الزمن يعود إلى الوراء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جمعهما بشير ليخططا للمستقبل فاختلفا منذ 1980
عون وجعجع ... الزمن يعود إلى الوراء [ 1من2]
إيلي الحاج من بيروت: هل يعود الزمن إلى الوراء؟ في لبنان يعود كما لو أنك ترجع شريط فيديو إلى الخلف (rewind) . شريط قديم وأليم في المناسبة .
قبل ستة عشر عاما في مثل هذا اليوم بالضبط (31 كانون الثاني/ يناير 1990)، وكان ثلاثاء أيضاً مثل هذا اليوم، اندلعت بين قوات العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع في ما كانت تعرف ب "المناطق الشرقية" ذات الغالبية المسيحية معارك عنيفة بالدبابات والمدفعية وسائر الأسلحة الثقيلة والخفيفة سرعان ما عرفت بأنها "حرب الألغاء" وسماها أنصار عون "حرب توحيد البندقية". كانت آخر حروب المسيحيين الداخلية التي دمرت قوتهم العسكرية، والسياسية تالياً، ولم تنته إلا بعد ثمانية أشهر وأسبوعين بدخول وحدات الجيش السوري القصر الرئاسي في بعبدا حيث كان يتحصن عون يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1990.
النتيجة جاءت كارثية على كل المستويات: نحو 600 قتيل من وحدات الجيش اللبناني التي كانت موالية لعون و200 قتيل من رجال "القوات اللبنانية" ومئات الضحايا من المدنيين ، دمار هائل ونزف بشري كثيف بالهجرة النهائية إلى دول العالم فاقم الخلل في التوازن الدقيق بين المسيحيين والمسلمين الذي بنيت عليه البلاد ، والأهم والأخطر هيمنة سورية كاملة على لبنان بموافقة دولية وعربية تواصلت 15 عاماً.
التاريخ قاسٍ على من لا يأخذ منه العبر. والعنف يبدأ بالكلمات قبل اللكمات. وبطريرك الموارنة نصرالله صفير الذي نالته الإهانة والإيذاء المباشرين عندما انقسمت رعيته بين زعيمين وتصادمت يقول اليوم بعد 16 عاماً إنهم "لم ينسوا ولم يتعلموا". أمضى عون 15 عاماً لاجئاً منفياً في فرنسا، وعندما انقلب السوريون على اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اعترض جعجع فاتهموه بنية الانقلاب على الاتفاق وزجوا به لاحقا في السجن 11 عاماً وأشهر ولم يخرج إلا بعد خروج السوريين من لبنان وعودة عون . كان المفترض خلال هذه الحقبة الطويلة أن تكوّن القيادة السورية، التي حكمت البلد الشقيق المجاور، طبقة سياسية جديدة موالية لها تستطيع تسلم زمام الأمور ، لكنها تلهّت بالفساد وتوهمت بقدرة أجهزة الاستخبارات على القمع إلى الأبد. وهي نظرية ساقطة حتماً في لبنان المتعدد مراكز النفوذ المحوطة بخطوط حمراء يُمنع تجاوزها.
هكذا في غياب عون جعجع تسلم البطريرك بنفسه قيادة رعيته وجعل حوله حزاماً هو "لقاء قرنة شهوان" الذي أطلق بعضهم عليه صفة "مكتب صفير السياسي" . وتلقى البطريرك دعماً غير محدود معنوياً وسياسياً من بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني الذي قام بزيارة تاريخية للبنان وعقد مجمعاً كنسياً عالمياً من أجله هو "السينودس من أجل لبنان" شارك في بعض مفاصله ممثلون للطوائف الإسلامية اللبنانية. ويتبين من الجزء الثاني من سيرة صفير التي نشرت هذا العام أن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري كان يستعين للتخفيف من حدة مواقف البطريرك ضد الوجود السوري بعلاقة وثقى ربطته بالبابا الراحل الذي كان يعامله معاملة مميزة عن كل رؤساء الحكومات والدول.
دور صفير
نجح صفير، وخلفه "لقاء قرنة شهوان"، في إرساء حال من الثقة بعد طول شكوك وخلافات بين المسيحيين والمسلمين، وما كان ليتم لهما ذلك لولا أن لاقاهما في منتصف الطريق وبعيدا عن الأنظار، رفيق الحريري ومعه حليفه وليد جنبلاط الذي تقلبت مواقفه المعلنة في تلك المرحلة حتى تأكد أن النظام السوري لم يعد قادراً على إيذائه. في الموازاة عرف صفير أن يحافظ على حال الممانعة تجاه الهيمنة السورية التامة على لبنان. وتبين لدمشق أن الخط الذي رسمه لسياسته غير قابل للاستيعاب، خصوصاً أنه لا يطلب موقعاً أو سلطة يمكن رشوته بها، وأن مؤسسة الكنيسة في لبنان، المارونية تحديداً، هي في نهاية الأمر أسوأ لدمشق من أحزاب الموارنة عندما يتعلق الأمر بالوجود العسكري وبالتالي السياسي لسورية في "بلاد الأرز" . فعلى غرار العلاقة بين قيادة "حزب الله" وجمهوره ، ترتدي توجيهات الكنيسة إلى مؤمنيها طابع المقدس ، بفارق أن الكنيسة لا يمكنها إلا أن تكون مسالمة، هادئة العبارات، تدعو إلى المحبة والتسامح والصبر و"قبول الآخر"، العبارة التي باتت مشتركة لدى مختلف الأطراف في مرحلة ما بعد الخروج السوري. مرتين فقط دعا البطريرك رعيته إلى التحرك الشعبي الشامل ، الأولى علناً في مناسبة دينية ذات بعد سياسي ضمناً عند استقبال البابا يوحنا بولس الثاني في أيار/ مايو 1997، والثانية في الكنائس والمدارس الكاثوليكية في ذكرى مرور شهر على اغتيال الرئيس الحريري في 14 آذار الماضي. ومرة واحدة صدرت عنه عبارة حادة إذ قال "أُعذر من أنذر" منتقداً اتفاق ما سمي آنذاك "التحالف الرباعي"، أي قوى "حزب الله" وحركة "أمل" وتيار "المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي من دون علم السياسيين المسيحيين على اعتماد قانون انتخابات عام 2000 ، الذي سمي "قانون غازي كنعان"، وزير الداخلية السوري الراحل الذي وضع قانوناً انتخابيا للبنان بتقسيمات مختلفة للدوائر تضمن سيطرة حلفاء سورية على البرلمان وتحكّم المسلمين في إيصال عدد كبير من النواب المسيحيين.
انقضاض عون
ساد استياء واسع الأوساط الشعبية على الأثر ، وسرت كالنار في الهشيم شائعات وأخبار عن "خيانة" غذاها رئيس مجلس النواب وحركة "أمل" ومفادها أن "لقاء قرنة شهوان" أو أركاناً فيه أيدوا اعتماد قانون الألفين لا بل أصروا عليه ليكفلوا عودتهم إلى المقاعد النيابية لا سيما في الشمال . وأتبع البطريرك الذي كان عائداً من الخارج عبارته النارية قائلاً : "ما دام الأمر كذلك ، فلتنتخب كل طائفة زعيمها" . كان عون قد عاد إلى لبنان وكان وحده الزعيم في طائفته. سيقول جعجع لاحقاً إن السلطة آنذاك عرضت عليه في تلك المرحلة إخراجه لقاء تغيير تحالفاته ، وإنه رفض . وكانت أخبار تلفزيون "المؤسسة اللبنانية للإرسال" لا تزال تحت سيطرة المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيّد، فشنت حملة شعواء خيّل بنتيجتها إلى المسيحيين أن أمامهم خياراً من اثنين : إما التصويت لعون وإما التهيؤ للرحيل نهائياً عن لبنان .
في هذه الأجواء النفسية الضاغطة انقض عون في انتخابات الصيف الماضي على خصومه المرشحين من "لقاء قرنة شهوان" بعدما أخفقت مساعي تركيب لوائح توافقية مع جنبلاط وسعد الحريري لخلاف في النظرة إلى حجم عون الشعبي، وكانت النتيجة أن اكتسح دائرتي كسروان- جبيل، والمتن الشمالي حيث تحالف مع حلفاء سورية ليضمن فوزه . أما في بعبدا- عاليه فخسر كل المقاعد رغم نيله نحو 72 في المئة من أصوات المسيحيين الذين يشكلون أكثر من نصف عدد الناخبين لأن "حزب الله" وحركة "أمل" صبا الأصوات المؤيدة لهما لمصلحة اللائحة المنافسة ، الجنبلاطية - "القواتية" - الكتائبية.
كان المتوقع بعد الإنتخابات تنحية رئيس الجمهورية إميل لحود وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولكن حال دون ذلك فوز كتلة عون وحلفائه في كتلة الياس سكاف في زحلة ب 21 مقعدا في البرلمان، إذ أن انضمامهم إلى كتلة "حزب الله" و"أمل" وبعض النواب المحسوبين على سورية حرم الأكثرية مزية الثلثين التي تخولها تعديل الدستور لتقصير ولاية لحود الذي أعلن أنه لن يتخلى عن منصبه إلا إذا كان خليفته الجنرال عون الذي أوغل في الابتعاد عن قوى "انتفاضة 14 آذار/ مارس" في مناسبات عديدة بعدما تبين له رفضها ترشيحه للرئاسة وحجته أن كل طائفة يجب أن تتمثل في السلطة بالأقوياء فيها، هذا ما يسري على السُنة والشيعة والدروز فلماذا استثناء المسيحيين وهو حامل تفويض 72 في المئة منهم؟ وعندما اقترح عون تشكيل حكومة أقطاب مصغرة أوضح رأيه أن لا مكان لجعجع بين الأقطاب.
"لم ينسوا ولم يتعلموا" قال البطريرك. قبل إقرار قانون العفو زار عون غريمه السابق واللاحق جعجع في سجنه وكان اللقاء "عاطفياً" على ما روى كل منهما في ما بعد ، وكادت أن تتخلله دموع . لكن مرشحيهم تواجهوا في الانتخابات العامة، وشيئاً فشيئاً بدأت تنفك في انتخابات طلاب الجامعات والمعاهد عرى روابط اشتدت بين كوادر من الطرفين في سنوات القمع والاضطهاد، عندما كانوا يُسجنون معاً ويتعرضون للضرب والتحقيقات في مراكز الاستخبارات ويُحاكمون معاً. حتى باتت عادية أخبار المشادات التي تتحول مواجهات بالقبضات والعصي والكرسي توقع جرحى من هذا الجانب أو ذاك.
منذ أيام بشير
والحاصل إنه جيل جديد من "القواتيين" والعونيين الذينيقفون وجهاً لوجه كأن التاريخ يكرر نفسه، جيل الأبناء بعد الآباء، إذ مضى 16 عاماً على الحرب المهولة التي وقعت بين الطرفين، أو بين الرجلين اللذين لم ينسجما ولم يتفقا يوماً منذ تعارفا للمرة الأولى قبل 26 عاماً. ويروي أنطوان نجم ، مستشار القائد السابق ل "القوات اللبنانية" بشير الجميل الذي أصبح رئيساً للجمهوية قبيل اغتياله،أن بشيراً أنشأ هيئة للتخطيط المستقبلي برئاسة نجم وعضوية أحد أنصاره الضابط في الجيش اللبناني ميشال عون، وقائد "جبهة الشمال" في تنظيمه العسكري ذلك الوقت سمير جعجع. اجتمع الثلاثة ثلاث مرات ولم يخرجوا بأي نتيجة لأن عون وجعجع كانا يختلفان على كل نقطة وكان بينهما نفور . في النهاية قرر بشير توسيع الهيئة فباتت تضم 12 مشاركاً من أبرز ستشاريه ومساعديه وأحياناً أكثر حسب مواضيع البحث. وفي كتابه "أسرار حرب لبنان" ينشر الصحافي الفرنسي الشهير آلان مينارغ وثيقة دراسة وضعها ميشال عون مع أنطوان نجم في أيلول 1982 حول وصول بشير الجميّل إلى السلطة.
المفارقة في هذا السياق أن مُعرّب الكتاب الذي يباع بأعداد ضخمة في بيروت تبرع بإيراد ملاحظة في أوله غير موجودة في كتاب مينارغ بالفرنسية ، وهي: إن الضابط ميشال عون الذي ربطته علاقة سرية جداً ببشير الجميل، وكان صلة الوصل بينهما أنطوان نجم هو "غير الجنرال ميشال عون ودولة الرئيس". بسؤال نجم عن هذه النقطة أجاب ضاحكاً: "ليته قال عني أيضاً أن أنطوان نجم هو غير أنطوان نجم" . وأضاف:" كان هو. وعلى كل حال لا يوجد ضابط آخر في الجيش بهذا الاسم". بسؤال غسان برو المشرف على التعريب السيىء للكتاب القيّم سبب إضافته تلك العبارة غير الموجودة في النسخة الأصيلة بالفرنسية،أجابأنه سأل سياسياً يثق به وشديد الإطلاع فأشار عليه بإضافة العبارة. لكنه رفض تسمية ذلك السياسي. أما مينارغ الموجود في باريس فوصف في اتصال ل"إيلاف" ما حصل لكتابه الذي عرّبته في بيروت "المكتبة العالمية" بأنه " محض غباء" ، وأضاف أن الناشر أبلغ إليه أن نسخاً قليلة من الكتاب المشوّه طُبعت على عجل، و"سيتم في طبعات لاحقة تصحيح الأخطاء وحذف العبارة المضافة خطأ".
لكن ذلك لم يحصل، ولا يزال الكتاب المعرّب الرخيص نسبياً مقارنة بالأصل الفرنسي يباع بأعداد كبيرة وطبعات متلاحقة من دون تصحيح . وكان عون لوّح بتقديم دعوى على مينارغ عندما صدر كتابه في فرنسا، وذلك لحرصه على إبقاء صورته بعيدة عن الميليشيات وخصوصاً "القوات اللبنانية" التي اقتتل معها بعدما عمل في خدمتها ضابطاً، لكنه آثر صرف النظر عن الموضوع بناء على نصائح محامين. ترى حلّت المسألة على طريقة أن عون ليس عون؟.
- يتبع غداً-