لبنان الأزمة إلى أين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سليم الحص: اختصرت الموضوع من مقال سطرته منذ بضعة أشهر، قلت فيه: مصير لبنان مرتبط عضوياً بمصير المنطقة . لذا فإن السؤال: "لبنان إلى أين"؟ يؤول بالضرورة إلى السؤال: "المنطقة إلى أين"؟ إن تلازم لبنان والمنطقة العربية مصيرياً عائد إلى جملة حقائق راهنة: منها أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه ولكنه أيضاً بلد عربي . كانت عروبة لبنان موضع جدل وتجاذب إلى أن حسم اتفاق الطائف المسألة بالتأكيد أن لبنان عربي الانتماء والهوية . فكون لبنان بلداً عربياً يجعل مصيره رهناً بمصير الأمة العربية، تماماً كما يكون مصير أي جماعة داخل لبنان رهناً بمصير الوطن اللبناني . ثم إن عروبة لبنان تُرجمت مع الزمن مصالح ووشائج على شتى الصعد ، اقتصادياً ومالياً وسياسياً وثقافياً وحتى سكّانياً وبشرياً . وهي تُختصر بمصطلح "العلاقة القومية". ولقد ظهر هذا التلازم جلياً في الأزمات الوطنية التي عصفت بلبنان منذ استقلاله ، متبدياً في بُعد إقليمي ناتئ في معظم تلك الأزمات .
فلا غلو والحال هذه في القول إن الإجابة عن السؤال : لبنان إلى أين ؟ تتوقّف إلى حدٍ بعيد على الإجابة عن السؤال : الأمة العربية ، وبالتالي ، المنطقة ، إلى أين ؟ وفي صوغ الإجابة نرانا مضطرّين إلى التمييز بين ثلاثة مشاهد افتراضية أو سيناريوهات : أولها يصوّر أسوأ الاحتمالات ، وثانيها يصوّر تعايشاً مع أزمات المنطقة ، وثالثها يصوّر أحسن الاحتمالات.
سيناريو أسوأ الاحتمالات :
كنا حتى وقت قريب نقول إن مصيرنا ، نحن العرب ، يُكتب في فلسطين . ولبنان مرتبط بفلسطين كما سائر العرب قومياً ، ويعزز هذا الارتباط كون لبنان محاذياً لفلسطين ومعرّضاً تالياً لتلقي تداعيات مآل القضية ربما أكثر من سواه. إلى ذلك فلبنان يستضيف 300 إلى 400 ألف لاجئ فلسطيني ، مصيرهم يتوقّف على مآل القضية ، ولبنان معني مباشرة بمصير هؤلاء وانعكاساته على أوضاع البلد الداخلية.
ولكن الشعب الفلسطيني أظهر ، منذ قرار تقسيم فلسطين في عام 1947 ، قدرة خارقة على الصمود ومواصلة النضال في وجه حرب غير متكافئة شنّتها وتشنها ضدّه أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط هي إسرائيل، مدعومة دعماً كاملاً وأعمى من جانب الدولة العظمى، أميركا، في شتى المجالات وعلى كل المستويات. هذا الواقع كان مدعاة اطمئنان لدى سائر العرب إلى أن الفلسطيني لن يستسلم ولن يفرّط في قضية فلسطين ، التي هي قضية العرب المركزية.
إلاّ أننا بتنا نقول ، منذ الاحتلال الأميركي للعراق ، أن مصيرنا نحن العرب إنما يكتب في العراق ، حيث أفضى الاحتلال إلى حال كارثية مأسوية تنعكس في مشروع فتنة يومية بين الفئات العراقية إثنياً بين عربي وكردي ، ومذهبياً بين سنّي وشيعي . ولـم يعد ثمة أدنـى ريب في أن مشروع الفتنة هو من صنع الاحتـلال. فمشروع الشرق الأوسط الكبير بدعـة أميركية، والطريق إليه هو اختراع أميركي آخر يُسمى "فوضى بنّاءة أو خلاّقة". والفوضى ، بنّاءة كانت أم خلاّقة ، إنما هي الاسم المستعار للفتنة التي يراد من ورائها تفتيت العراق كيانات إثنية ومذهبية تمهيداً لتعميم الفتنة في المنطقة ، بحيث لا يسلم منها بلد من بلدان المشرق العربي ، فتسهل إعادة لمّها في كيان جديد هو الشرق الأوسط الكبير أو الجديد ، تهيمن عليه الصهيونية من حيث أن إسرائيل ستكون الكيان الوحيد الذي سيبقى صامداً متماسكاً فلا يقع في أتون الفتنة التي تُدبّر للعرب .
في هذا السـيناريو لأسوأ الاحتمالات ، فإن لبنان لن يسلم من مغبّة انهيار الأوضاع في أقطار المنطقة العربية ، فتكون الحصيلة ، والعياذ بالله ، تفتيت لبنان كيانات فئوية.
سيناريو التعايش مع أزمة المنطقة:
سيكون في استطاعة لبنان تدارك أخطر تداعيات تدهور الأوضاع في المنطقة في حال وقوعه ، لا سمح الله ، إذا ما تمكّن من أن ينمّي مقومات التعايش مع أزمات المنطقة بحيث يكتسب قدراً من المناعة في وجه هبوب العواصف الوافدة من المحيط . ويكون ذلك بتوطيد بنيان الوحدة الوطنية اللبنانية على قواعد الوفاق الوطني . وهذا يفترض ، من جهة ، تنمية روح المواطنة في نفوس الأجيال اللبنانية ، ومن جهة ثانية ، التوافق على برنامج للإصلاح الشامل يكون مرساهُ تحصين الحرّيات العامة وتفعيل الممارسة الديمقراطية . والبداية تكون في قانون انتخاب جديد يضمن ديمقراطية التمثيل الشعبي وسلامة العملية الانتخابية.
في هذه الحال ، يتمكّن لبنان من تجاوز أخطر تداعيات الأزمات التي قد تحلّ بالمنطقة وتفضي، لا قدّر الله، إلى تفتيت الكيانات العربية. فيحفظ لبنان وحدته وكيانه. ولكن في ظل حال الشرذمة والانقسامات والتنابذ التي تطبع الواقع الوطني في لبنان هذه الأيام ، لا بد من طرح السؤال البديهي: هل سيتمكّن اللبنانيون من توطيد بنيان وحدتهم الوطنية على قواعد الوفاق الوطني، انطلاقاً من برنامج إصلاحي شامل يتوّج بتفعيل الممارسة الديمقراطية؟ إنه طموح مشروع ولكنه غير ميسور التحقيق في الأفق المنظور.
سيناريو أحسن الاحتمالات:
يُروّج في وسائل الإعلام لاحتمال أن تكون قوات الاحتلال الأميركي في العراق قد بلغت من الإخفاق والبلبلة ما جعل الإدارة الأميركيــة في موقع التفكير الجدّي في سحب قواتها من العراق ، ربما خلال سنة . ولن تستطيع ذلك من دون أن تحل محلّها قوات بديلة تساعد السلطة العراقية على استعادة الاستقرار.
وثمة رواية قيد التداول في وسائل الإعلام مفادها أن أميركا على استعداد للدخول في محادثات مع إيران حول الوضع في العراق . والمقدّر أن جدول أعمال المحادثات سـوف يتركّزعلى إنشاء قوات عربية أو إسلامية مشتركة ، على غرار قوات الردع العربية التي انتشرت في لبنان خلال أزمته الكبرى بقرار من القمة العربية في القاهرة عام 1976. ويهــم أميركا ،على ما يبدو ، أن تشارك سوريا في هذه القوات لغير ما سبب : فمن جهة كي لا توصم تلك القوات داخل العراق بأنها أميركية بلباس عربي ، نظراً لعلاقة بعض الأنظمة العربية بالإدارة الأميركية، وهذا ما لا ينطبق على سوريا التي تتعرض لضغوط ومضايقات مشهودة من الإدارة الأميركية.
ومن جهة أخرى فإن سوريا بقيت متميّزة بعدم التوقيع على تسوية منفردة مع إسرائيل ، خلافاً لمصر والأردن. لذا فالمشاركة السورية قد تُضفي على القوات المشتركة صدقية خاصة بين العراقيين . ولكن سوريا متحالفة في العمق مع إيران ، ولن تتولى دوراً عسكرياً في العراق لا يقترن برضا إيران التي تتمتع بنفوذ واسع في العراق خصوصاً بعد الانتخابات فيه.
في حال جرت المحادثات بين أميركا وإيران حول العراق ، وأفضت إلى إطلاق قوات عربية أو إسلامية مشتركة ، وشاركت فيها سوريا على وجه فاعل ، وفي حال اقترنت المبادرة العسكرية بمبادرة سياسية للتوفيق بين العراقيين على غرار ما كان في لبنان عبر لجنة عربية رباعية تم عبر مؤتمر الطائف ، فإن ذلك قد يُسهم في إعادة السلام والاستقرار إلى الربوع العراقية، فتسلم المنطقة العربية من مغبّة الفتن التي تدبّر للعراق ومن ثم للمنطقة ، وتستتب الأوضاع في سائر الأقطار العربية ، وكذلك في لبنان . ولا بد أن يترافق ذلك مع تصحيح العلاقة المأزومة حالياً بين لبنان وسوريا بإغضاء من أميركا ورضاها وربما بحضّ منها.
إذا تحقق هذا السيناريو ، وهو يفترض أحسن الاحتمالات ، فإن الأوضاع في لبنان يمكن أن تنقلب رأساً على عقب فتزول حال التأزم والانقسام والتنازع ، وتتوقّف تالياً التدخلات الخارجية في شؤون لبنان الداخلية في وجهها السلبي. في حال تحقق السيناريو الأخير ، القائم على أحسن الاحتمالات ، فإنّ الثمرة ستكون ازدهاراً ونمواً لا حدود لهما في لبنان ، وسيرتدّ هذا التطور إيجاباً على سائر أوجه الحياة والمعيشة في لبنان . فالبلد الذي استطاع تحاشي الانهيار في أسوأ الظروف ، سيكون قدره المحتوم تحقيق ازدهار فائق ونمو باهر إذا ما استتب الوضع فيه ومن حوله.
العبور من الشقاق إلى الوفاق، أيّاً يكن السيناريو المرجّح فلا غنى عن استعادة حال الوفاق الوطني بين اللبنانيين بحيث يكتسب لبنان القدر الحيوي من المناعة في مواجهة العواقب التي قد تهبّ رياحها عليه من الخارج، خصوصاً في حال رجحت كفّة السيناريو الأسوأ أو حتى سيناريو التعايش مع أزمة المنطقة. وكان يُعوّل على نجاح مبادرة الدكتور عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية في فتح آفاق جديدة لاستعادة الوحدة الوطنية التي تشكل مرسى أي وفاق وطني حقيقي في بلد كلبنان يتميز شعبه بالتعددية الفئوية الواسعة.
يبدو أنّ مهمّة الأمين العام لجامعة الدول العربية تعثّرت على اعتراضات متبادلة من المتخاصمين. والكُل مُتّهَم بالسـعي إلى إجهاض المبادرة التي قد لا يكون بعدها مبادرة فيترك لبنان بعدها، لا سـمح اللَّه ، نهباً لأهواء سـاسـة لبنان الذين يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من المسؤولية الوطنية ولا شاغل لهم إلاّ أنانياتهم.
الحكومة مِحور المشكلة في وضعها الشاذّ الراهن. والحكومة ، في شخص رئيسها وأعضائها جميعاً ، في راحة من أمرهم ، لا يعكّر صفوَ مزاجهم مُعكِّر ، وكأنما لا يعنيهم الخلل الفادح الذي حلّ بالوضع الحكومي، ولا يعنيهم كون الحكومة باتت في واقع الحال معطّلـة ، غير فاعلة ، وكأنّها غير موجودة . فالمسؤولون مُتهمون باللامسؤولية المتمادية.
والأكثرية النيابية لا ترى في الديمقراطية سـوى تحكيم العدد ، وهم لا يدركون أنّ عددهم لا يكفي لفرض رأيهم في كل الحالات ، ويتناسون أنّ العدد ليس مؤشّراً ديمقراطياً في حال كحالنا حيث تتحكّم بنتائج الإنتخابات عوامل غير مشروعة ومنها الفساد بما يلعبه المال من دور في شراء الذِمم وفي التحكم في توجهات وسائل الإعلام ، ومنها التحالفات التي تصنعها مصالح آنية عابِرة سرعان ما تتبدّل بعد المعركة الإنتخابية كما كان إثر الإنتخابات الأخيرة عام 2005. وقد برهنت الحشود الشعبية التي غصّت بها ساحات العاصمة وشوارعها في التظاهرات والاعتصامات التي نفّذت أخيراً أنّ الأكثرية النيابية قد لا تمثّل الأكثرية الشـعبية بالضرورة ، وبالتـالي فلا تطابُق بالضرورة بـين حكـم الأكـثـرية النيابية والحكم الديمقراطـي . فلماذا لا يقبلون بانتخابات نيابية مبكّرة على أساس قانون انتخاب عادل يؤمّن التمثيل الشعبي الصحيح ، وليكن الحكم عند ذاك للأكثرية ؟ هذا مع العلم أنّ ديمقراطية لبنان هي توافــقــية ولا يجوز أن تكون إلاّ توافقيّة في واقع لبـنان الديمغرافي الوطني . لو أنصفت الأكثرية النيابية لأقلعت عن تعنّتها العَبَثي ، وسلّمت بالمشاركة الحقيقية مع الآخرين .
ليس من الضروري مبدئياً تشكيل حكومة وحدة وطنية كما تطلب المعارضة. فالديمقراطية تقوم على وجود حكومة ومعارضة. وحكومة الوحدة الوطنية لا تشكّل عادةً إلاّ إثر الحروب أو الأزمات الوطنية الحادة ، ونحن خارِجون من حرب ماحِقة شنّت علينا وما زِلنا نعيش أزمة وطنية عنيفة منذ سنتين. فمن الطبيعي التفكير في حكومة وحدة وطنية من أجل طَيْ صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة. أما أن تكون حكومة الوحدة الوطنية سبباً لشلّ البلاد وإثارة الحزازات المذهبية الرخيصـة وتهـديد الوحدة الوطنية وبالتالي الوجود الوطني ، فهذا يحدونا إلى القول: لا كانت حكومة وحدة وطنية ولنعد إلى قاعدة الحكومة والمعارضة كما في أي نظام ديمقراطي في الأحوال العادية.
المعارضة إذ تتشبّث بصيغة حكومة الوحدة الوطنية بأي ثمن متهمة بالتفريط في سمعة المقاومة وتراثها الذي بنته في الانتصار المشرّف على العدو الإسرائيلي الغاشم. وهي لن تعدم وسيلة للحفاظ على مكانتها المتميّزة في المجتمع اللبناني وصون دورها الوطني في التزام موقع المعارضة البنّاءة الفاعلة. وهي إن فعلت فسيكون لها فضل الإسهام في استعادة المجتمع استقراره واطمئنانه ، وفي استعادة الإقتصاد الوطني نشاطه وحيويته. وهــذا دون التــخلّي عن حقّّها في مناقشة النصّ المقترح لتنظيم المحكمة الدولية.
أما إشادة الإدارة الأميركية شبه اليومية بالحكومة اللبنانية فنحن نأخذها على محمل الإدانة لحكومتنا على خضوعها لمشيئة دولة عظمى عرفت بانحيازها الأعمى إلى عدو لبنان والعرب إسرائيل ، وقد ظهر ذلك جلياً في دخول أميركا شريكاً لإسرائيل في حربها على لبنان ثم في محاصرته. والدعم الذي تلقاه حكومتنا من سائر الدول الأوروبية والعربية ما هو إلاّ تعبير عن انصِياع تلك الدول للهيمنة الأميركية على وجه ملحوظ.
في ضوء كل هذه الاعتبارات كنا نتمنى على الحكومة والمعارضة على السواء التجاوب الكلي مع مبادرة الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور عمرو موسى لإنهاء الأزمة المتمادية التي تدمّر الحياة الوطنية وتكاد تُبدّد آمال الشعب في مستقبله ومستقبل وطنه .
مبادرة خاصة لتسوية الأزمة.
لم أكن شخصياً من الذين التقاهم أمين عام جامعة الدول العربية الدكتور عمـرو موسى أو الذين إستمع إليهم . وهذا من حقه . ولكن من حقي ، كوني مواطناً مسؤولاً ، وكوني أميناً عاماً للقوة الثالثة المعروفة بمنبر الوحدة الوطنية ، أن أدلي برأيي في الأزمة المستحكمة والحلول المطروحة لها ، لا سيما وأنها بلغت من الاستعصاء ما بات ينذر بأوخم العواقب على وحدة الوطن وبالتالي وجوده . الدكتور عمرو موسى لا يقول إن المبادرة العربية في جولتها الأولى فشلت . ولكنها بكل تأكيد لم تنجح . ونحن نتمنى أن يعود إلى بيروت فيستأنفها.
للأزمة وجهان متداخلان: مشروع المحكمة الدولية لمحاكمة الجناة في جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري ، ومشروع تشكيل حكومة وحدة وطنية.
حول مشروع المحكمة الدولية نقول: ثمة إجماع بين اللبنانيين أن المحكمة الدولية يجب أن تُنشأ بالاتفاق مع الأمم المتحدة ، ولكن هناك نصاً مطروحاً لتنظيم أعمال المحكمة يستثير تساؤلات ويستوجب نقاشاً. إننا ندين إصرار الحكومة على سلق المشروع وعدم إتاحة المجال لدراسته ومناقشته فتسرّعت بطرحه للتصديق عليه في مجلس الوزراء. قمت شخصياً بزيارة رئيس مجلس الوزراء ، عشية انعقاد مجلس الوزراء في 25/11/2006 للتصديق على النص المقترح من الأمم المتحدة ، وطلبت إليه إرجاء موعد انعقاد الجلسة بضعة أيام وفتح باب الحوار حول النص المطروح خارج مجلس الوزراء ، حتى إذا ما توصل إلى تفاهم مع المعارضة حول نص معين لتنظيم المحكمة دعي مجلس الوزراء للتصديق عليه.
وفي حال تمّ ذلك ربما يزول اعتراض رئيس الوزراء على تشكيل حكومة وحدة وطنية فيتحقق الحل للأزمة الناشبة جذرياً ، ذلك لأن رئيس الوزراء قال يوماً إنه لا يريد تشكيل حكومة تحتوي على ثلث ضامن خوفاً من تعطيل مشروع المحكمة . فإذا ما تمّ الاتفاق على مشروع تنظيم المحكمة لا يعود هناك مثل هذا الحذر فتنقضي الأزمة الحكومية . ثم إنه لم يكن ثمة داعٍ للعجلة المتناهية فـي بت الموضوع ، فلو صُدق النص المطروح خلال أربع وعشرين ساعة ، ولو شكلت المحكمة خلال ثماني وأربعين ساعة، فماذا كانت سـتفعل ؟ لن تجد المحكمة ما تفعله ، باعتبار أن ليس هناك حتى اليوم ملف اتهام أو ظن أو إدانة في حق أحد . فتأخير بتّ المشروع بضعة أيام قد يفيد ولكنه حتماً لن يكون سبباً لأي ضير . ولكنني للأسف لم أجد عند رئيس الوزراء أذناً صاغية.
إن استحداث المحكمة موضوع محسوم مبدئياً بإجماع اللبنانيين . أما تنظيمها فيمكن بتّه بتشكيل لجنة مشتركة من الحكومة والمعارضة وبعض المحايدين . ولا بد من مناقشة النص المقترح نظراً لوجود مخاوف من استغلال بعض مضامينه لممارسة الكيد السياسي دولياً في حق قيادات لبنانية وعربية ، وهذا لا يمكن إسقاطه من الحساب في ضوء ما تمارس قوى دولية عظمى من سياسات غير موضوعية وغير مشــروعة على أوسع نطاق في المنطقة ، وفي جملة ذلك تدخل في شـؤون لبنان الداخلية بلا حدود.
أما موضوع حكومة الوحدة الوطنية فقد قلنا في السابق ونقول اليوم: ليس من الضروري تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم مختلف أطراف الســاحة السياسية. فصيغة الائتلاف في تشكيل الحكومات ليست هي القاعدة وإنما هي الاستثناء. ففي الممارسة الديمقراطية يكون هناك عادة سلطة وفي المقابل معارضة. ولا تجتمع القوى المتعارضة في حكومة واحدة إلا في حالات استثنائية ، وبخاصة إثر حروب أو أزمات وطنية . فتشكل حكومة الوحدة الوطنية من ائتلاف القوى المختلفة من أجل طيّ صفحة الماضي ومسح رواسـب الحروب أو الأزمات ومن ثم فتح صفحة جديدة وشق آفاق التغيير والإصلاح تأسيساً لغدٍ أفضل.
وكان هذا هو مبرر المطالبة بإنشاء حكومة وحدة وطنية في لبنان ، فكان تعذر إنشائها سبباً لأزمة وطنية مستحكمة باتت تنذر بأوخم العواقب ، خصوصاً بعد أن عمد أفرقاء معيّنون إلى استثارة النعرات المذهبية الرخيصة في الترويج لمواقفهم. نحن خارجون من حرب ماحقة شنتها إسرائيل علينا فدامت نحو الخمسة أسابيع ، واعقبها حصار خانق دام نحو الثلاثة أسابيع. وكانت الحرب كما الحصار بمشاركة مباشرة وسافرة من الإدارة الأميركية .
إلى ذلك ، فنحن نعاني من أزمة وطنية عنيفة منذ سنتين ، انطلقت بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي وتمديد ولاية رئيس الجمهورية في اليوم التالي. فانقسم اللبنانيون فريقين لا كلام بينهما ولا سلام ولا حوار ولا من يتحاورون. وتخلل مسـار الأزمة أحداث جسام ،أهمها زلزال وقع باغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات العربية السورية من لبنان ثم حرب شعواء ماحقة شنتها إسـرائيل ومن ورائها الدولة العظمى أميركا، على لبنان.
هكذا بعد حرب ضارية وأزمة متفاقمة مازلنـا نعاني من تداعياتها حتى اليوم ، كان من الطبيعي أن يطالب البعض بحكومة وحدة وطنية من أجل طي صفحة وفتح صفحة جديدة . فـإذا بنا أمام أزمة مستعصية لا تتيح فرصة لطي صفحة أو فتح صفحة جديدة . والعقدة التي استعصت على الحل تركّزت في شكل أساسي على المشاركة في الحكومة شكلاً وحجماً. فطُرحت فكرة الثلث المعطل فرُفضت على أساس أن وجوده سوف يستغل لتعطيل قرارات الحكومة وبالتالي شلّ أعمالها .
هذا مع العلم أن الحكومة القائمة كانت على هذا النحو عند تشكيلها ، إذ كان تسعة من أعضائها، أي واحد أكثر من ثلث مجموع عدد الوزراء، من خارج دائرة الأكثرية النيابية. ولكن هذه الصورة تبدلت مع الوقت بفعل نوازع ومصالح شخصية عند بعض الوزراء المحسوبين على رئاسة الجمهورية.
وطرحت صيغة توفيقية تحت شعار "لا لاستئثار الأكثرية ولا لتعطيل المعارضة" عبر معادلة تعطي الأكثرية وزيراً واحداً أقل من الثلثين (19 وزيراً من أصل 30) وتُعطي المعارضة وزيراً واحداً أقل من الثلث المعطل (10 وزراء من أصل 30)، ويبقى مقعد وزاري يخصص لمحايد سمي الوزير الملك. فكان التعجيز في اختيار الوزير الملك.
وطرحت صيغة المناصفة، أي 15 وزيراً للأكثرية و15 وزيراً للمعارضة، شريطة صرف النظر عن موضوع رئاسة الجمهورية وموضوع المحكمة الدولية. وهذا ما سمعته شخصياً من رئيس مجلس الوزراء في لحظة من اللحظات إذ أبدى استعداده لتقبّل هذه الصيغة.
ولكن في المحصلة غلب منطق الإصرار على الاسـتئثار عند الأكثرية ومنطق الإصرار على حق النقض عند المعارضة ، فكان أن وصلت المبادرة العربية إلى طريق مسدود.
أمام هذا الواقع المتأزم ، والذي ينذر بأخطر العواقب ، وبخاصة في ظل استمرار البعض واستسهالهم امتشاق سلاح المذهبية الرخيصة والفتاكة ، كان لا بد لنا ، كقوة ثالثة، في إطار منبر الوحدة الوطنية، أن نطرح مبادرتنا ، وقوامها:
أولاً ، ندعو رئيس الجمهورية أن يعلن ، على الوجه الذي يراه ملائماً دستورياً ، أن الحكومة القائمة ، بعد أن فقدت شرعيتها ودستوريتها سنداً للفقرة "ي" من مقدمة الدستور ونص المادة 95 من الدستور ، وبعد أن ارتكبت خرقاً دستورياً صريحاً بمخالفة نص المادة 52 من الدستور في التعاطي مع مشروع المحكمة الدولية ، أضحت (أي الحكومة) في حكم المستقيلة ولم تعد تستطيع سوى تصريف الأعمال بأضيق المعاني . هكذا يعترف رئيس الجمهورية بوجود حكومة تصرف الأعمال فيوافق على ما يصدر عنها في هذا الإطار.
ثانياً ، ندعو المعارضة إلى الإقلاع عن المطالبـة بحكومة وحدة وطنية ، وبالترفع تالياً عن المشاركة في الحكم والركون إلى موقع المعارضة البناءة لحكومة فقدت شرعيتها ودسـتوريتها وأضحت في حكم المسـتقيلة بحيث تقتصر أعمالهـا بالضرورة علــى تصريف الأعمال . على أن تعود المقاومة إلى الاعتصام بموقع التصدي للتهديد الصهيوني.
ثالثاً ، تستمر المساعي لتصحيح الوضع الحكومي بمنأى عن أية أعمال تصعيدية أو أية ممارسات من شأنها المس بالنشاط الاقتصادي والاجتماعي العام أو شلّه أو حتى عرقلته.
رابعاً ، يُتّفق على آلية لإعادة تشكيل المجلس الدستوري. فقد أحدث غيابه فراغاً رهيباً في الحياة العامة في لبنان ، والحكومة مسؤولة مع المجلس النيابي عن هذا التقصير الفادح.
خامساً ، ندعو رئيس مجلس النواب إلى إحياء مؤتمر الحوار الوطني بعد توسيع إطار التمثيل فيه ، فيؤمن هو حلقة الاتصال المفقودة حالياً بين أطراف النزاع ويقوم بدور المتابعة لتطبيق كل ما سلف على قاعدة التوافق حتى الوصول إلى تصحيح الوضع الحكومي . ويكون على جدول أعماله بطبيعة الحال سائر القضايا العالقة ، ومنها قانون الإنتخابات النيابية والإنتخابات المُبكرة والتوافق على رئيس مُقبل للجمهورية والملف الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي.
هذه المبادرة ، في حال اعتمادها بالتوافق بين أطراف النزاع السـياسـي المتأجج ، بالتزامن مع حسم موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي ، من شأنها أن تضع البلاد على مسار الحل الجذري للأزمة . علماً بأن الحل من التعقيد بحيث لا يرتجى أن يتحقق بقرار بل عبر مسار، والمسار مقاربة لها عناصرها المتداخلة والمتكاملة كما لها محطاتها المتتالية . وهذا ما كان المتوخى من المبادرة التي أطلقناها.
إننا نطرح هذه المبادرة مع علمنا بأن معظم ساسة لبنان لم يعد قرارهم في يدهم . ونحن سنكون سعداء بأن يثبتوا العكس بتجاوبهم مع هذه المبادرة .
أي آفاق للحل
كل من يعمل على إنجاز الحل الناجع للأزمة اللبنانية ، لا بل من يحاول التوصل إلى تسوية توفق بين المواقف والرؤى المتضاربة ، لا يفوته أن يدرك ، في ظل الـواقع الراهــن، جملة حقائق:
فمن جهة ، بلغت الأزمة حدود المأزق الوطني المستعصي . فأطراف النزاع السياسي باتوا أسرى لمواقفهم المتعنّتة المعلنة ، فأضحت المواقف بمثابة المتاريس ، وكل فريق قابع وراء متراسه لا يقوى ، أو لا يتجرّأ ، على التزحزح عنه قيد أنملة. والوفاق لن يتحقّـق إلا بتسـوية لا تستقيم إلا بتنازلات متبادلة. فالمأزق الوطني بهذا المعنى هو حاصل جمـع مآزق الأطراف كافة:
الحكومة في مأزق بعد خروج فريق وازن منها ، ففقدت التوازن الفئوي الذي قامت عليه أساساً. والتوازن الوطني في الحكم من مقومات المشاركة الوطنية الحقيقية ، التي لا تكتمل من دونها عناصر العيش المشترك في الحياة العامة وبالتالي مرتكزات الوحدة الوطنية . فالفقرة "ي" من الدستور اللبناني تنص صراحة على أن لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.
والمادة 95 منه تنص على تمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، وكلا الشرطين أضحى مفتقداً بعد خروج فريق وازن من الحكومة. هذه التحركات على ضخامتها لم تُجدِ فتيلاً ، فهي لم تزحزح الحكومة عن موقفها ، وكأن شيئاً لم يكن. فإذا بأصوات ترتفع في صفوف المعارضة تدعو إلى مزيد من التصعيد بشتى الوسائل السلمية. مع ذلك فإن قادة المعارضة يدركون أن ليس ما يضمن أن أية خطوات تصعيدية ستكون كفيلة بتحقيق المبتغى ، أي إسقاط الحكومة ، خصوصاً في كنف حالة استعرت فيها العصبيات المذهبية والطائفية.
ومن جهة ثانية ، بات واضحاً أن معظم من يسمون أنفسهم من أهل القرار في لبنان لم يعد القرار في أيديهم . إن مفاتيح القرار اللبناني في قبضة القوى الخارجية المؤثرة في الساحة الداخلية . بعض قادة الرأي يعيرون آذانهم للدولة العظمى أميركا ، وبعضهم لفرنسا، وبعضهم لسوريا أو لإيران أو لكليهما ، وبعضهم لدول عربية معيّنة . فكيف يمكن والحال هذه التوفيق بين المواقف المتعارضة وقرارات القوى المتخاصمة في الخارج ؟ هذا مع العلم أن بين قادة بعض القوى من هم على علاقة ودّية مع مراجع خارجية دون أن تبلغ هذه العلاقة حدود الارتهان. فقيادة المقاومة مثلاً اكتسبت نتيجة الحرب الغاشمة التي شنّتها إسرائيل ، ومن ورائها أميركا، على لبنان من الوزن والمكانة في العالمين العربي والإسلامي ما جعلها مسموعة الصوت لدى قوى خارجية تقيم معها علاقات طيبة.
لعل الدول الصغيرة في سائر أرجاء الدنيا معرضة بطبيعة الحال لتدخلات متفاوتة مماثلة من جانب القوى الكبرى. إلاّ أن لبنان معرض على ما يبدو للتدخلات الخارجية إلى مدى أبعد من سواه. وذلك عائد في نظرنا إلى أن هذا البلد الصغير يتمتع بحجم استراتيجي إقليمياً ودولياً أكبر كثيراً من حجمـه الجغرافي أو حجمـه الديمغرافي، فحجم لبنان الجغرافي والديمغـرافي لا يتجاوز فعلياً امتداد حي في مدينة كبرى مـن دول الغـرب مثل نيويورك أو لـوس أنجـلوس أو باريس أو لندن.
فمساحة لبنان الجغرافية توازي نحو العشرة آلاف كيلو متر مربع، وتعداد سكانه المقيمين لا يتعدى 3،5 إلى 4 ملايين نسمة. أما حجم لبنان الاستراتيجي فمرتبط بعوامل خاصة من مثل موقعه الجغرافي على مدخل منطقة ذات قيمة استراتيجية متميّزة، وكذلك مجاورته إسرائيل التي تحظى بعناية استثنائية من جانب دول عظمى وكبرى، وكذلك الانتشار الاغترابي اللبناني المتميّز في شتى أرجاء العالم ولا سيما في الأقطار العربية الشقيقة ، وكذلك الأنموذج السياسي المتميز الذي بناه اللبنانيون على قواعد الحرية والانفتاح والتعددية الثقافية التي حقّقوها . كل ذلك جعل لبنان محل اهتمام خاص من جانب قوى دولية. كما أسهم في تشتيت ولاءات اللبنانيين إقليمياً ودولياً ، فإذا بالثمرة المُرّة تبعثر القرار السياسي وتكرّس ارتهانه إلى الخـارج إلى حدٍ ملحوظ .
ومن جهة ثالثة ، فإن العصبيات المذهبية والطائفية والمناطقية بعثرت صفوف اللبنانيين ، فلم يعودوا يتصرفون كشعب بل كقبائل ، وقبائل العصر في لبنـان تُسمى طوائف. والمعروف أن الطائفية باتت تشكل آفة لبنان الأولى ، وهي تُستغلّ من قبل قوى خارجية لخدمة أهداف إقليمية ودولية معينة. وتجاوز الحالة الطائفية أضحى في أولية القضايا الوطنية كما ينبئ اتفاق الطائف ومن ثم المادة 95 من الدستور بعد تعديله لاستيعاب مندرجات الطائف.
هكذا أضحى لبنان أشبه بساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية ، الأمر الذي أضفـى على أزمات لبنان مزيداً من التعقيد والاستعصاء والتشابك مع مصالح إقليمية ودولية.
مع تعسّر الجهود المبذولة لتسوية الأزمة داخلياً ، أضحى الشعور السائد بيـن اللبنانيين أن أزمتهم لن تبلغ مرحلة الانفراج الحقيقي إلا بتوافق القوى الخارجية الفاعلة على الساحة اللبنانية ، أي بتسوية العلاقات أقله بين أميركا وفرنسا وسوريا والمملكة العربية السعودية ومصر وإيران. والسؤال يبقى مطروحاً: هل يمكن إنجاز مثل هذه التسوية الإقليمية الدولية من دون حلّ ناجع لقضية العرب المركزية ، قضية فلسطين ، بما هي قضية أرض مغتصبة وقضية شعب مشرّد ؟ بعبارة أخرى : هل يكون الحل الجذري لقضية لبنان من دون حلّ جذري لقضية فلسطين التي يتوقف حلّها على تنفيذ فعال للقرارين الدوليين 194 الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة عــام 1948 والقرار 242 الصادر عن مجلــس الأمن الدولي عام 1967 ؟ وأين هو المجتمع الدولي اليوم من تنفيذ هذين القرارين المحوريين واللذيـن انقضى على صدورهما عشرات السنين ؟ إننا نرى الأمم المتحدة ، بقيادة الدولة العظمى وحلفائها ، تصرّ على تنفيذ قرارات صدرت بالأمــس أو منذ أشهر وتتجاهل قرارين يعودان إلى عام 1948 وعام 1967. يـا للمفارقة . أين هي العدالة الدولية ؟
أخيراً، لا قيامة للعرب إلا باتحادهم. نحن العرب أولـى بالاتحاد من الأوروبيين. فنحن تجمعنا لغة واحدة ، بينما الاتحاد الأوروبي يحتضن خمس وعشرين لغة، ويجمعنا ثقافة وتراث مشتركان بينما أوروبا تحتضن تعداداً واسعاً في الثقافات، وتاريخ أوروبا تاريخ حروب عالمية، كان منها الحربان العالميتان الأولى والثانية في القرن العشرين. ويجمعنا نحن العرب مثل ما يجمع الأوروبيين من مصالح متبادلة ووعي بالمصير المشترك. لذا نقول إننا أولى بالاتحاد من الأوروبيين. ونحن في لبنان نحلم بأن يتحصن المصيــر العربي بالاتحاد بين العرب تدرجاً ، كما توحي التجربة الأوروبية ، من إقامة سوق مشتركة، فتتطور إلى منطقة اقتصادية حرّة ثم إلى اتحاد ذي أبعاد وخصائص سياســية على غرار ما كان في أوروبا ، ونحلم بأن تكون بيروت بروكسل العرب، أي عاصمة الاتحاد.
محاضرة ألقيت بمناسبة الموسم الثقافي لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ، إمارة أبو ظبي ، تاريخ 9/1/2007.