سمير قصير: لو قالوا لا...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
... وسقط القناع. سقط قناع النظام الامني. انتهت المسرحية المؤلمة التي تدور رحاها منذ اعوام مديدة. قد تتأخر تقنياً لبضعة ايام عملية "الوضع في التصرف" التي ستنهي عهد جميل السيد في اعلى هرم الحكم البوليسي. وقد يحاول غيره من رموز الطوفان المخابراتي شراء المزيد من الوقت. وقد يسعى النظام الامني مرة جديدة الى الانتقام. لكن شيئاً لن يقدر على اعادة عقارب الساعة الى الوراء.
لقد ذهب النظام الامني. فليكن ذهاباً من دون رجعة.
الا ان فتح الصفحة الجديدة في الحياة السياسية اللبنانية لن يكون ممكناً، ما لم تطوَ جدياً الصفحة السابقة، بما يعني ذلك من استخلاص للعبر، واهمها ان تفكيك النظام الامني كان اسهل مما توقّع معظم العاملين في الشأن العام. ربما لأن هؤلاء ساهموا، من حيث يدرون او لا يدرون، في تضخيم هالة رجل الأمن، فزادوا من ادعائه وضاعفوا من قدرته على التخريب.
لم يسقط القناع لأن جميل السيد "وضع نفسه في تصرف رئيس الحكومة". بل سقط لأنه وُجد أخيراً وزير للداخلية ليقول كفى استهزاء بالمؤسسات وتراتبيتها. سقط لأن السياسة لم تسكت. لأن نواباً من حلفاء وزير الداخلية الجديد تصدّوا للتعدي المتمادي لرجل الأمن، ولأن رجال الاعلام تحرّروا بدورهم من تلعثم اللسان عند مجرد التلفظ باسمه.
هل كان يجب ان يموت رفيق الحريري حتى نرى هذه اللحظة؟
لا احد يشك في ان وصاية الحكم السوري، بعسكره ومخابراته، هي التي كانت تعطي النظام الامني سطوته على التركيبة السياسية القائمة هي ايضاً بتدبير من المخابرات السورية. لذا، لم يكن ممكناً التوقع من وزراء الداخلية السالفين التصدي لموظفي المخابرات، اللبنانيين منهم والسوريين. لكنه كان يمكن، بل كان يجب ان نسمع سياسيين واعلاميين اقل انبهاراً عندما كان رجل الامن يتحفهم بما عدّوه "ذكاء"، واقل خوفاً عندما كان يرجمهم بالشتائم والتهديدات. او لنقل، بشديد البساطة، اكثر حرصاً على كرامتهم وكرامة السياسة في هذه البلاد.
لا يمكن قطعاً استخدام حرف "لو" عند كتابة التاريخ. لكن الـ"لو" تصلح لتقويم المسؤوليات التاريخية. ليس مجانياً اذاً التساؤل حول ما كانت آلت اليه سطوة رجل الامن لو قالوا "لا . لو فعل عدد من النواب ما لمع به باسم السبع من على منبر البرلمان، او لو تسلح الصحافيون بتجارب من لم يرتعد منهم خوفاً من رجل الامن بدل اعتبار فضح فظائعه اليومية "قضية شخصية".
ليس المجال هنا لتوزيع الشهادات في مقاومة الاستبداد، وتقويم المسؤوليات لا يرمي الى تصفية الحسابات، بل فقط الى ان يكون تفكيك النظام كاملاً غير منقوص. فمع اهمية اقصاء قادة الاجهزة الامنية بذاتهم، يفيد التذكير بنمط التواطؤ الذي ساد لأعوام. يفيد في فهم الحجم الذي بلغه هذا النظام الامني، بما كان (ولا يزال) نظاماً ممتداً الى حقلي السياسة والاعلام، فضلاً عن الحقل النقابي.
بالتأكيد، يبقى لبنان بلداً توافقياً، وقد يكون مسيئاً التفكير بحملة تطهير واسعة تطول كل من تعامل مع النظام الامني او تواطأ معه. كما ان الدعوة الى قطع الارزاق لا تفيد الا في تعقيد خروج لبنان من عهد الهيمنة. الا انه لا يمكن القبول بان يتحول رجل الامن وحده كبش محرقة، فلا يتلازم مع اقصائه "اعادة تموضع"، في اقل تقدير، لأولئك السياسيين والاعلاميين الذين ارتضوا ان يكونوا في خدمته مطيعين متبرمجين، يأتمرون بأمره اليومي، وينقلون تهديداته، ويروّجون لعبقريته. فالديموقراطية لا تعني في حال من الاحوال تبييض المرتكبين، ولا مزوّري الرأي العام.
بل ان شرط الديموقراطية، حتى تسود، هو سقوط الاقنعة كلها، وليس فقط القناع الابشع.