انتقال السلطة في الكويت
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وتقول مقدمة الدراسة "ان الكويت شهدت في الأيام الأخيرة مجموعة من الأحداث السياسية المهمة التي سيكون لها تأثيراتها المختلفة على مسيرة الحكم في البلاد.. فعقب وفاة الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح في 15 فبراير 2006 دخلت الكويت اختبار دستوري حقيقي ارتبط بصورة خاصة بعملية انتقال السلطة، ومنذ ذلك التاريخ كانت البلاد تمثل بؤرة الاهتمام العالمي بالنظر إلى أهميتها الإقليمية والدولية ورغبة العالم في متابعة ما يحدث في هذه الدولة الصغيرة.وقد تمكنت الكويت من اجتياز ذلك الاختبار بنجاح كبير إذ أظهرت كافة الجهات بدءً من الأسرة الحاكمة ومرورًا بمجلس الوزراء وانتهاء بمجلس الأمة، تمسكًا شديدًا بالعرف، احتكامًا للدستور ومبادئه، الأمر الذي أثبت قوة النظام السياسي الكويتي ورسوخ قواعد التجربة الديمقراطية، واللافت للنظر أن كل ما حدث قد جاء في جو من الشفافية والعلانية فكان الشعب الكويتي يتابع الأحداث أولاً بأول واثقًا في النهاية بأن البلاد قادرة على تجاوز تلك الأحداث.
وعلى ضوء ذلك تُثار مجموعة من التساؤلات حول كيفية نجاح الكويت في إنجاز عملية انتقال سلس للسلطة، وما هي الآليات التي لجأت إليها البلاد في تعاملها مع هذه العملية؟، وما هي دلالات ذلك الانتقال السلس؟.. ويسعى هذا التقرير إلى الإجابة على تلك التساؤلات من خلال مجموعة من المحاور الرئيسية يتعلق المحور الأول بمسألة إعلان سمو ولي العهد الشيخ سعد العبد الله أميرًا على البلاد والإشكالية التي أثيرت في هذا الشأن، ويتناول المحور الثاني الآليات التي تعاملت الكويت من خلالها مع عملية انتقال السلطة، بينما يعرض المحور الثالث لدلالات الانتقال السلس للسلطة لاسيما فيما يتعلق بالدستور ومجلس الأمة وشرعية الأسرة الحاكمة، وأخيرًا يقدم المحور الرابع مجموعة من الملاحظات الختامية الخاصة بذلك الأمر". وهنا نص الدراسة:
أولاً: المناداة بولي العهد أميرًا للبلاد.. تأكيد على الالتزام بالدستور
خلال الأربعة عشر شهرًا الماضية كانت مسألة انتقال السلطة عنصرًا مشتركًا في معظم دول مجلس التعاون الخليجي، وقد تمكنت هذه الدول من إعمال مبدأ التوارث بشكل سلس ومنظم وبشفافية واضحة، ففي دولة الإمارات العربية المتحدة خلف الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان والده الشيخ زايد، وبعد وفاة الملك فهد بن عبد العزيز في المملكة العربية السعودية انتقل الحكم إلى ولي عهده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتكرر الأمر في إمارة دبي بعد وفاة حاكمها الشيخ مكتوم بن راشد ليخلفه شقيقه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
واستمرارًا لهذا النهج فقد أنجزت الكويت انتقالاً سلسًا للسلطة حاز على إعجاب العالم، وأكد على تميز التجربة الكويتية، فعقب الإعلان في 15 يناير 2006 عن وفاة أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح سارع مجلس الوزراء الكويتي في اليوم نفسه إلى المناداة بولي العهد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح أميرًا للبلاد، الأمر الذي عكس احترامًا للدستور ومبادئه وقانون توارث الإمارة الذي نصت مادته الرابعة على أنه "إذا خلا منصب الأمير نودي بولي العهد أميرًا". وهو ما فعله مجلس الوزراء، ولاشك أن ذلك الإجراء كان من شأنه تعزيز الثقة في مدى الاحترام للدستور ومدى التمسك به.
غير أن ما حدث من انتقال سلمي في هذه المرحلة لم يحل دون إثارة بعض التساؤلات الخاصة بكيفية تولي الأمير الشيخ سعد العبد الله الصباح ممارسة صلاحياته في ظل حالته الصحية، حيث يشير الدستور في مادته الستين إلى أن "يؤدي الأمير قبل ممارسة صلاحياته في جلسة خاصة لمجلس الأمة اليمين الدستورية" وتزامن مع ذلك إعلان رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي (16/1/2006) أن موعد الجلسة البرلمانية التي ستخصص لكي يؤدي أمير الكويت الجديد اليمين الدستورية، سيتم تحديدها بعد أن تتسلم رئاسة المجلس قرار مجلس الوزراء الذي نادى بالشيخ سعد أميرًا للبلاد".
ومن جهة أخرى سارع مجلس الأمة إلى عقد جلسة غير رسمية للتداول في "كيفية عقد جلسة خاصة لأداء القسم، وهل يسمح الدستور بأن يؤدي الأمير القسم الدستوري بصوت مسموع أو غير ذلك"، والواقع أنه قد أُثيرت حالة من الجدل والنقاش حول هذا الأمر، حيث رأى بعض النواب إمكانية وجود تساهل في أداء القسم، وفي هذا الصدد قال النائب وليد الطبطبائي أنه طرحت آراء حول وجود سوابق بعدم الالتزام بالنص الحرفي للقسم بحيث يكتفي بـ"أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور"، كما أشار البعض إلى أن يتم إجراء القسم بـ"الطريقة الممكنة".
وفي المقابل أكد فريق آخر على ضرورة أن يتلو الشيخ سعد القسم كاملاً كما هو منصوص عليه في الدستور، وفي هذا الصدد شدد رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي على أنه يجب على أمير الكويت أن يؤدي القسم كاملاً رافضًا تأويلات البعض بجواز تأدية جزء من القسم كما حصل مع الشيخ عبد الله السالم الذي أدى جزءً من القسم باعتبار أنه كان أساسًا أميرًا للبلاد وتم وضع الدستور بعد توليه مقاليد الحكم بعدة سنوات، كذلك شدد النائب علي الراشد على ضرورة التمسك بالدستور الذي هو "العقد بين الأسرة الحاكمة والشعب الكويتي"، وأكد أن الأمير يتولى صلاحياته بعد أداء القسم كما جاء في الدستور، وهو من الأمور التي ليس فيها اجتهاد.
وقد جاء الفقه الدستوري في جانب الرأي الثاني، حيث أكد الخبراء الدستوريون على ضرورة أن يؤدي الأمير القسم الدستوري بـ"صوت مسموع وواضح" لأنه لا يوجد قسم مكتوم، و"يكون القسم مباشرًا بمعنى أنه يجب أن يؤديه الشخص نفسه ولا يمكن لهذا الشخص أن يُسر بالقسم إلى شخص آخر بجانبه يؤديه عنه"، وأضاف هؤلاء الخبراء أن "تأدية القسم بصورة علنية يطلع عليها الناس جميعًا ولا يجوز أن يتولى حاكم شؤون إدارة بلاده من دون أداء هذا القسم".
والتزامًا بأحكام الدستور وفي ضوء الجدل حول قدرة الأمير على أداء القسم بدأت مجموعة من السيناريوهات في الظهور، وكان أبرزها ما أشار إليه الفقه الدستوري من أنه "في حال عدم قدرة الأمير الجديد على أداء اليمين الدستورية المطلوبة لممارسة اختصاصاته فلمجلس الوزراء وحده أن يطرح فكرة تنحية الأمير وفقًا للأوضاع التي حددها قانون توارث الإمارة، ولكن هذه التنحية تتطلب موافقة أغلبية ثلثي أعضاء مجلس الأمة، ومن دون شك فإن ذلك الجدل الذي أثير حول كيفية أداء القسم بل وضرورة أدائه كما هو إنما كان نابعًا من احترام الجميع للدستور بل وأكد على أن هناك في الكويت تقليد يتمثل في التمسك بالنظام الدستوري.
والخلاصة أنه كان هناك انتقال للسلطة بحيث أصبح سمو العهد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح أميرًا للبلاد بحكم الدستور، ولكن احترامًا للدستور والتزامًا به أيضًا كان على الأمير الجديد لكي يمارس صلاحياته أن يقوم بأداء القسم كاملاً، وهو ما كان بمنزلة إشكالية في ظل حالته الصحية، والتساؤل هنا كيف تعاملت الكويت لاسيما الأسرة الحاكمة ومجلس الوزراء ومجلس الأمة مع تلك الإشكالية؟.. هذا ما سيجيب عنه الجزء التالي من التقرير.
ثانيًا: آليات تعامل الكويت مع إشكالية الانتقال الفعلي للسلطة
تعاملت الكويت مع الإشكالية المذكورة وفقًا لآليتين هما العرف والدستور، فمن ناحية لجأت جميع الأطراف إلى العرف لحل الإشكالية التي واجهت الأمير الشيخ سعد العبد الله السالم فيما يتعلق بأداء القسم على ضوء حالته الصحية، ومن ناحية أخرى اتجهت تلك الأطراف إلى الدستور وتفعيله فيما يتعلق بانتقال الإمارة.
والواقع أن هاتين الآليتين ليستا من الأمور الجديدة في النظام السياسي الكويتي فبالنسبة للآلية الدستورية فقد تم تقنين هذه الآلية في الدستور وقانون توارث الإمارة إذ وُضعت مجموعة من الشروط في ولي العهد من بينها أن يكون رشيدًا عاقلاً يدرك الأمور ويعي ما حوله ويتخذ قراراته بإرادة منه وأن يكون من ذرية مبارك الصباح واشترطت أيضًا أن يكون ابنًا شرعيًا من أبوين مسلمين، وتكون تزكية ولي العهد من الأمير القائم لواحد يختاره، أو ثلاثة يختار أحدهم مجلس الأمة، وفي كلتا الحالتين، هناك شرط مبايعة المجلس لولي العهد في جلسة خاصة حتى يستوفي شرعيته الدستورية، ولاشك أن الحديث هنا عن ولي العهد باعتبار أنه سيكون الأمير تلقائيًا بعد ذلك.
وإلى جانب الآلية الدستورية المذكورة هناك آلية العرف، وفي هذا الصدد أشار بعض المحللين إلى أن هناك ثلاثة أعراف مستقرة حكمت مسألة الوراثة حتى قبل صدور النص الدستوري، العرف الأول هو حق الوراثة في ذرية مبارك من الذكور الذين يتصل نسبهم بمبارك بن صباح الثاني، والعرف الثاني هو أن استحقاق الوراثة ينحصر في كبار السن من الممارسين للعمل السياسي والراغبين في تسلم المنصب إذ لم يشهد تاريخ الكويت السياسي على الأقل منذ حكم مبارك بن صباح قفزًا من جيل الصغار أو تجاوزًا لجيل الكبار، وظلت الأسرة تسند مهمة القيادة والحكم لجيل الكبار مقدمة هذا الأمر على كل الاعتبارات السياسية والرسمية الداخلية، وأما العرف الثالث فهو الحرص الشديد لدى الأسرة الحاكمة على إبقاء اختيار وريث الإمارة مسألة محصورة داخل نطاقها.
الأمر الآخر الذي ينبغي الإشارة إليه هو أنه ليس هناك تناوب في الحكم بين فرعي العائلة الحاكمة كما يشير البعض، فهذا أمر ليس صحيح وتنفيه الوقائع التاريخية، فقد رحل مؤسس الكويت الحديثة الشيخ عبد الله السالم الصباح وتقلد أخوه صباح السالم الحكم من دون أن يثير ذلك الأمر أي إشكاليات أو أزمات.. الأمر الذي يعني أن اختيار الأمير وولي العهد تحكمه مجموعة من القواعد المتعلقة بالدستور والعرف والتي ليس من بينها مبدأ التناوب.
ووفق هذه القواعد اتجه الكويتيون إلى التعامل مع الإشكالية الخاصة بالانتقال الفعلي للسلطة إلى الشيخ سعد العبد الله فكان هناك ابتداءً اللجوء إلى العرف لحسم تلك الإشكالية، في الوقت الذي كان فيه الدستور محل احترام الجميع باعتباره الضمانة الأولى والأخيرة.. فنص الدستور يؤمن الشرعية وروحه تعطي الأولية لمراعاة مصالح الدولة العليا وأصول الحكم تعطي الأرجحية للقدرة على ممارستها والنهوض بأعباء إدارة البلاد، ومن هذا المنطلق يمكن تطبيق هاتين الآليتين على الأحداث التي جرت في الكويت في الأيام التي جاءت عقب وفاة الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح وتولي ولي العهد الشيخ سعد العبد الله السالم مسند الإمارة دستوريًا.
1- مظاهر آلية العرف:
مع إحساس أعضاء الأسرة الحاكمة في الكويت بأن هناك إشكالية تواجه الأمير الشيخ سعد العبد الله الصباح بسبب حالته الصحية، اتجهت الأسرة إلى استخدام آلية العرف لتسوية تلك الإشكالية، وقد بدأت جهود الأسرة في هذا الشأن باجتماعين عقدا يوم 18 يناير 2006.. فقد عقد اجتماع في "دار سلوى" مقر إقامة رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الصباح حضره 18 شخصًا ممن تزيد أعمارهم على الخمسين عامًا من ذرية الشيخ مبارك الكبير، وتركز هذا الاجتماع على قضية واحدة وهي مدى تمتع الأمير الجديد بالقدرة على إدارة شؤون الإمارة، وقد بدا أن هناك ميل لدى الأغلبية لإعفاء الشيخ سعد من عبء هذا المنصب.
وفي المقابل وفي اجتماع آخر عقد بمقر دار الشعب مقر إقامة الأمير سعد العبد الله السالم أكدت مجموعة من شيوخ الأسرة وفي مقدمتهم الشيخ سالم العلي رئيس الحرس الوطني على أن تولي الشيخ سعد الإمارة مسألة محسومة وأنه قادر على أداء القسم أمام البرلمان، كما طرح هذا الفريق تصورًا يكون فيه الشيخ صباح وليًا للعهد، وإزاء ذلك الأمر قامت الأسرة بتكثيف جهودها من أجل الحيلولة دون استمرار إشكالية الحكم وتسوية الأمر في نطاقها فقط.
وفي هذا الصدد توافدت مجموعة من شيوخ الأسرة (19/1/2006) إلى "دار سلوى" مؤيدة حلاً وديًا يقوم على تنازل الأمير الجديد الشيخ سعد العبد الله وإعلان الشيخ صباح أميرًا على الكويت بعيدًا عن الإجراءات الدستورية المتعلقة بهذا الشأن، وفي هذا الصدد أفادت وكالة الأنباء الكويتية "كونا" أن "عددًا كبيرًا من أبناء أسرة آل الصباح جددوا لسموه (الشيخ صباح) الثقة التي أولاها له الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد الراحل وناشدوه القيام بمسؤولياته"، وأضافت الوكالة أن الشيخ صباح أكد "عزمه على تحمل هذه المسؤولية".
واستمرارًا لتفعيل آلية العرف ورغبة في التسوية داخل نطاق الأسرة واحترامًا لهذا العرف المتوارث ناشدت الصحف الكويتية الشيخ سعد العبد الله بالتضحية في سبيل الكويت، فكتبت القبس في افتتاحيتها الصادرة يوم 20 يناير 2006 مناشدةً الشيخ سعد أن "يكمل اليوم مسيرته في سبيل الكويت فيضحي مرة جديدة من أجلها"، وأضافت أن الشيخ سعد "لن يتأخر اليوم عن تقديم تضحية أخرى لتجنيب الكويت عقبات وربما أزمات".
ولاشك أن لجوء الأسرة الحاكمة إلى تفعّيل آلية العرف إنما ينبع من مجموعة أسباب من أهمها الرغبة في عدم إعطاء الفرصة لأي جهة أن تطعن في مقدرة الشيخ سعد العبد الله على إدارة البلاد، بالإضافة إلى أن الشيخ صباح الأحمد يعد شخصية قوية يحظى باحترام سياسي واجتماعي وكذلك يحظى بإجماع الأسرة بصفته رجلاً خبيرًا ومحنكًا في إدارة شؤون البلاد وإدارة شؤون الأسرة في ذات الوقت.
وفي ظل استمرار الإشكالية كان اللجوء إلى الآلية الدستورية باعتبارها الحكم بين الأطراف حيث اتجه كل طرف إلى التمسك بالدستور وقانون توارث الإمارة وإن كانت آلية العرف قد استمرت متزامنة مع الآلية الدستورية التي أخذت مجراها عبر عدة خطوات كما سيلي الإشارة.
2- الآلية الدستورية:
بناء على ما شهدته آلية العرف من تحريك في اتجاه مطالبة الشيخ صباح بتولي مسؤولياته من أجل تسوية الإشكالية القائمة كان الاتجاه هو تفعّيل الآلية الدستورية ومن ثم كان اللجوء إلى قانون توارث الإمارة الذي يشير في مادته الثالثة إلى أنه "يشترط لممارسة الأمير صلاحياته الدستورية ألا يفقد شرطًا من الشروط الواجب توافرها في ولي العهد، فإن فقد أحد هذه الشروط، أو فقد القدرة الصحية على ممارسة صلاحياته فعلى مجلس الوزراء بعد التثبت من ذلك عرض الأمر على مجلس الأمة في الحال لنظره في جلسة سرية خاصة، فإذا ثبت للمجلس بصورة قاطعة فقدان الشرط أو القدرة المنوه عنهما، قرر بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم انتقال ممارسة صلاحية الأمير إلى ولي العهد بصفة مؤقتة أو انتقال رئاسة الدولة إليه نهائيًا".
غير أن الحالة الراهنة قد شهدت خلو منصب ولي العهد أيضًا، وفي هذه الحالة نصت المادة الرابعة من القانون المذكور على أنه "إذا خلا منصب الأمير قبل تعيين ولي العهد، مارس مجلس الوزراء جميع اختصاصات رئيس الدولة لحين اختيار الأمير بذات الإجراءات التي يبايع بها ولي العهد في مجلس الأمة، وفقًا للمادة الرابعة من الدستور ويجب أن يتم الاختيار في هذه الحالة خلال ثمانية أيام من خلو منصب الأمير".
وعلى ضوء هاتين القاعدتين بالإضافة إلى القواعد الواردة في الدستور جرى حوار دستوري بين مختلف الأطراف سواء مجلس الأمة أو مجلس الوزراء أو الأسرة الحاكمة، وكان لافتًا حرص كل طرف على ربط موقفه بالدستور الذي شكل السقف الذي يتحرك تحته جميع الأطراف دون أي محاولة لتجاوز هذا السقف أو حتى مجرد التفكير في اللجوء إلى إجراءات غير دستورية أو غير شرعية.
وفي هذا الإطار شهد قصر الشعب مقر إقامة الأمير الشيخ سعد العبد الله اجتماعًا (20/1/2006) أصدر على إثره الشيخ سالم العلي رئيس الحرس الوطني بيانًا شدد فيه على الالتزام بالدستور، وأفاد أن الشيخ سعد العبد الله دعا مجلس الأمة إلى تحديد جلسة لأداء القسم كأمير للبلاد. وهو ما أكده رئيس مجلس الأمة الشيخ جاسم الخرافي الذي أعلن (21/1/2006) أنه تلقى طلبًا رسميًا من الشيخ سعد يطلب فيه عقد جلسة القسم يوم الأحد الموافق 22 يناير 2006.
وفي المقابل اتجه مجلس الوزراء الكويتي إلى تفعّيل المادتين 3 و4 من قانون توارث الإمارة، حيث قرر المجلس في اجتماع استثنائي عقد يوم 21 يناير 2006 تفعّيل إجراءات عزل الشيخ سعد بسبب وضعه الصحي، وجاء في بيان صادر عن المجلس أنه تقرر تفعّيل الإجراءات الدستورية المقررة في المادة الثالثة من القانون رقم 4 لسنة 1964 بشأن أحكام توارث الإمارة، وبموجب هذا القانون يُسمح لمجلس الوزراء أن يعين فريقًا طبيًا لتعيين حالة الأمير الصحية ورفع تقرير بذلك إلى البرلمان، غير أن الملاحظ أنه بالرغم من مضي المجلس في تلك الإجراءات في اجتماعه الذي عقد في 22 يناير 2006، فإن ذلك لم يعلن بصفة رسمية بهدف منح فرصة لمساع تهدف إلى إقناع الشيخ سعد بالتسوية في نطاق الأسرة دون الذهاب إلى مجلس الأمة.
وفي خطوة أخرى في اتجاه تفعّيل الدستور تم الاتفاق بين أمير البلاد الشيخ سعد العبد الله ورئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي (22/1/2006) لعقد جلسة للبرلمان يوم الثلاثاء في 24 يناير 2006 لأداء القسم وقد اعتبر رئيس مجلس الأمة أن الأمير يتمتع بصلاحية في أداء القسم قائلاً أن الدستور "هو الذي حدد الإجراءات الخاصة بالقسم وإذا كان سمو الأمير يرغب في أداء القسم فلا نستطيع أن نرفض مثل هذا الطلب".
ومع وصول طلب مجلس الوزراء إلى مجلس الأمة بشأن تحديد جلسة للنظر في قدرة الأمير الصحية في إدارة شؤون البلاد أعلن رئيس مجلس الأمة أنه تم تحديد جلستين يوم الثلاثاء 24/1/2006 على أن تُعقد الجلسة الأولى في العاشرة صباحًا للنظر في طلب مجلس الوزراء، وتعقد الجلسة الثانية الخاصة بأداء القسم في السادسة مساءً واستباقًا لهذه الخطوة بعث الشيخ سعد برسالة إلى مجلس الأمة يوم 23/1/2006 يطلب فيها عقد جلسة القسم في اليوم نفسه، وهو ما تعذر حدوثه بسبب ضيق الوقت.
وبالنظر إلى ذلك الحوار يتضح أن كل الأطراف مضت في إجراءاتها وفقًا للدستور في الوقت الذي كانت هناك جهود تبذل للتوصل إلى ما يطلق عليه اتفاق "اللحظة الأخيرة"، الذي يسوي الإشكالية في نطاق الأسرة الحاكمة، وقد تم التوصل بالفعل إلى ذلك الاتفاق في مساء يوم 23 يناير 2006، حيث أعلن مسؤول حكومي أن أمير الكويت الشيخ سعد العبد الله السالم وافق على التنحي من أجل تسوية إشكالية الحكم على أن يحل محله الشيخ صباح الأحمد الصباح(، وبالرغم من أن ذلك الاتفاق كان كفيلاً بتحقيق التسوية تفعيلاً لآلية العرف فإن تعقيدات أخرى حالت دون إتمام تنفيذ ذلك الاتفاق مما أدى إلى الاستمرار في تفعّيل الآلية الدستورية والذهاب إلى مجلس الأمة من أجل إنجاز تسوية إشكالية الحكم وهو ما سيتم الحديث عنه في الجزء التالي.
3- موقف مجلس الأمة:
أظهر مجلس الأمة قدرًا كبيرًا من المسؤولية فأتاح الفرصة كاملة للأسرة الحاكمة لتسوية أوضاعها دون استعجال أو محاولة انتهاز الفرصة لتحقيق مكاسب سياسية خاصة به، كما حرص رئيس المجلس دائمًا على الإبداء برأيه في كافة المسائل بكل شفافية ووضوح مؤكدًا على أنه كان وسيظل مجتهدًا في تطبيق الإجراءات الدستورية والعمل على كل ما من شأنه ضمان استقرار البلاد وحماية الدستور، وبالإضافة إلى ذلك قد تحمل المجلس مسؤوليته حينما طلب منه أن يتحمل تلك المسؤولية.
وفي هذا الإطار طالب رئيس مجلس الأمة وجميع الأعضاء والكتل والتيارات السياسية قاطبة الأسرة الحاكمة أن تتوصل إلى تسوية من دون أن يضطر مجلس الأمة إلى التدخل وتفعيل القوانين الدستورية في هذا الصدد لاسيما ما يتعلق بمواد توارث الإمارة الصادر عام 1964، والذي لم يتم استخدامها سابقًا، وكان ذلك بهدف إتاحة الفرصة للأسرة للتسوية في نطاقها، وفي هذا السياق قال فهد الخنة رئيس اللجنة التشريعية والقانونية بالمجلس أن البرلمان ينتظر إجماع الأسرة على رأي واحد والاتفاق بشأن الإعلان عن أمير جديد للبلاد، وأكد أن المجلس سيبارك أي اتفاق تتوصل إليه الأسرة بهذا الشأن. ( )
إلى جانب ذلك كان إصرار المجلس على احترام الدستور والتمسك به في جميع الفترات، الأمر الذي بدا في تمسك المجلس بأن يتم تلاوة القسم بالصورة التي ورد بها في الدستور، كذلك كان واضحًا انحياز المجلس للدستور دون أي جهة أو جانب آخر، وحرص أن تكون كافة خطواته ومواقفه دستورية، وفي هذا الصدد أعلن رئيس مجلس الأمة الشيخ جاسم الخرافي (18/1/2006) ردًا على تساؤل حول دستورية الحكومة
قائلاً "حسب الدستور فإن لدى الحكومة الحالية من الصلاحيات ما يفوق صلاحياتها قبل رحيل سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد".
من جهة أخرى قبل المجلس طلب الأمير الشيخ سعد العبد الله الصباح بأداء القسم وحدد موعدًا لذلك في الوقت الذي قبل فيها الإجراءات التي قام بها مجلس الوزراء، انطلاقًا من أن الأمير له حق أداء القسم، على أن يتم ذلك وفقًا لما ورد في الدستور، وكذلك فإن مجلس الوزراء له صلاحيات دستورية في اتخاذ ما يراه بشأن تقرير مدى قدرة الأمير الصحية على إدارة شؤون البلاد، والأمر الآخر أنه مع وصول طلب الأمير لأداء القسم، وطلب مجلس الوزراء فإن المجلس قد حدد جلستين صباحية خاصة بالنظر في طلب مجلس الوزراء، ومسائية خاصة بأداء القسم، ولم يكن هذا الترتيب عشوائيًا وإنما منطقيًا ويتماشى مع الدستور أيضًا.. فلم يحدد الدستور وقت معين لأداء القسم ولكنه أعطى لمجلس الوزراء التحرك، ومن ثم كان وضع جلسته في المقدمة على أن يعقبها جلسة القسم.
وبالرغم من وصول الأمور إلى المجلس فقد كان لافتًا استمراره على موقفه الداعي إلى إتاحة أكبر فرصة للتسوية في نطاق الأسرة.. فمع التوصل إلى الاتفاق الخاص بتنحي الشيخ سعد مساء يوم 23/1/2006 وعقد الجلسة الصباحية يوم 24/1/2006 للنظر في طلب مجلس الوزراء اتجه رئيس مجلس الأمة إلى رفع الجلسة أكثر من مرة والتمهل انتظارًا لوصول وثيقة التنازل.
غير أن مجموعة من التعقيدات قد حالت دون وصول الوثيقة المذكورة في الموعد المناسب، الأمر الذي وضع المجلس في موقف ينبغي عليه أن يتحرك، ومن ثم بدأت الإجراءات الدستورية الخاصة بإعلان خلو مسند الإمارة وانتقال الصلاحيات الأميرية، حيث وافق أعضاء مجلس الأمة بالإجماع (50 عضوًا و15 وزيرًا) على تفعّيل المادة الثالثة من قانون توارث الإمارة إثر قناعة جميع أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية بأن الحالة الصحية للشيخ سعد لا تساعده على القيام بواجبات الإمارة وإدارة شؤون البلاد( )، واللافت أن آلية العرف كانت مستمرة في ذلك الوقت حتى أن وثيقة التنازل جاءت مكتملة لكن بعد انتهاء إجراءات الآلية الدستورية.
واستمرارًا لما ينص عليه الدستور، فقد انتقلت الصلاحيات الأميرية إلى مجلس الوزراء حسبما تشير المادة (4) من قانون توارث الإمارة، حيث تم تزكية الشيخ صباح الأحمد الصباح أميرًا للبلاد ليكون الأمير الخامس عشر للكويت.
والخلاصة في هذا الجزء هو نجاح الكويت في إدارة حوار دستوري بين مختلف الأطراف بحيث خرج الجميع راضين عن نتيجة الحوار، فاللجوء إلى تسوية إشكالية الحكم تم في البداية في نطاق الأسرة الحاكمة حفاظًا على العرف المتبع في هذه الحالة، غير أن عدم تمكن الأسرة من التسوية جعل الأطراف يتجهون إلى تبني الآلية الدستورية، ومن ثم تحمل كل طرف مسؤوليته، وبالرغم من أن آلية العرف كادت تنجح في تسوية تلك الإشكالية فإن تعقيدات حدثت حالت دون ذلك ودفعت إلى استمرار تبني الآلية الدستورية التي نجحت في التسوية .. وهنا يُثار التساؤل حول دلالات هذا الأمر الذي يحدث لأول مرة في الكويت، وهذا ما سيتم تناوله في الجزء التالي من التقرير.
ثالثًا: دلالات الانتقال الدستوري السلس للسلطة
بالرغم من أن عملية الانتقال السلس للسلطة لا تعتبر أمرًا جديدًا في الكويت، إلا أن الجديد هو الدور الذي لعبه مجلس الأمة في هذا الأمر، فسمة التداول السلمي للحكم تعتبر من أبرز سمات المؤسسة الحاكمة إذ نشأت هذه المؤسسة عبر اتفاق تاريخي اختار فيه الرواد الأوائل من الكويتيين صباح الأول ليكون أميرًا عليهم، وقد حرص آل صباح طوال تاريخهم على ترابط أسرتهم وإظهارها بالصورة اللائقة أمام المجتمع، وحتى في حالة الخلاف فإن هذا الأمر لم يكن يصاحبه أي إجراءات غير سلمية وظل الأمر دائمًا في نطاق الأسرة، وعلى ذلك يمكن القول أن تطورًا إيجابيًا قد طرأ على هذه السمة ويتمثل هذا التطور في إتاحة الفرصة لمجلس الأمة الذي يمثل الشعب في المشاركة في اختيار الحاكم، وهو أمر لاشك يتماشى مع التجربة الديمقراطية في الكويت التي دائمًا ما تكون رائدة ومتميزة في اتخاذ المزيد من الخطوات التي من شأنها ترسيخ دعائم هذه التجربة.
وعلى ضوء ذلك التطور المذكور يمكن الحديث عن مجموعة من الدلالات المهمة في هذا الصدد وأبرز تلك الدلالات ما يلي:
1- الإعلاء من شأن الدستور ودولة المؤسسات:
لاشك أن الأحداث السياسية الماضية في الكويت قد أضافت إلى أهمية الدستور ومركزيته في موضوع مهم يتعلق بشؤون الحكم، فقد كشفت تلك الأحداث عن نجاح النظام الدستوري الكويتي في التعامل معها من حيث المحافظة على إبقائها ضمن حدود مرجعية الدستور وإبقاء خيار اللجوء للبرلمان قائمًا للفصل فيها، ومع نجاح النظام الدستوري في الكويت في التعامل مع تلك الإشكاليات بالنظر إلى ما يتضمنه من آليات تكفل له هذا النجاح، فقد جاءت تسوية إشكالية الحكم بطريقة سلمية حسب الأصول التقليدية والدستورية المتبعة في ظل إجماع من قبل الأسرة الحاكمة ومجلس الأمة ومجلس الوزراء.
ولاشك أن مما ساعد على الإعلاء من شأن الدستور ذلك التوافق التاريخي القائم بين أهل الكويت والأسرة الحاكمة وبين أهل النظام والرأي العام على مزايا الحل الدستوري والالتزام به، وفي هذا الصدد قال الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح مؤكدًا في خطابه أمام مجلس الأمة "إننا نعتز بدستورنا وبديموقراطيتنا ونفتخر بكويتنا دولة القانون والمؤسسات"، ولاشك أن الأحداث التي جرت وما صاحبها من توافق داخلي واحتكام للدستور وقد أدت إلى ترسيخ النظام الديمقراطي في الكويت لاسيما وأن الدستور يتضمن إمكانيات هائلة لحل أي خلاف، وبذلك فإنه يعتبر الحصن الواقي للجميع خاصة للأسرة. ( )
إلى جانب ذلك فقد أكدت الأحداث أن دولة الكويت في احتكامها إلى الدستور والقوانين، تمتلك بالفعل مؤسسات قوية.. فمن تابع عملية انتقال السلطة بكافة مراحلها السابقة يستطيع أن يدرك أن هناك دولة مؤسسات تستعصي على الارتباك أو الفوضى أو الانهيار أمام أي هزة سياسية عابرة.. فالحوار بين الكويتيين كان يتم عبر أطر دستورية وشفافة، الأمر الذي يعني أن هناك نظامًا سياسيًا يقوم على مؤسسات قوية قادرة على مواجهة أي خلافات أو أزمات وفق أطر شرعية وبعيدًا عن أي طرق غير شرعية. ( )
وأخيرًا يمكن القول أن الكويت من خلال هذه الأحداث قد أثبتت أنها تجاوزت بكثير المشكلة التي يعاني منها غير بلد عربي في ظل وجود برلمان منتخب ودستور يُحترم ولا يحتمل التأويلات أو التعديلات في مواقف معينة لصالح فئات دون أخرى.. فالواضح أن كل الأطراف تحتكم إلى الدستور وتجتهد في تفسير نصوصه وآليات تفعيله انطلاقًا من أهمية هذا الدستور وقدسيته.
2- تقوية المؤسسة التشريعية ومساهمتها في اختيار الحاكم:
كما سبقت الإشارة فقد شاءت الظروف أن يلعب مجلس الأمة الكويتي دورًا محوريًا في الأحداث السياسية التي مرت بها الكويت بالرغم من أنه حاول كثيرًا أن يتجنب لعب هذا الدور لاسيما وأن المجلس ميلاً فطريًا إلى عدم التدخل في شؤون الأسرة(، والحقيقة أن ما حدث يمثل إحدى المرات النادرة التي تفعل فيها مواد لها ثقل الدستور من جانب مؤسسة ديمقراطية مثل مجلس الأمة، بحيث استطاعت هذه المؤسسة أن تتحمل مسؤوليتها في هذا الشأن.
ويشير البعض إلى أن الدور الذي لعبه مجلس الأمة بجميع مراحله منذ بدء الأحداث وحتى انتهائها من شأنه أن يزيد الثقة في أدائه وفي قدرته على مواجهة أي أزمات طارئة.. فقد اكتسب المجلس قوة سياسية مهمة، فما حدث بالضبط - على حد قول البعض- أن مجلس الأمة قد شارك، وربما لأول مرة في العملية السياسية المتعلقة مباشرة بمسألة اختيار الأمير وبذلك فإنه اكتسب قوة سياسية لم يكن يتمتع بها من قبل، وبما أن هذا المجلس يمثل الشعب الكويتي فإن ما حصل هو لمصلحة الكويت كلها، بما في ذلك الأسرة الحاكمة، وليس أدل على ذلك من أن المجلس عمل حتى اللحظة الأخيرة على أن يأتي الحل والتسوية من داخل الأسرة وليس من خلال الإجراءات الدستورية، الأمر الذي يؤكد أن الشراكة السياسية بين المؤسستين - أي الأسرة والمجلس- لا تعني بالضرورة الافتئات على الحق السياسي لأي طرف دون الآخر، بمعنى أن القوة التي حصل عليها المجلس من جراء دوره في الأحداث ليست على الإطلاق على حساب الأسرة أو المؤسسة التنفيذية طالما أن هناك توافق بين هذه القوى وكذلك في ظل احترام الدستور والالتزام به.
وكما سبقت الإشارة فإن المجلس الذي كان اللاعب الرئيسي في التسوية، يبدو مؤهلاًَ لتصاعد دوره لاسيما وأن الإصلاحات السياسية القادمة التي سينتهجها الأمير الجديد الشيخ صباح الأحمد ستتعامل مع هذا المجلس الذي اكتسب المزيد من القوة الشعبية والزخم سواء من الأسرة أو من الشعب الكويتي ليلعب دورًا أكبر في النظام السياسي الكويتي مستقبلاً.
ولاشك أن وجود مجلس تشريعي قوي يتمتع بثقة الأسرة الحاكمة والشعب من شأنه أن يزيد من أدائه البرلماني وقدرته على التشريع والرقابة، وهو ما يؤدي إلى وجود نوع من التوازن النسبي مع بقية السلطات وكلها أمور لاشك تؤدي إلى ترسيخ قواعد التجربة الديمقراطية في الكويت واستمرارها نحو آفاق أرحب لاسيما في العهد الجديد الذي يحمل توجهًا إصلاحيًا معروفًا به.
3- تأكيد شرعية الأسرة الحاكمة:
بالرغم من أن الكويت تتميز بأن حكامها من أسرة متماسكة إلى حد كبير، وليس بها أجنحة متصارعة أو مصالح متضاربة، كما أن شرعية الأسرة وشرعية الحكم تتمتع بمقاييس عالية وجذور ضاربة جدًا في عمق الزمن( )، بالرغم من ذلك فإن عملية انتقال السلطة أكدت مجددًا تنامي شرعية الأسرة الحاكمة في منطقة الخليج عمومًا وفي دولة الكويت خصوصًا، فقد بدا واضحًا حرص الشعب الكويتي على التمسك بأسرته الحاكمة والالتفاف حولها في الأزمات وما حدث من تضامن بين الشعب والأسرة خلال الأحداث الأخيرة كان شاهدًا على مدى الشرعية التي تتمتع بها أسرة آل صباح.
ولاشك أن تأكيد شرعية أسرة آل الصباح قد نبع من الموقف الذي أبدته في التعامل مع الأحداث السياسية.. فقد أثبتت مقدرتها ومرونتها والتزامها بالدستور في نفس الوقت حتى في الأوقات غير العادية، فقد جاء اجتماع شيوخ الأسرة في دار سلوى وقرروا تسوية الإشكالية من دون الزج بمجلس الأمة طوال السبعة الأيام الأولى، ومع أن أغلبية الأسرة قد بايعت الشيخ صباح أميرًا للبلاد إلا أنه فضل التريث حتى يتم التسوية في نطاق الأسرة وليس خارجها.
ومع التأكد من أن آلية العرف ليست كافية وحدها لتسوية الإشكالية اتجهت الأسرة إلى تفعّيل الآلية الدستورية، وفي هذا السياق كانت مجموعة من شيوخ الأسرة قد توافدت على دار سلوى لتأييد الإجراءات التي اتخذها مجلس الوزراء، وهو ما يعكس مدى المرونة التي تتمتع بها الأسرة، ورغم أن عملية اختيار الحاكم أو الأمير كانت تتم في نطاق الأسرة فإن الأسرة قد لجأت إلى تفعّيل قوانين توارث الإمارة داخل البرلمان.(
ولاشك أن هذه المرونة التي تتمتع بها الأسرة قد جاءت إدراكًا لوجود توافق شعبي جامع على ضرورة المعالجة السريعة للأحداث ومن ثم جاءت استجابة الأسرة مع ذلك التوافق ليشير إلى التلازم الموجود بين الحكم والشعب وهي أمور جعلت الأحداث التي مرت بها الكويت بمنزلة تجديد للعقد الذي أبرمه الكويتيون مع أسرة آل الصباح. (
رابعًا: ملاحظات ختامية
وفي ختام العرض السابق لعملية انتقال السلطة في الكويت يمكن الإشارة إلى مجموعة من الملاحظات الختامية الخاصة بهذا الأمر، وذلك فيما يلي:
1-إن عملية انتقال السلطة في الكويت وما حدث خلالها من أحداث تعد بمنزلة نقلة سياسية نوعية في اتجاه ترسيخ تجربة الديمقراطية في الكويت.. فهناك تطور جديد مهم طرأ على تلك التجربة يتمثل في زيادة دور الشعب الكويتي الذي يمثله مجلس الأمة المنتخب في اختيار حاكمه، وهو أمر جاء عبر توافق داخلي بين كافة الأطراف التي ساعدت في إحداث تلك النقلة السياسية النوعية.
2-إن التعامل العلني والشفاف مع الأحداث والتعقيدات التي حدثت جنب الكويت مواجهات سياسية ذا تكلفة عالية وكرس عقيدة الالتزام بالصيغة الدستورية السياسية واستقوت من خلال الأزمة صلابة الجبهة الداخلية وزادت فاعلية الدور المؤثر للتحاور والتفاعل بين المؤسسات والأسرة الحاكمة.
3-لاشك أن الكويت في إدارتها للأزمة قد حققت مكاسب مهمة سواء على صعيد نظامها السياسي أو صعيد مكانتها الإقليمية والدولية، حيث تفوقت الكويت على نفسها وهي تعبر تلك الأحداث واستطاعت أن تصنع لنفسها تاريخًا وتبوأت مكانة دولية بالنظر إلى قدرتها على إيجاد نظام توارث دستوري يحتكم فيه الجميع للدستور.
4-إن التسوية جاءت عبر تضافر الجميع من الأسرة الحاكمة إلى مجلسي الوزراء والأمة وسط توافق شعبي وثقة في عبور المرحلة في اتجاه الحل الأفضل، فقد تمت التسوية عبر التراضي داخل الأسرة الحاكمة من جانب، ومن خلال مجلس الأمة من جانب آخر، الأمر الذي أدى إلى احترام العرف من ناحية والدستور من ناحية أخرى فجاءت النتيجة مرضية للجميع.
5-إن ما حدث في الكويت يؤكد أن الدستور الذي يلتزم به الجميع وتحترمه كافة مؤسسات الدولة هو صمام أمان لأنه يساعد على تجنب الصراعات والخلافات، فالدستور كان بمنزلة صمام الأمان للدولة وآلية ومرجعية تضع حدًا للخلافات والأزمات وتجعل الجميع يبتعد عن التمترس والتخندق والاصطفافات وذلك بشكل سلمي وسلس، وكم كان لافتًا أن يجري كل شيء وسط حياة طبيعية عادية دون أي إجراءات استثنائية مثل إعلان الطوارئ أو نزول الجيش إلى الشارع أو حصول اضطرابات.. إلخ.
6-إن الأمر المهم الآخر هو أن ما شهدته الكويت من أحداث يعطي درسًا مهمًا على أن وجود قدر من التوازن بين السلطات في البلاد وترسيخ دور المؤسسات كفيل بأن يجعل المجتمع قادر على أن يعبر أي خلافات أو أزمات داخلية طارئة بسلام وبما يحفظ له أمنه واستقراره ويجنبه الصراع بين النخب.
7-بالرغم من أهمية تلك الخطوة فإن الأمل معقود على أمير البلاد الشيخ صباح على الاستمرار في مسيرة الإصلاح السياسي وترسيخ قواعد التجربة الديمقراطية ويأتي في مقدمة هذه الإصلاحات إعادة ترتيب بيت الحكم خاصة من ناحية وضع آلية تؤمن انسيابية هادئة لتوارث المناصب.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف