صفقة الإخوان ومصر (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نبيل شرف الدين من القاهرة: هذه الصفقة ينكرها طرفاها بشدة تصل إلى حد التشنج، وهذا منطقي لأنه ليس في مصلحة أي منهما الاعتراف بوجودها، فضلاً عن أن تراث قادة كل من الحزب الحاكم والجماعة المحظورة مع الأكاذيب ضخم، وخبرة الشعب المصري معهما مريرة، بالنظر إلى أن الكيانين يفترضان في هذا الشعب العته والغفلة، ويتصوران أن بوسعهما خداعه، مع أنه يمكن قمع هذا الشعب وتزييف إرادته ونهب خيراته، لكن لا يمكن خداعه، لأنه شعب "عجوز" تدرب منذ دهور على التعامل مع الطغاة المحليين والأجانب بطريقة أو أخرى، وبالتالي يفهم ما يدبر له .. ويصمت.
لكن قد تثور أسئلة مشروعة عن عناصر هذه الصفقة، وما يمكن أن تقدمه الجماعة المحظورة للحزب الحاكم في هذه الظروف ؟، وإذا كانت هناك صفقة فما الذي يدفع الحكومة لقمع مرشحي الإخوان في العديد من الدوائر، وما سر الهجمة الأخيرة التي اعتقلت خلالها أجهزة الأمن العديد من قادة الجماعة وعناصرها النشطة، والإجابة على تلك الأسئلة هي موضوعنا الذي نتعرض له هنا بالتفصيل، مؤكدين أن محتواه ليس مجرد تكهنات أو سيناريوهات افتراضية، بل هي معلومات موثقة .
تحييد واشنطن
البداية تعيدنا إلى كلمة السر لدى النظام الحاكم في هذه المرحلة، وهي باختصار "التمديد والتوريث"، وإذا كانت مهمة البرلمان المنتهية ولايته هي تمرير التمديد، فإن مهمة البرلمان الجديد هي تمرير "التوريث"، ولما كانت هذه المهمة أصعب من سابقتها، باعتبار أن التمديد لمبارك وأسلافه من العسكر جرى مراراً دون أدنى مشكلة، اللهم إلا صياح بعض المحتقنين في الشارع، لكن ما لم يحدث من قبل، ولا يمكن لكائن من كان التكهن بنتائجه هو "التوريث"، ومن هنا فقد اقتضى التخطيط له تحركات على عدة أصعدة، بعضها دولي، وآخر إقليمي، وثالث محلي، فالدولي يبدأ من واشنطن تحديداً، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، وبالعودة إلى يوم الثالث من آذار (مارس) عام 2004 حين بدأ جمال مبارك جولة أوربية شملت كلا من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا، التقى خلالها عددا من ممثلي المؤسسات السياسية في تلك البلدان ناقش معهم رؤية مصر للإصلاح في الشرق الأوسط، وخلال الجولة شرح جمال أهمية أن ينطلق الإصلاح من دولة مهمة إقليماً مثل مصر، وطالب بدعم الرؤية المصرية في هذا الصدد .
وقبيل جولته الأوروبية، وتحديداً في حزيران (يونيو) من العام 2003، كان جمال مبارك يرأس وفداً يضم مستشار أبيه أسامة الباز، وعدداً من قادة أمانة السياسات، يجوب عدة مدن أميركية ويلتقي شخصيات من الإدارة والكونغرس وجماعات الضغط ومراكز البحوث وغيرها، في زيارة طويلة عاد بعدها جمال مطمئناً تماماً إلى نجاح مهمته في إقناع واشنطن بتمرير خطة ولايته خلفاً لوالده، وهو ما عبر عنه جمال لاحقاً في كلمته أمام اجتماع الغرفة التجارية الأميركية الذي عقد في شهر أيار (مايو) من العام الماضي حين وصف العلاقات بين القاهرة وواشنطن بأنها "استراتيجية للطرفين"، وأضاف أن "الطرفين يدركان أن العمل معا يحقق صالحهما معاً, وأن الذين يراهنون على حدوث ازمة في العلاقات بين البلدين سيتأكدون من خطأ هذا الرهان تماما خلال الفترة المقبلة" .
بنود الصفقة
كان هذا عن التحرك على الصعيد الدولي لضمان تأييد أو على الأقل تحييد القوى الدولية تجاه عملية التوريث، وبقي الشأن المحلي، وهنا طُرح على مسؤول أمني رفيع سؤال عن القوة التي يمكنها تحريك الشارع وحشده خلال أقل وقت ممكن، وكان الجواب بالطبع أنه لا يوجد ثمة كيان بوسعه ذلك إلا جماعة الإخوان المسلمين، من هنا بدأ التخطيط للصفقة مع الجماعة، وخلص الفريق المكلف بهذه المهمة إلى ضرورة التفاهم سراً مع الجماعة، لكن بعد ممارسة الضغوط عليهم، فجرى إلقاء القبض أولاً على بعض رموزها البارزة منها مثل محمود عزت وعصام العريان وغيرهما، ثم كان انطلاق الاتصالات من خلال نائبين من الإخوان في البرلمان المنتهية ولايته مع قيادة حزبية بارزة ومسؤول يشغل منصباً رفيعاً، وبعدها انتقل ملف التفاهم السري مع الجماعة إلى قيادات حزبية برعاية أمنية، واتفق الجانبان على عدة ضوابط هي :
ـ أن يبقى هذا التفاهم سراً، ولا يجري تسريبه لوسائل الإعلام، مهما كانت نتائج الصفقة أو الظروف التي تحيطها، لأن إفشاءه ليس في مصلحة النظام ولا الجماعة .
ـ أن تلتزم الجماعة بالتهدئة فلا تشارك حركات الاحتجاج مثل (كفاية) في تسيير مظاهرات، وهو ما التزمت به الجماعة تماماً منذ ما قبل التعديل الدستوري الأخير .
ـ ألا تدعو الجماعة إلى مقاطعة الاستفتاء على التعديل الدستوري، كما اتجهت إلى ذلك أحزاب المعارضة، وهو ما حدث أيضاً والتزمت به الجماعة تماماً .
ـ ألا تدعو الجماعة إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وإن لم يلزمها الاتفاق باتخاذ موقف مؤيد أو مناوئ للرئيس مبارك، حفاظاً على صورة الجماعة في الشارع السياسي كتيار معارض، وحتى لا تثير تساؤلات حول الصفقة التي كان بعض المراقبين يشمون رائحتها، لكن لم تتوافر ثمة أدلة كافية للقطع بوجودها وإن كانت هناك شواهد عدة عليها، ومن هنا انقسمت آراء المحللين بين هؤلاء الذين يقطعون بوجودها، وأؤلئك الذين لا يستبعدون حدوثها بالنظر للشواهد السابقة، فضلاً عن السلوك البراغماتي لقادة "المحظورة"، الذي يسهل مهمة صفقات تحت الطاولة، وتبني عدة خطابات، واحد لأعضائها وآخر للرأي العام وثالث للغرف المغلقة .
ـ ألا تزاحم الجماعة قادة الحزب الوطني في الانتخابات البرلمانية، وإن حدث هذا يتم في أضيق نطاق ممكن، ومن باب درء شبهة التفاهم فقط .
ومقابل التزام الجماعة بهذه الضوابط، يفسح النظام المجال أمام مرشحيها لخوض الانتخابات، ويتم التغاضي عن مخالفات قانونية صريحة كرفع شعارات الجماعة رغم كونها محظورة، واللجوء إلى الدعاية الدينية لاستدرار مشاعر الناس، والتسامح مع حملاتها الانتخابية فلا تتعرض لقادتها بالاعتقال كما كان يحدث من قبل، بل على العكس جرى الإفراج قبل فتح باب الترشيح للانتخابات البرلمانية عن عزت والعريان وغيرهما، وهو السلوك الذي برره القائمون على مهمة التخطيط لتمرير التوريث بأن من شأنه أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد، على النحو التالي :
ـ أن إفساح المجال أمام مرشحي الإخوان يستهدف إقصاء ممثلي أحزاب المعارضة التي يحق لها الدفع بمرشحين لأي انتخابات رئاسية مقبلة، بينما جماعة الإخوان لا يحق لها الترشيح للانتخابات الرئاسية كونها جماعة "محظورة" وليست حزباً سياسياً .
ـ أن وجود هذا العدد من نواب الجماعة في البرلمان سيوفر غطاء أمام المجتمع الدولي وواشنطن بأن النظام غير سلوكه الاستبدادي، وتسامح مع المعارضة، مما يعني جديته في الإصلاح السياسي، مع الاطمئنان التام إلى أن هؤلاء النواب المائة لا يوجد بينهم شخص واحد يعترض على مسألة توريث الحكم، حسب الاتفاق مع الجماعة
ـ أن هؤلاء النواب سيتفرغون لمعارك مع وزيري الثقافة والإعلام حول كتاب أو رواية، أو حق المذيعات المحجبات في الظهور على الشاشة، وحتى في أسوأ الفروض والاحتمالات سوف يشتبكون مع وزراء الخدمات في الحكومة باستجوابات تتعلق بجودة الخدمات أو الفساد الإداري، وهي قضايا محلية لا يمانع النظام في إثارتها بين الحين والآخر .
ـ أن مجرد وجود هذه الكتلة من النواب الإسلاميين سيبعث رسالة إلى واشنطن والغرب عموماً مفادها "إما نحن أو هذا هو البديل"، ويجري استغلال وجودهم كفزاعة للمجتمع الدولي، وأمام التصعيد القبطي المطالب بحقوق الأقلية المسيحية السياسية واحترام حرية العقيدة، ومن ثم يجري إسكات الجميع، بالنظر إلى أنه إذا كان النظام سيئاً، فإن البديل أسوأ .
ـ أن هناك اتفاقاً بين الخبراء القانونيون بأن البرلمان الحالي لن يستكمل دورته، بسبب الطعون الموثقة التي قدمت للقضاء، والخاصة بالانتهاكات التي ربما يحكم القضاء بموجبها بعدم دستورية البرلمان ويقضى بحله كما حدث في برلمان عام 1990 وبالتالي فإن مهمة هذا البرلمان هي تمرير التوريث ثم حله، ومن ثم تبدأ مرحلة جديدة.