السنين، والسؤال هنا هو لماذا؟
سيقول قائل أن الدعم الأميركي لها هو السبب، ولكن ذلك لا يكفي، فكي يكون المدعوم قوياً طوال هذه الفترة، لا بد أن يكون قابلاً للدعم، وإلا فإن الدعم لن يفيد، بمثل ما أن الدواء قد ينفع مع عليل قوي الجسد، ولكنه لا ينفع مع عليل ضعيف الجسد. وسيأتي آخر ويلوي أعناق النصوص، مقدسة وغير مقدسة.
فيعلن أن ذلك هو العلو الثاني لبني إسرائيل، ولن يلبث الدمار أن يحل بهم حين يجتمع كل اليهود على صعيد واحد، فيأخذهم الله في النهاية أخذ عزيز مقتدر. قوة إسرائيل الحالية هي نتيجة دعم إلهي له حكمته في النهاية، وما علينا إلا الانتظار حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وإذا كان الدمار هو النهاية، فليس للفعل أي معنى، وما علينا إلا تحمل مرارة الانتظار.
تأويل ليس من الضروري أن يعبر عن الحقيقة المقدسة في جوهرها، وهي حقيقة لا يعلمها إلا خالق الخلق، ولكنه تأويل مرض لنفس لا تريد أن تعترف بأن العيب فيها ومنها، وليس أدل على ذلك من مجرد تلك الأمور التي لا نريد أن نقرأها، وإن قرأناها، أولناها وفق مفاهيم لا علاقة لها بمنطق الأمور الفعلي. فإسرائيل «الأخرى» التي لا نريد أن نراها، أو لا نريد أن نعرفها، هي إسرائيل التي تعج بالجامعات والمعاهد ومراكز البحوث، التي وضعت إسرائيل في المرتبة الثانية عشرة دولياً من حيث أفضل جامعات العالم.
وهي إسرائيل التي تنافس اليوم في مجال صناعة شرائح الكمبيوتر وتقنية المعلومات الحديثة. وهي إسرائيل المتقدمة في تقنية السلاح، من الطائرة وحتى الرشاش، فهل صنع العرب يوماً مجرد رشاش «عوزي» منافساً لرشاش «كلاشينكوف»، وهم المعسكرون من قمة الرأس حتى أخمص القدم ؟ وهي إسرائيل التي تتمتع بمجتمع مدني حر النشاط، تخرج فيه المظاهرات ضد الحكومة ومع الحكومة على السواء، وتتنافس فيه الجمعيات والأحزاب دون حسيب أو رقيب.
هذا المجتمع المدني وآلياته، هو الذي أدان مثلاً مجزرة «صبرا وشتيلا»، وليس نحن، وجعلها قضية عامة دفعت حكومة إسرائيل إلى التحقيق في المسألة بالرغم منها. وهو المجتمع الذي خرجت منه المظاهرات منددة بغزو لبنان عام 1982. وهي إسرائيل القانون الذي يطال الجميع. القانون الذي حاكمت بموجبه إسحق رابين على عشرة آلاف دولار ناقصة عندما كان سفيراً في واشنطن، وحاكمت نتانياهو على هدايا أخذها معه حين غادر مكتب رئاسة الوزارة، وتلاحق ابن شارون لقضايا متعلقة بالفساد المالي.
إسرائيل التي لا نريد أن نعرفها هي تلك التي يقوم فيها برلمان لا يستطيع شارون نفسه، بكل صلفه وغروره وكبريائه، أن يتجاوزه. وعندما قمعنا كل شيء باسم «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، كانوا هم يعملون باسم «كل صوت من أجل المعركة»، فاختنقت أصواتنا ولم نربح المعركة، وعلت أصواتهم وربحوا المعركة.
مما لا شك فيه أن إسرائيل قامت على أسس دينية وإيديولوجيا عنصرية، ولكن هذه الأسس وتلك الإيديولوجيا كانت قاعدة للتأسيس، ومحاولة لصنع أمة جديدة من أشتات مجتمعات في كل أنحاء العالم، وهم يعلمون أولادهم في المدارس تلك الديانة وتلك الإيديولوجيا، ولكنهم يعلمونهم في الوقت ذاته كيف يتعاملون مع العالم المحيط، وكيف يحققون الأحلام بالعلم والعمل، لا بمجرد أن يكون الحلم مجرد انتظار مخلص بظهر الغيب لا يُدرى من أين يأتي وكيف يأتي، أو معركة تكون خاتمة المعارك ونهاية التاريخ.
نعم هم يعلمون أولادهم كل ذلك، ولكن ذلك لا يؤثر كثيراً على كيفية إدارة الدولة والمجتمع، فهذه الإيديولوجيا ذات وظيفة محددة: خلق هوية عامة، ولكن ليس لتنظيم الداخل. موجهة لترسيخ الشعور بيهودية عامة وشاملة، أما تحقيق الهوية ذاتها، فهو بغير ذلك كله، وفرق كبير بين جوهر الهوية وكيفية تحقيق الهوية، وهي المعادلة التي فشلنا فيها فشلاً ذريعاً.
فالمرأة في اليهودية مثلاً، محتقرة إلى درجة النبذ، وهي شريرة بطبعها، كما يستفاد من قصة الخلق الواردة في سفر التكوين من التوراة، ولكن ذلك لم يجعل من إسرائيل «طالبانية» يهودية تجعل من رجال الدين فئة مختارة مفروضة على رقاب الجميع، بل هم مواطنون ضمن مواطنين، والمرأة تمارس دورها في الجيش وكافة مؤسسات الدولة والمجتمع كأي فرد آخر، بل كأي مواطن آخر.
ومما لا شك فيه أن إسرائيل دولة توسعية، بوحي من إيديولوجيا التكوين، وهذا شيء مفهوم، ولكن السؤال المطروح هو: كيف استطاعت أن تصبح قوة في كل المجالات، بحجمها الصغير وسكانها القليل، تحقق أحلام إيديولوجيتها المؤسسة، فيما جيرانها من العرب، بكل تراثهم وتاريخهم وثرواتهم وأعدادهم ومساحاتهم الشاسعة، غير قادرين على فعل شيء؟ مجرد أن نعرف أن سبعاً من جامعات إسرائيل صنفت على أنها من الأفضل في العالم، ومجرد أن نعرف أن إسرائيليين حصلوا على نوبل في العلوم، يكفي لوضع النقاط على حروف متفرقة، لنصنع منها جملة مفيدة في النهاية.
هل هذا مدح لإسرائيل أم ماذا؟ ليس بالضرورة، فمسألتنا اليوم لم تعد مسألة مدح أو ذم، بقدر ما هي مسألة وعي ومعرفة، وإلا فقد صرخنا طويلاً، وذممنا كثيراً، ولكن لو كان مجرد الصوت ينفع، لكان لنا من نوبل نصيب، أو لكان في جامعاتنا كل الخير. واقع الحال يقول أن إسرائيل اليوم هي سيدة المنطقة بلا منازع، شئنا أم أبينا، سواء كان ذلك عسكرياً، رغم أعدادنا، أو علمياً وتقنياً، رغم إمكانياتنا، أو اقتصادياً، رغم ثرواتنا، والسؤال هو لماذا؟ واقع مؤلم، وإجابة أكثر إيلاماً إذا ما نظرنا وقارنا بعيداً عن تلك المشاعر التي تعمي البصر، وتخدر الذات، وتضل البصيرة.
هم يكرهوننا ونحن نكرههم، هذه حقيقة موضوعية لا شك فيها، ولكننا نكرههم بالشعارات والعنتريات ومجرد المشاعر، ونقاتلهم بقصائد ابن كلثوم وعنترة وابن العبد، وهم يكرهوننا بالعمل والعلم واحترام الذات، ويقاتلوننا بمعادلات آينشتاين وأوبنهايمر وتقنية بيل غيتس، لذلك انتصروا ونحن ما زلنا من المهزومين. عطلنا الحريات في ديارنا، وسحقنا الإنسان في بلادنا باسم كرههم ومحقهم، ومجدوا الحريات وكرموا إنسانهم باسم كرهنا ومحقنا، ففازوا هم وكنا من الخاسرين. أو بعد كل هذا نسأل لماذا انتصرت إسرائيل؟ العجب كل العجب لو أن إسرائيل لم تنتصر في ظل مثل هذه الظروف والمعطيات، فيكون المجد للعبث ساعتها.