ميشال كيلو: سوريا في أسوأ أحوالها منذ استقلت !
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم يسبق لسوريا أن بلغت وضعا على قدر من السوء كالوضع الذي بلغته خلال السنوات الخمس الأخيرة عامة، والسنة المنصرمة من سنوات "التطوير والتحديث". ولم يسبق لها أن كانت على هذه الدرجة من العزلة الخارجية والضعف الداخلي، كما لم يسبق لنخبها الحاكمة أن أبدت هذا القدر من الاستهتار والاستخفاف بمصالحها العليا وبإرادة شعبها، وأظهرت هذا القدر من العجز عن فهم ما يجري فيها ومن حولها، وعن التفاعل الخلاق معه.
في الداخل
كان جليا منذ ما قبل رحيل حافظ الأسد أن أزمة شاملة تعصف بالبلاد، وأن صاحب النظام يحاول إخراجها منها، وبما أنه لا يجد سبلا كفيلة بذلك، فإنه يركز جهوده على إدارتها. كما كان جليا أن أي عهد جديد سيكون مخيرا بين بديلين:
- اعتماد أسس جديدة، غير بعثية، لإصلاح النظام تخرجه من مآزقه، تقر بحقيقة قاهرة هي أنه تقادم حتى صار من المحال إصلاح بناه وهياكله القائمة انطلاقا من أيديولوجيته وحزبه، ومن غير الممكن تاليا تجديده في شرط تاريخي جديد، بدأ العالم يجتازه منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، ووصلت تفاعلاته وإلزاماته إلى سوريا، أو،
- الاستمرار في إدارة أزمته، ولكن من خلال طرق جديدة تقوم على إجراء تجارب إصلاحية، ستكون حكما من طبيعة جزئية ومحدودة، وإلا انهار النظام. وقد كان واضحا أن فشل هذه التجارب سيؤدي إلى العجز حتى عن إدارة الأزمة، وقد يفضي سير البلاد الى انهيار مؤكد.
أخيرا، كان من الواضح أن النظام يمر في مرحلة انتقال، سمتها الاساسية أنه سيكون هو الجهة، التي ستدفع ثمنها، لأنه الجهة التي أنتجت الأزمة وعجزت أو أحجمت - عن معالجتها، ولأن أزمته لم تعد جزئية، بل غدت أزمة النظام لن يستطيع من الآن فصاعدا تصديرها إلى خارجه، أو حلها على حساب المجتمع، مثلما كان يفعل كل مرة بعد 1970. عجز النظام عن فعل أي شيء تجاه توطن الأزمة فيه، وفهم أكثر فأكثر أنه يفتقر إلى القدرة على الانتقال نحو أبنية جديدة، فقرر محاصرة الطور الانتقالي وكبحه، مع أن محاصرته ليست أمرا سهلا، ما دام الانتقال المحلي جزءا من انتقال كوني يفتقر النظام إلى القدرة على الإفلات منه أو إبطاله، ومع أن انتقاله الإجباري سيتم بأفكار خارجية، أي ليست من صنعه، وسيتحقق بوسائل مستعارة من الخارج، الذي سيشرف عليه وسيجعله انتقالا نحو نظام مغاير للنظام الحالي.
في هذه الظروف، فكر النظام بمخرجين: الامتناع عن القيام بأي شيء، مع أن الأزمة والأصح لأن الأزمة - أزمته، والتمسك بأوضاعه الراهنة مع البحث عن ضمانة خارجية، أميركية على وجه الخصوص، تكفل استمراره وتتكفل بتحويل الإصلاح إلى عملية تكيف هيكلي مع السياسة الأميركية في المنطقة. في هذه الأثناء، كانت حسابات السلطة تقول: ليس في الداخل قوى ضغط كافية تستطيع إجبارنا على الشروع في إصلاح، على معالجة أزمة النظام، ولا يطلب الخارج إصلاحا كهذا، فلنمرر الوقت بالوعود ريثما نحصل على الضمانة المطلوبة.
واليوم، يُعدّ إخراج النظام من لبنان نهاية آماله في الحصول على هذه الضمانة، وهو يطرح عليه من جديد جميع الأسئلة والقضايا، التي حاول الهرب منها خلال السنوات الخمس الماضية، بينما يتعرض لقدر من الضغوط يستحيل أن ينجح في مواجهته من خلال سياساته وأبنيته الراهنة: مصدر أزمته وعجزه وضعفه وعزلته عن شعبه، احتياطي القوة الوحيد الباقي لديه، الذي يتفرج غير مكترث على ما يجري له، ويسر في أحيان كثيرة، لأنه يرتكب هذا القدر المخيف من الأخطاء.
في الخارج
لو اجتمعت قوى الأنس والجن، لما ورط حافظ الأسد نفسه في معركة مع القوى الدولية، التي صنعت النظام الإقليمي، بما فيه نظامه. لكن السلطة الحالية فعلت ذلك بحماسة، كأن التورط في معركة مصيرية مضمونة الخسارة كان على رأس أولوياتها، بعد أن نجحت في عزل نفسها عن الدول العربية والأجنبية، وافتعلت مشكلات معها كان حدوثها يبدو محالا قبل أشهر قليلة.
أخيرا، ومع انهيار قدرتها على إدراك الواقع المحلي والدولي وفهمه، وتفاقم غربتها عن السياسات المعاصرة والحديثة، بدأت السلطة ترتكب أخطاء عجزت عن تبريرها إلى اللحظة، كالاستهانة بالوحش الأميركي في الحقبة الأولى من احتلال العراق، والتمديد للجنرال إميل لحود، والغوص في صراع غير مفهوم أو مسوغ ضد المجتمع الدولي، والأخذ بسياسة كشفت الغطاء العربي عن الوجود السوري في لبنان، وقد تكشفه عن النظام نفسه في دمشق، والامتناع عن القيام بأية مبادرة تجاه اللبنانيين، بعد التمديد والقرار 1559 ومغادرة لبنان، وتقديم عروض تفاوضية إلى إسرائيل في ظرف بلغت سوريا فيه قاع الضعف، والسلام على رئيس دولة العدو، بينما تستمر الهجمة الأميركية، وتتحدث واشنطن عن ضعف النظام وقرب سقوطه.
أزمة لا مخرج منها في الداخل، وورطة مع قوى يستحيل كسب المعركة ضدها في الخارج، بينما يسود العجز عن الحركة في الداخل والضعف في الخارج، ويذهب البلد إلى المجهول وقد فقد الثقة بوعود القائمين على أموره، وأدرك أن هناك ظرفا ما لا تعرفه يجعلهم عاجزين عن إخراجها من مآزقها، وأخذت تعتبرهم جزءا من المشكلة بعدما رأت فيهم جزءا من الحل، وشرعت تخشى أن يكون وضع مصير الدولة والمجتمع في أيديهم أمرا خطيرا، ليس فقط لأنهم يستمرون في تجاهل الواقع ويعجزون عن التفاعل معه، بل كذلك لأنهم جعلوا من سوريا سفينة تائهة تتلاعب بها أمواج متلاطمة.
لم يسبق لسوريا أن كانت منذ استقلالها في حال أسوأ من حالها الراهنة. ولم يسبق لنخبة من نخبها الحاكمة أن أبدت قدرا من الشعور بالمسؤولية تجاه مصيرها أقل من شعور نخبها الحاكمة اليوم. ولم يتسم وضع سوريا في أي ظرف سابق بقدر من الضعف والعجز يماثل عجزها وضعفها الراهنين، فهل تستفيق نخبها الحاكمة والمالكة والمثقفة، في الثواني الأخيرة التي ما زالت متاحة لها، لتبدأ ما لا مفر منه: إخراجها من نظام أمني يتحمل المسؤولية عن معظم ما حل بها من مآسٍ وويلات، حتى في لبنان، ونقلها إلى دولة حديثة: ليست شخصية أو حزبية أو أيديولوجية أو فئوية؟
بالأمس: دمر النظام الأمني مجتمعه، وهو ينتحر اليوم وينحر كل شيء يفرض مندوبيه على انتخابات الحزب للمؤتمر القطري، الذي يرجح أن يكون مؤتمر مخابرات أكثر منه مؤتمر حزب. فهل يصدق أحد أن سوريا، التي أوصلها إلى الحضيض، ستتمكن من أن تواجه بمعونته ما يحيق بها من أخطار جسيمة وتحديات خطيرة؟ وهل يحق لمواطن بعد الآن أن يتفرج على وطنه، الذي يغرق؟
(دمشق)