جريدة الجرائد

جوزف سماحة: ديكتاتورية النسيان

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تتدافع الأحداث في لبنان. صحيح. يتعرّض المشهد الوطني والسياسي لتغييرات سريعة. صحيح. الشعار الصائب اليوم قد يصبح خاطئاً غداً. صحيح. تطرد صورة الأخرى. صحيح. تغيب وجوه ولا تطل وجوه جديدة. صحيح. التقاط الخط الواصل بين الوقائع من أجل إعطائها معنى ما صعب. صحيح. ولكن، مع ذلك، ليس هناك ما يبرّر هذا الفقدان المريع للذاكرة.
يمكن القول إنه، في أيار، أهان الجميع (تقريباً) ذاكرة آذار. لقد كانت أسابيع قليلة كافية من أجل أن تفعل الممحاة فعلها. وإذا كانت الذاكرة هي، بمعنى ما، lt;lt;تنظيماً للنسيانgt;gt;، فإن النسيان الذي نعانيه في لبنان يشكو من انعدام التنظيم. إلا إذا كانت شموليته هي الشكل التنظيمي الوحيد له. ثمة شعوب تشكو من ديكتاتورية الذاكرة. علينا الشكوى من ديكتاتورية النسيان.
في آذار وبفارق ستة أيام، شهد لبنان الحشدين الأكبر في تاريخه. كان واضحاً، منذ ذلك الوقت، أن الثاني كان يرمي إلى إلغاء الأول. أي أن الإرهاصات كانت موجودة وواضحة. قيل في الحشدين إن lt;lt;المنصة غير الجمهورgt;gt;. يعني ذلك أن التماهي لم يكن كاملاً بين المتحدثين والمستمعين. كان الحضور في كل من التظاهرتين يفوق الجمع العددي للمتظاهرين. كانت صورتان عن لبنان تتواجهان برغم وجود صلات وصل بينهما. لم يكن ممكناً، في 15 آذار، إلا سيادة الوهم القائل بأن السياسة، بالمعنى النبيل، خرجت من الغرف المغلقة إلى الهواء الطلق، وان المواطنين وضعوا أيديهم عليها، أي على مصيرهم ومستقبلهم. كل مَن راوده بعض الشك رُمي بالهرطقة.

إن ساحة النجمة، حيث البرلمان، هي على مسافة متساوية تقريباً من مكاني الحشدين. وكان يمكن الزعم أن التظاهرتين المختلطتين طائفياً، ولو بتفاوت ولصالح الثانية، ستشكلان المجلس النيابي المقبل: أكثرية لساحة الشهداء وأقلية كبيرة لرياض الصلح.
كان هذا في آذار. أما في أيار فلو خطر للبعض الدعوة إلى تظاهرتين لكانتا توجهتا إلى المكان نفسه، إنما ليس إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح بل إلى جامع محمد الأمين وكاتدرائية مار جرجس! بدا أن ائتلافاً حصل بين مسلمي الساحتين ومسيحيي الساحتين، كل من جهة، وأن التوتر الطائفي بين lt;lt;المعسكرينgt;gt; وصل إلى الذروة، وأن تبدلات مذهلة تحصل في المواقع. نشأت تحالفات عجيبة. ظهرت كائنات هجينة (أين منها كائنات ربيع جابر في روايته ما قبل الأخيرة عن المدينة التي تحت الأرض، والتي، بالمناسبة، تغطي مساحة التحركات الأخيرة!). لقد بات صعباً تعداد الاستدارات والخيانات. أهملت قوى. سقطت شخصيات سهواً. تبددت أفكار وأطروحات. محا أيار آذار. ولم يعد أحد يتذكر محاور الانقسامات الراهنة، علماً بأن الكل يعرف أن اصطفافات المرحلة القادمة ستطيح تحالفات كانت هي نفسها تباينات قبل أسابيع قليلة فقط.
الذاكرة القريبة ضعيفة إذاً. ومثلها الذاكرة المتوسطة وذات العلاقة بالمرحلة الممتدة من lt;lt;اتفاق الطائفgt;gt; حتى صيف 2004. من هم أطراف السلطة؟ من هم أطراف المعارضة؟ هل كانت السلطة موحدة أصلاً؟ والمعارضة؟ من حالف الوجود النظامي السوري في لبنان ومن خالفه ومتى انقلبت المواقف؟ من شارك في المغانم، ومن استبعد أو أبعد نفسه؟ من ظَلم ومن ظُلم؟ من أفسد ومن هم الفاسدون؟ ويمكن الاستطراد في أسئلة لا تنتهي حول الممثلين إياهم الذين يغيّرون أثوابهم لإقناع الحضور بأن الدور نفسه هو غيره.
ثمة مشاهد وتصريحات وتحالفات سوريالية. لقد أمكن، مثلاً، اتهام ميشال عون بأنه حصان طروادة لدمشق. وأمكن اختزال عصام فارس وسليمان فرنجية إلى مجرد lt;lt;عميلينgt;gt; لسوريا.
وانتقلت قوى وشخصيات إلى تحت عباءة بكركي بعد أن كانت تفاخر بالاستقلال السياسي عنها. وبكركي نفسها قالت الكلام وعكسه في خلال ساعات... إلخ.

يجب على اللبنانيين أن يطووا صفحة الحرب. ولكن الأمر المريب هو أنهم يفعلون ذلك مراراً وتكراراً بما يشي بأنها لا تزال مفتوحة. لقد طويت في lt;lt;الطائفgt;gt;. وطويت في مصالحة الجبل. وطويت في زيارات متبادلة. وها نحن نستمر في طيها تبريراً لتحالفات انتخابية. غير أن هذه الخطوات كلها كانت تشكو من نقص، ولا تزال: لم تحصل المراجعات المطلوبة.
يذكر، في هذا السياق، أن القاضي البريطاني الذي قرّر محاكمة أوغيستو بينوشيه صرّح أنه لا يفعل ذلك لمعاقبة جرائم ارتكبت قبل حوالى ثلاثين عاماً، وإنما يفعل ذلك لأن الديكتاتور التشيلي ليس نادماً، حالياً، على ما اقترف قبل عقود. لذا فإنه من المشروع تماماً التساؤل عن سياسيين معينين. إن الشرط الوحيد كي تكون الضجة التي أثيرت حول جورج عدوان وصولانج الجميل في غير محلها، هو أن نسمع منهما كلاماً محدداً. فجورج عدوان، مثلاً، هو أول لبناني اتصل بإسرائيل عبر سفارتها في باريس طالباً منها المساعدة لأن العدو الفلسطيني واحد. وجورج عدوان هو الذي تولى استقبال طلائع lt;lt;القوات اللبنانيةgt;gt; في الجبل بعد اجتماع شهير بين قائد lt;lt;القواتgt;gt; بشير الجميل وغيره وبين رئيس أركان الغزو الإسرائيلي للبنان رافائيل إيتان. ويمكن الدخول في تفاصيل كثيرة. إلا أنه ليس من الخطأ التوجه إلى عدوان لمطالبته بسماع رأيه في أحداث تلك المرحلة، والاطمئنان منه إلى نوعية سلوكه لو تكرّر الأمر الآن. وبالنسبة إلى الجميل يستحسن أن تصارح اللبنانيين بموقفها الحالي، بتقييمها الحالي، وعلى الأقل، للظروف التي أوصلت زوجها إلى الرئاسة. طي صفحة الحرب ليس فعلاً من طرف واحد. ولا يمكنها أن تقفز فوق الذاكرة. والواضح أن الجميل ترفض لأحد أن يعتدي على ذاكرتها بدليل أنها ترفض فكرة العفو العام، كما أن lt;lt;القواتgt;gt; تمتنع حتى عن زيارة آل كرامي...
ربما كان من حق عدوان والجميل مطالبة آخرين بفعل الشيء نفسه، ولكن أن يحصل تحالف lt;lt;سياسي وانتخابيgt;gt; (الوصف لصولانج الجميل) من دون lt;lt;فحص الضميرgt;gt; الضروري من الجميع، فليس في ذلك ما يستحق أن نطلق عليه وصف lt;lt;الوحدة الوطنيةgt;gt;.
لا تحل الذاكرة الانتقائية جداً هذه المشكلة. من واجب سمير جعجع وميشال عون أن يتبادلا الاعتذار وأن يدعوا إلى تناسي الماضي. لكن كلاً منهما مطالَب بالتوجه إلى الآخرين للمصارحة ولطلب المصارحة.

إن من لا ذاكرة له لا مستقبل له. ولكن المشكلة في لبنان أن الذاكرة القريبة جداً شبه معدومة. الزمن متقطع. وفي كل يوم بداية جديدة. يفعل السياسيون ما يطيب لهم ويغض المواطنون النظر. لذا فإن الميزة الوحيدة لفقدان الذاكرة هي توفير الحرية الكاملة لفعل أي شيء، ولذكر أي شيء، وللتحالف مع أي كان. وليس ممكناً، والحال هذه، ضمان أي محاسبة لاحقة على فعل الغد لأن فعل اليوم متحرر بالكامل من الأمس القريب.
لم نستوعب بعدُ ما حصل في لبنان. آثار الزلزال لم تعبّر عن نفسها تماماً ناهيك بآثار الهزات الارتدادية. ولكنّ ثمة إدراكا غامضا بأن أحداثاً كبيرة وقعت وأن الغبار لم ينجل بعد. ولعل أسوأ ما يمكن توقعه هو أن ندخل المرحلة القادمة بذاكرة بيضاء. إنها مقدمة نموذجية لأيام سوداء.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف