غازي كنعان المايسترو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رجال سورية في لبنان:
غازي كنعان المايسترو (6)
رجال سورية في لبنان
عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)
جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)
ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)
كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)
بلال خبيز من بيروت: حين استلم اللواء الركن غازي كنعان حقيبة الداخلية في الحكومة السورية، ذهب بعض المعلقين السوريين من المعارضات السورية في الخارج الى اعتبار تعيين اللواء الركن في هذا المنصب بمثابة رسالة تطمين للولايات المتحدة الأميركية. المعلومات التي تبثها المعارضات المنتشرة خارج سورية تحتاج إلى تدقيق كثير. لكن الثابت في الأمر ان اللواء الركن الذي تخرج من الكلية الحربية عام 1965، حقق انجازات تحسب له في سورية: فاجأ المعلقين الصحافيين بعد انفجار قنبلة كادت تودي بحياة ناشط فلسطيني في دمشق، في الشهر الأخير من العام الفائت بتصريح للصحافة السورية بعد ساعة واحدة من وقوع الانفجار. هذه السرعة في التصريح والتعليق لمسؤول رسمي فاجأت المراقبين في سورية خصوصاً ان رجال النظام كانوا على الدوام شديدي الحذر حيال التصريحات السريعة. كنعان، الذي ذاع صيته بوصفه المشرف شخصياً على الملف اللبناني في القيادة السورية، فاجأ المراقبين في سورية وخارجها بتصريحات لافتة، "على الشرطة احترام المواطنين"، "الصحافة السورية غير قابلة للقراءة". لكنه ايضاً قرن مفاجآت اقواله بفاجآت افعاله حين عمد إلى سجن ضابط برتبة لواء لاعتدائه على مواطن، حيث شاركه الحجز ضباط اصغر منه رتبة، وعمم عقوبة احد الضباط على كل اقسام الشرطة ليكون عبرة لغيره. وهذه العقوبات كانت الأولى في تاريخ سورية الحديث. فلم يحدث في سورية ان عوقب ضابط بهذه الرتبة لأي سبب من الأسباب.
المعارضون السوريون يضيفون ان كنعان انما يريد استثمار مستقبله السياسي خصوصاً ان العسكريين في سورية ينهون مستقبلهم السياسي ما ان يحالوا على التقاعد. والوزير كنعان يريد ان يثبت خطأ القاعدة. بعضهم يرى ان كنعان تعلم الكثير خلال تجربته في لبنان، وهو تالياً يرى ان بعض الحرية والانفتاح لا يضير احداً ولا يجعل شوكة النظام مكسورة وصورته مهزوزة.
هذا يدل من دون شك على ان ضابط الاستخبارات الشهير ليس رجلاً عادياً. كثيرة هي الألقاب التي اسبغها عليه خصومه في لبنان : "المندوب السامي"، "الحاكم بأمره"، ودعاه النائب اللبناني الذي ادين بجرم الاتجار في المخدرات في لبنان يحيى شمص اثناء محاكمته في العام 1994، "حجاج لبنان" نسبة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي.
شغل كنعان الذي ولد في العام 1942 مناصب عديدة بعد تخرجه من الكلية الحربية، فقد استلم فرع المخابرات في اللاذقية، وترأس شعبة الأمن والاستطلاع في المنطقة الوسطى، وعين في العام 2002 رئيساً لشعبة الأمن السياسي وهو جهاز من اقوى اجهزة المخابرات السورية، ثم عين وزيراً للداخلية في التعديل الوزاري الأخير وبحسب البي. بي. سي. فإن صداقة كنعان بالرئيس الراحل حافظ الأسد تعود إلى سنوات السبعينات، وكان اينما حل او ذهب يترك اثراً لافتاً. امضى في لبنان ما ينوف على العقدين ونصف العقد، وكان الضابط الذي اوكلت إليه القيادة السورية مسألة تحقيق الاستقرار الأمني في بيروت منذ العام 1987، بعد ان عاث امراء الحرب الصغار فيها فساداً. حين وصل كنعان إلى بيروت وجدها خراباً. كان امراء الحرب المحليين يداومون على اشتباكات يومية بين شارع وشارع وحي وآخر. وكانوا يفرضون على اللبنانيين خوات وضرائب لا حصر لها، ويتحكمون بكل شاردة وواردة في ما يخص امور العيش والاجتماع. كانت سطوة الميليشيات تستبيح بيروت في حروب زواريب قذرة، فلم يجد اللبنانيون بداً من طلب النجدة من القيادة السورية التي كان هذا الضرب من الطلبات يثلج صدرها. سرعان ما تسلم كنعان اعنة القوى الحزبية المتقاتلة. وفرض عليها اجراء تصفيات وتطهيرات في صفوفها. هذه التطهيرات طاولت الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل وحزب الله الذي كان يومذاك اشد المتضررين من عودة السوريين إلى بيروت، فضلاً عن الحزب القومي السوري الإجتماعي وحركة الناصريين المستقلين "المرابطون"، فضلاً عن الأحزاب الصغيرة الأخرى. استكمل كنعان مهمته السياسية – الأمنية بنجاح. وهي سياسية – امنية بامتياز، فلم يكن الضابط القدير يقطع شعرة معاوية مع اي كان، كان يحسب حساب المصالح الضيقة لأي طرف من الأطراف مهما بلغت حدود قدرته، ويأخذها في اعتباره جيداً، وهذا شأن ضباط الأمن القديرين الذين يعرفون ان لكل شخص معنوي او سياسي مفتاحه الذي يحركه. اما في الشق السياسي فكان كنعان لا يتساهل ابداً مع مسألة واحدة وهي العلاقة او شبهة العلاقة مع اسرائيل. لهذا لم يتأخر عن تفكيك جهاز القوات اللبنانينة بقيادة سمير جعجع المتدرب في اسرائيل والذي من دون شك تربط اعضاؤه علاقات ما بضباط اسرائيليين يمكن ان تستعاد في المقبل من الأيام.
كان كنعان يعرف نقطة قوته في بلد تتنازعه القوى الميليشاوية. فعمد إلى ضبط الوضع مستنداً على قوة الجيش السوري بوصفها من دون شك اقوى من اي ميليشيا محلية، لكنه لم يقطع حبل السرة مع احد. ورغم انه تعرض إلى عدة محاولات اغتيال، ربما يكون اكثرها شهرة محاولة الرائد السابق في الجيش اللبناني كيتل الحايك الذي حوكم في المحاكم اللبنانية بعد ان امضى زمناً في السجون السورية بهذه التهمة، إلا ان هذه المحاولات بدت معزولة وفاقدة لنصابها السياسي. وعلى هذا النحو كان الضابط الذي كلف بإدارة ملف متفجر يضرب بقسوة لكنه يضعف ولا يميت. دائماً كان ثمة حد من الإضعاف يريد بعد تحقيقه ان يعقد صلة ما مع خصمه في الميدان. وربما يجدر بنا الإشارة إلى ان حزب البعث العربي الاشتراكي التابع لسورية لم يستطع ان يستفيد من السيطرة السورية التامة على لبنان ويحقق وزناً سياسياً يحسب له حساب. بقي الحزب من اضعف الأحزاب الموالية لسورية عديداً ووزناً. ذلك ان السياسة التي تم اتباعها في لبنان كانت تقضي بتوجيه من الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهو بالغ الحكمة والتدبر على ما يعرف عنه، وبقيادة غازي كنعان ممثله الشخصي في لبنان، ان يشترط على الداخل اللبناني فقط وضوح ولائه لسورية ودورها لا ان يتحول البعث حزباً وحيداً واساسياً في لبنان.
هذه السياسة التي اعتمدها غازي كنعان في بيروت ولبنان عموماً اتت أُكلها، تمثل ذلك في استتباب الأمن في المناطق كافة وهذا مطلب اللبنانيين انفسهم، وضبط القوى الميليشاوية تحت سقف الخطة السورية الأمنية – السياسية في لبنان.
بعد اقرار اتفاق الطائف في لبنان، واخراج الجنرال عون من قصر بعبدا، عادت الحياة السياسية إلى وتيرة نموها البطيء في لبنان. كان الوافدون إلى الحياة السياسية هم امراء الميليشيات انفسهم. واذا استثنينا الرئيس الراحل رفيق الحريري من هذه المعادلة فإن معظم من حكم لبنان في تلك الفترة بدعم سوري واضح، قاعدته الاتفاق الثلاثي الذي عقد بين الاطراف المتحاربين اواخر العام 1985، هم من زعماء الميليشيات الصغيرة والكبيرة الموالية لسورية.
(ربما يجدر بنا ان نفتح هلالين حيال موالاة سورية في ذلك السياق. كان البلد والحق يقال يتنازعه تياران حاسمان، تيار العلاقة مع اسرائيل وتيار العلاقة مع سورية، مما سمح للإدارة السورية ان تحشر كل التيارات المعادية لإسرائيل تحت كم الموالاة لسورية، وهذا الأمر لم يعد اليوم مطروحاً في الحدة نفسها بين الموالاة والمعارضة في لبنان).
لكن هذه السياسة بالضبط، الضرورية والحاسمة في حينها، هي التي انبتت من بين شقوقها الكثيرة تيار المعارضة الجارف لسياسة سورية في لبنان اليوم، والذي توج بعد اغتيال الحريري بتظاهر شعبي لا حد له ولا حصر. فمن رحم هذه السياسة التي ارادت ان تبقي مجال الأمن حيوياً وفاعلاً في لبنان وطاغياً غالباً على السياسة، تولدت هذه المعارضات الكبرى. كان الرئيس حسين الحسيني احد مهندسي اتفاق الطائف يرى، في الفترة الأخيرة من زمن الهيمنة السورية على لبنان، ان الميليشيات اللبنانية اعطيت فرصة عادلة لتتحول إلى قوى سياسية لكنها لم تفعل سوى الإمعان في تخريب الدولة وابتزازها. وهذا رأي سياسي يخالف الرأي الأمني الذي اديرت بموجبه الخطة السورية في لبنان، وعلى هذا الرأي يمكن ان نقرأ ترحيب ابرز قادة المعارضة اللبنانية وليد جنبلاط السابق بتكليف وليد المعلم نائب مساعد وزير الخارجية السوري بملف لبنان بدلاً من العميد الركن رستم غزالي الذي خلف كنعان في منصبه اللبناني، الأمر الذي نفته القيادة السورية على الفور، فالقيادة السورية كانت ولا زالت على الدوام تولي الشأن الأمني والمخابراتي جل عنايتها.
والحق ان لبنان الذي نعم باستقرار امني معقول طوال عقد ونصف من زمن الهيمنة السورية تشكلت فيه قوى سياسية نافذة. تغيرت اوزان واستقرت اخرى على نحو لافت. واصبح للشأن اللبناني الداخلي صعيد قائم في ذاته، وهو الأمر الذي لم تلحظه الخطة السورية في لبنان ولم يوليه خلف كنعان عناية مخصوصة. فكان امر التمديد للرئيس لحود حاسماً في التوجه السوري نحو الإمساك بلبنان امنياً وضرب السياسة فيه بعرض الحائط. مما جعل الأوزان السياسية اللبنانية تخضع خضوعاً متمادياً للمزاج العام الذي كان يئن انيناً خافتاً تحت وطأة التجاوزات السورية المتمادية.
بعد سنوات من العمل في السياسة سلماً وامناً في لبنان، لم يعد الرئيس الحريري وسيطاً سعودياً ورجل اعمال رُكّب على رأس حكومة وفق توازنات خارجية صرف، بل تحول زعيماً محلياً، ولم يعد حزب الله جهازاً امنياً لا يعير التذمر الأهلي التفاتاً او يقيم له وزناً، بل تحول قوة سياسية لها اثرها العميق. والمقياس نفسه ينسحب على قوى المعارضة والموالاة. والحال فإن هذه القوى كانت مضطرة للتجاوب مع المزاج العام المعترض بشدة على التجاوزات السورية في لبنان. مما جعل دعائم الوجود السوري في لبنان تتساقط واحدة تلو الأخرى ولم يتبق منها في النهاية إلا الانقسام الأهلي المحلي حيال الادوار السياسية في لبنان.
أدار اللواء غازي كنعان مهمته بنجاح لافت. قيل الكثير في قسوته وشدة طغيانه، لكنه ايضاً ادار بلداً كانت صفته الأولى الفوضى العنيفة والقاسية. والأرجح ان دور كنعان في إدارة وتنمية اجهزة الجيش والدولة الأمنية هو ما جعل دور هذه الأجهزة يتضخم وتدور حوله الشائعات. لكن عصا المايسترو لا يسعها ان تظل تنظر إلى العازفين بوصفهم سواسية كأسنان المشط. كان لا بد من إعادة السياسة إلى لبنان، من دون التضحية بالأمن. لكن الإصرار على هذا الدور الأمني من دون اي تعديل لم يكن مرشحاً للاستمرار في ظل تغيرات اقليمية ودولية غير مؤاتية.
لا تحكم البلاد بالأمن، ويصعب حكمها من دونه. تلك معادلة صعبة نجح كنعان في إدارة التوازن فيها طوال زمن وجوده في لبنان. لكن ما جعل النظام السوري يستمر طويلاً في حكم لبنان وحجز قراره السياسي لم يكن حسن الآداء السياسي في طبيعة الحال، بل الإذن الدولي الذي اتاح لسورية ان تبقى حاكماً منفرداً في لبنان. قد يذهب النفوذ السياسي السوري إلى نوع من الانحسار او حتى الاضمحلال، لكن النفوذ الأمني الذي ارساه كنعان يحتاج وقتاً طويلاً قبل ان تفكك عراه.
ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)
اسعد حردان رجل سورية العلماني القوي(3)