جوزف سماحة: نهاية الدولة شبه المركزية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بيان المطارنة الموارنة الصادر أمس بعد lt;lt;اجتماع طارئgt;gt; يشكّل امتحاناً عسيراً لغير جهة. لنقل إن توقيته استثنائي لأنه يستبق الاجتماعات الموسعة للمعارضة (اسم علم لا مضمون له) وكذلك إقفال الترشيحات في بيروت وبدء إعلان اللوائح.
لقد كشف النظام الأمني (بقاياه) عن نفسه: المطارنة الموارنة!
يخاطب البيان العنيف ثلاث جهات. الأولى هي المتلاعبون ضمن لقاء lt;lt;قرنة شهوانgt;gt;. قال هؤلاء كلاماً في العلن وعكسه في السر. أسماؤهم معروفة ومتداولة. وهناك من شرع يفكّر في تشكيل lt;lt;لائحة شرفgt;gt; جديدة مرفقة بالبراهين. الثانية هي الحلفاء المسلمون. الثالثة هي القوى السياسية الأخرى التي لم تخض مع المطارنة المواجهات الأخيرة ولا ديْن عليها حيالهم.
يحدّد البيان، ضمناً، طبيعة المرحلة السياسية: تصحيح التمثيل السياسي المسيحي عبر الانتخابات النيابية. وهو يتهم، ضمناً أيضاً، الجهات المشار إليها بأنها تتحمّل مسؤولية قطع الطريق على هذا التصحيح. ويعني ما تقدم أن البيان يساجل، دون أن يصرّح، مع تحديد آخر لطبيعة المرحلة: استكمال تصفية الدولة الأمنية وإنهاء التدخل السوري. التحديد الثاني يتصرّف وكأن الوضع ما زال مشدوداً تماماً إلى الماضي في حين أن التحديد الأول يركّز الأنظار على توازنات ما بعد الانتخابات، على التوازنات بين الطوائف. التحديد الثاني يقول أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الجهاز الأمني المشترك، وبالتالي لا قيمة للمطالبة بتمثيل عادل ضمن lt;lt;المعارضةgt;gt; ما دمنا كلنا lt;lt;معارضةgt;gt;. التحديد الأول يقول إن هذه مناورة بقصد تأمين أرجحية إسلامية عامة.
البيان بيان أقلاوي بامتياز. يعبّر عن شعور لدى المطارنة بأنهم لم يعودوا أقلية وسط المحيط العربي الإسلامي، ولا أقلية وسط لبنان، إنما أقلية وسط المعارضة اللبنانية! وهو يوحي أن هذه المعارضة راغبة في إنهاء التنوّع على طريقة أنظمة عربية تحرّم الحديث عن الطائفية من أجل حماية نفسها.
يدفع البيان المنطق الفدرالي الضمني في الدولة اللبنانية إلى أقصاه. ويتضح ذلك في الإشارة إلى عدد النواب المسيحيين الذين يختارهم مسلمون. يرفع العدد إلى خمسين بما يعني أن المسيحيين lt;lt;أحرارgt;gt; فقط في المتن الشمالي وكسروان وجبيل حيث هم أكثرية ساحقة. ماذا عن زحلة مثلاً؟ وماذا عن الدوائر الانتخابية المختلطة حيث يشكّل المسيحيون ما بين 35 و45 في المئة من الناخبين؟ أي أن البيان يطرح، في جانب منه، مشكلة لا حلّ لها ناجمة عن طبيعة الانتشار المسيحي في لبنان وعن التوازن الديموغرافي الراهن والقادم. ويكاد المطارنة يؤكدون أن النظام الانتخابي الأفضل للبنان هو ذلك الذي يختار فيه المسيحيون نواباً مسيحيين والمسلمون مسلمين. إن قانون الستين لا يحل هذه lt;lt;المعضلةgt;gt;.
بكلام آخر لا يقترح البيان مخرجاً إلى الأمام من قانون الألفين وإنما يعبّر عن رغبة في التقدم نحو دفع شبه الفدرالية الطوائفية إلى نهاية منطقها. إنه يخالف، بذلك، روح lt;lt;اتفاق الطائفgt;gt; الزاعم أن المناصفة النيابية محطة نحو تحرير الانتخابات من القيد الطائفي ضمن سلّة إجراءات معروفة.
إلا أن البيان، على الجانب الارتدادي المتضمن فيه، يلامس جرحاً حقيقياً. فالمسلمون اللبنانيون (الواجب استخدام المزدوجين)، ومنذ أن انتقل إليهم مركز الثقل في تقرير المصير الوطني اللبناني، لم يُظهروا حساسية إيجابية واضحة حيال المسألة الديموقراطية. ولم يكن للتدخل السوري أن يعززها لديهم طبعاً غير أن نصيبهم في هذه العلة كبير. والدليل على ذلك أن ضعف هذه الحساسية يتجلى الآن بعد الخروج السوري في ظل
محاولة بائسة بعض الشيء للإيحاء بأن المشكلة هي في بقايا نظام سابق وليست في وعي نخب معينة ورغبتها الاستئثارية. فهذه النخب تمارس حرفياً سياسة lt;lt;الطائفية المقلوبةgt;gt; وتقدمها بصفتها سياسة lt;lt;التوازنgt;gt;. ويكفيها أن تراجع سريعاً أدبيات ما قبل 1975 لتدرك أن سجال المشاركة يكرّر نفسه حرفياً مع تبادل في الأدوار والمواقع.
إن الديموقراطي اللبناني الجدي هو من يعترض على النظام الطائفي ويطالب بالانتخاب على أساس النسبية. ولكن يكفيه أن يتخلى عن بعض جديته حتى يجد نفسه متعاطفاً مع بيان المطارنة لأنه بيان يطالب بعدل أكثر ضمن الشروط الراهنة.
يبدو البيان صرخة طائفية. وهو كذلك. إلا أنه صرخة طائفية ضد ممارسات طائفية. يشترك في هذه الممارسات lt;lt;موالونgt;gt; سابقون (lt;lt;أملgt;gt; وlt;lt;حزب اللهgt;gt; مثلاً) كما lt;lt;معارضونgt;gt; سابقون تجعل lt;lt;الصدفةgt;gt; وحدها أنهم من صف طائفي واحد. والأنكى من ذلك أن lt;lt;المعارضينgt;gt; السابقين يتحمّلون مسؤولية أكبر في هذا الوضع ويدّعون الإمساك بالحجج التبريرية له. وهم، إذ يفعلون ذلك، فإنهم يحرّرون مساحة سياسية واسعة لكي يتحرك فيها مسيحيو lt;lt;الموالاةgt;gt; السابقة قائلين إن مسلمي lt;lt;الموالاةgt;gt; السابقة كانوا أكثر رأفة بمسيحييهم من مسلمي lt;lt;المعارضةgt;gt; مع مسيحييها. وذلك كله برغم المغفور لها lt;lt;حركة 14 آذارgt;gt;.
إلا أن البيان نفسه ليس ببراءة الاكتفاء بطلب المساواة. إنها وسيلة بقدر ما هي غاية. وهي وسيلة القصد منها امتلاك وزن أكبر للتأثير على الوجهة التي سيسلكها لبنان في المرحلة المقبلة: رئاسة الجمهورية، التوازن ضمن السلطة التنفيذية، تركيبة الإدارة، والأهم من ذلك كله ربما، موقع لبنان الإقليمي. ولا يفيد، هنا، التكرار الببغاوي للكلام عن lt;lt;اتفاق الطائفgt;gt;. فهذا lt;lt;الاتفاقgt;gt;، كما غيره المئات، وضع من أجل ألا ينفذ. أو، بالأحرى، وضع من أجل أن ينفذ حسب موازين القوى المتحكّمة بمسرح التنفيذ.
إذا كان اللبناني الديموقراطي يمكنه إيجاد مساحة تعاطف مع احتجاج المطارنة، فإن اللبناني العربي يدرك تماماً أنه سيجد نقاط اعتراض جذري كثيرة على الوجهة التي يميل المطارنة إلى الدفع نحوها إذا تحققت مطالبهم. إن ما تمليه ديموقراطية اليوم قد تملي وطنية الغد عكسه. ولكن ما العمل؟ إن المعرفة الوثيقة بما يريده المطارنة، وبالقوى التي يطلبون تمثيلها قدر ما تستحق، وبسياسات هذه القوى، وبرفضها أي مراجعة لتجربتها، كما المعرفة الوثيقة بالمواقف المحتملة من قضايا حساسة وذلك بالتساوق مع سياسات أجنبية معادية، إن المعرفة بذلك كله، والاختلاف الحاد معه، لا يجب أن يغيّر شيئاً في الإقرار بأن ما يجري هذه الأيام يلحق ظلماً فادحاً بقوى طائفية وسياسية.
يعيش لبنان، منذ شهور، حراكاً سياسياً استثنائياً. إن استعادة لما جرى لا تبشّر بالخير لجهة مراقبة سلوك الأطراف كلها ومن دون استثناء. ويتجه لبنان نحو ارتسام توازنات لا يمكن لها أن تستولد مركز استقطاب، أو ائتلاف استقطابي، يمكنه إدارة شؤون البلاد وقيادتها نحو مواجهة أزماتها الموروثة والمستجدة. لقد حصلت تحولات هائلة: اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الانسحاب السوري، استقالة قادة الأجهزة، الدينامية المسيحية، انكسار الدينامية المسيحية، عودة ميشال عون، تعليق مصير سمير جعجع، صفقة دولية إقليمية تأتي بحكومة، ويمكن الاستطراد... وسيواجه لبنان أسئلة مصيرية جداً. إن الجسم اللبناني، المشوّه أصلاً، جسم يتعدّل جينياً بسرعة مذهلة ويصعب، بل يستحيل، معرفة المسخ الذي سيولد.
إذا كان من نخب جدية يستحسن أن تفكّر بالسؤال التالي: هل نشهد نهاية الدولة شبه المركزية؟