الجاسوسية بين مصر وإسرائيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أربعة قواسم مشتركة في قضايا التخابر الأخيرة
جواسيس الحرب والسلام بين مصر وإسرائيل
لكن بداية يلزم هنا التنبيه، بألا نصدق الناعقين في المآتم الذين يختزلون الأمر، فيما يصفونه بابتعاد الناس عن الله، فدائمًا كان هناك من يبتعدون عن ربهم ومن يقتربون، غير أن تجار السماء، وفقهاء السوء، يتجاهلون حقيقة تاريخية مؤداها أن "الناس على دين ملوكهم"، وأخرى تقول إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
كما لا ينبغي لنا أن نصدق أيضًا أولئك الذين يلصقون كل الكوارث بالفقر، ويجعلون من الفقراء أشرارًا محتملين، فطالما كان هناك فقراء طيبون مع التسليم بأن الفقر لم يكن يومًا مكرمة، أو مما يمكن للمرء أن يفخر به، أو يرتضيه.
إذن، دعونا نعترف بشجاعة، ومن دون مكابرة أن القصة بمنتهى البساطة، هي أن مصر باتت تعاني أزمة حقيقية في أعز ما تملك وهم أبناؤها، فرغم كل الأغنيات وأحاديث الأمنيات والتصريحات الرسمية التي تتغزل "في عمق" انتماء المصريين لوطنهم، وتعلقهم به إلى حد الهيام.
نعم كان الأمر هكذا ذات زمن أو أزمنة ولت، لكن الأمر لم يعد هكذا الآن، فقد أصبح بيننا في مصر من يقدم ولاءه لمعتقده على ولائه لوطنه، ويعتبر "الماليزي المسلم" خير وأحب إليه من ابن جلدته القبطي المصري، وبيننا من يقدم ولاءه لجماعته أو لحزبه أو حتى لفكرته، على عمق القاسم المشترك بينه وبين الآخرين من مخالفيه، وفوق كل هذا بيننا ـ أو بتعبير أدق صار معظمنا ـ ممن يضعون أنفسهم أولاً وبعد ذلك فليأت الطوفان الذي لا يبقي ولا يذر... وراجعوا مثلاً تجربة رؤساء تحرير الصحف الحكومية البائدين والقاعدين.
هذا المناخ المسموم لابد أن يفرز بين الحين والآخر بثورًا من نوع "جواسيس السلام"، الذين يجسدون كل شرور المجتمع في أعماقهم، بدءًا من الأنانية، والعدوانية، والنفاق، وصولاً إلى عدم الاكتراث بجوهر أي قيمة إنسانية نبيلة، ما دام يحتفظ بمظهر اجتماعي براق.
ولعلها تلك الأزمة التي تحدث عنها الدكتور أحمد عكاشة في ندوة بعنوان "رؤية نفسية لأحوالنا"، التي شهدتها فعاليات منتدى الحوار في مكتبة الإسكندرية، وقد وجه خلالها أستاذ الطب النفسي ورئيس الاتحاد العالمي للأطباء النفسيين بعد رصد وتحليل عميقين رسالة نصح وإنذار، مؤكدًا على تفاقم الأزمات في المجتمع المصري، ورغم ذلك لا يزال المجتمع عاجزًا عن الإتفاق على حلول، وأكد أن أبشع ما يصيب الإنسان إحساسه بالعجز، كما أعرب عن أسفه لوجود ما وصفه بدقة بأنه "ثقوب واسعة في الضمير العام المصري"، على حد تعبيره.
لكن وبعيدًا عن هذه الصورة القاتمة السابقة، فإن الدكتورة سامية خضر صالح تدعو في كتابها المهم عن "الشخصية المصرية" إلى جيل يحمل في صميم شخصيته قيمة التمسك بالهوية المصرية، والتفاعل السياسي الذي يثير الفكر والهمة ويعمق مشاعر الهوية مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في علاج الخلل الاجتماعي الموجود في المجتمع المصري، ومحاصرة قضية البطالة، ومصادر القلق والخوف من المستقبل حتى لا يصاب المجتمع بالعجز النفسي نتيجة تراكم المشاكل المادية والاجتماعية.
جواسيس الحرب والسلام
قبل 28 عامًا، وتحديدًا في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1979 وقع أنور السادات ومناحيم بيجن بحضور الرئيس الأميركي جيمي كارتر معاهدة السلام، لينهيا فصلاً من الصراع المسلح الدامي بين مصر وإسرائيل استمر أكثر من ثلاثين عامًا، هدأت بعدها أصوات الطائرات، وصمتت المدافع، لكن حربًا من نوع جديد كانت قد بدأت... ولم تتوقف بعد...
أبطال هذه الحرب أسماء لا تعني الكثير للناس، حكاياتهم هي الأهم، فما معنى أسماء مثل: عامر سليمان إرميلات، وسمير عثمان أحمد علي، وعبد المنعم علي حامد، وعماد عبد الحميد إسماعيل، وشريف الفيلالي، ووليد لطفي، ومحمد عصام غنيم العطار، وأخيرًا المهندس محمد سيد صابر .. ما معنى هذه الأسماء ؟، الجواب لا شيء...
المهم أنه منذ نحو أكثر من ربع قرن من الزمان والجواسيس يتساقطون في القاهرة، ففي عقد التسعينات وحده ألقت أجهزة الأمن القبض على زهاء عشرين جاسوسًا وفقًا لتقديرات مراقبين، ولعل فائقة مصراتي ووالدها كانا أول هذا العقد المسموم، غير أن المهندس محمد سيد صابر بالتأكيد لن يكون آخره، وبين الحالتين أسماء كثيرة يضيق بها الحال والمجال.
ويرى أمين هويدي، الرئيس الأسبق للمخابرات المصرية أن هذه القضية الأخيرة بمثابة رسالة ذات مغزى واضح وجهتها المخابرات المصرية للموساد الإسرائيلي، أكدت فيها يقظتها، وذكرتها بجولات إمتدت عبر ما يزيد على ستين عامًا من حرب المخابرات بينهما، منذ سقوط بولاند هارس أول جاسوسة إسرائيلية ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض عليها في 14 أيار (مايو) عام 1948، وأطلق سراحها في 22 أيلول (سبتمبر) عام 1978، وهنا تجدر الإشارة إلى أن جهاز المخابرات العامة قد ضبط خلال الفترة من عام 1967 وحتى 1973 ثلاثين قضية تجسس إسرائيلية ضد مصر، بلغ عدد المتهمين فيها 43 مصريًا وأجنبيًا، وصدرت بحقهم أحكام قضائية (13 إعدام 16 أشغال شاقة، 24 بين 3 - 15 سنة )، وكانوا معظمهم جواسيس قامت إسرائيل بدفعهم إلى جمع المعلومات عن المنشآت العسكرية، والبنية الاقتصادية المصرية، ومن أبرزهم قضية الجاسوسين هبة سليم وفاروق الفقي، التي استند سيناريو فيلم "الصعود إلى الهاوية" إلى قصتهما، وقضية عامر سلمان، وهو من بدو سيناء جرى تجنيده عام 1982 عن طريق ضابط مخابرات إسرائيلي، وظل سلمان يعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية أكثر من عشرة أعوام حتى ضبطته المخابرات المصرية، وأحالته إلى المحكمة التي قضت بسجنه مؤبدًا.
نموذج آخر من جواسيس السلام هو سمير عثمان علي، الذي كان قد أنهى عمله في إحدى الجهات المهمة، وخلال بحثه عن فرصة عمل، سافر إلى العراق أثناء الحرب مع إيران والتحق بالجيش الشعبي العراقي، وتدرج في التنظيم السري لحزب البعث حصل على لقب "رفيق"، كما رُقّي إلى رتبة الملازم أول، ونقل للعمل في المخابرات العراقية، وتبدلت الأحوال، فالسيارة والسائق الخاص والراتب الضخم والصلاحيات.
ولأن دوام الحال من المحال في ظل حكم صدام حسين، فقد انتقل سمير إلى تركيا، وفور وصوله إلى أنقره، إتجه مباشرة إلى السفارة الإسرائيلية، ومنذ تلك اللحظة سقط في شباك "الموساد"، وعاد إلى مصر لينفذ التكليفات المطلوبة منه، ولأنه مدرب جيدًا على الغوص، فقد اختار طريقة مبتكرة للاتصال بالموساد، إذ كان يذهب إلى "طابا" ويقيم بفندق هيلتون، ثم يذهب إلى الغوص تحت الماء فلا يطفو إلى السطح إلا في "إيلات" وهناك يكون ضباط الموساد في انتظاره، ويعود بالطريقة نفسها، وكان يمكن أن يستمر سمير هكذا أعوامًا، لولا معلومات وردت إلى المخابرات العامة عن شبهات تحيط به، فراقبته قبل أن تلقي القبض عليه.
وبعيدًا عن تاريخ حروب المخابرات بين مصر وإسرائيل، فالملاحظ هنا أن جواسيس هذا الزمان من طراز مختلف تمامًا عن الصورة النمطية القديمة التي اعتدنا قراءتها في روايات الجاسوسية، أو مشاهدتها في السينما... ليس فقط لأنهم أبناء عصر مختلف، لم تسجل العدسات كافة ملامحه بعد، ولم تدون الرواية كثيرًا من تفاصيله، لكن لأن هذا الزمن الذي نحياه (الآن .. وهنا) هو الغريب حقًا. فبعد أن "تعولم" منطق الربح والخسارة وتربع الفساد على عروشه و"تمأسس" وأصبحت لغة "البورصة" هي الأكثر تداولاً وحسمًا للأمور،... كل الأمور، لا تسثني منها أمرًا، ولهذا كان منطقيًا أن يتراجع الإيمان بمعان أعمق من نوع: الوطن، الشرف الإنساني، إحترام الذات، الأهل الطيبون، العشرة الجميلة، النهر، الحقول... الخ.
أمست تلك المعاني من طراز "الوطنية"، والتكاتف حول مواقف "مظلية" تحمي الجميع، والذوبان في قيمة إنسانية رفيعة، وأصبحت كل هذه المسميات الآن مدعاة للسخرية، ومثيرة للشفقة في أفضل الأحوال.
سفارة إسرائيل
محبط .. مهزوم حتى النخاع، مفلس... شبه عاطل عن العمل، أحلامه تتجاوز قدراته، لكنها لا تتواضع أمام واقعه الصعب، يمكن وصف كثير من سلوكه باطمئنان بأنه يشكل أعراض "جنون العظمة"، أناني بشهادة أهله قبل أصدقائه. هذه بعض من ملامح المحامي المصري الشاب، وليد احمد لطفي هاشم، الذي اتهم قبل سنوات بالسعي للتخابر مع جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، والذي اتصل بالسفارة الإسرائيلية وأرسل إليها عدة "فاكسات" وعرض التعاون معها، ووقتها قال محاميه إن المتهم لا يملك أصلاً ما يمكن أن يقدمه لإسرائيل ولا لغيرها، ولا حتى لنفسه، وكل ما اعترف به يؤكد أنه آخر من يصلح للقيام بمهمة الجاسوس، وجميع اعترافاته محض خيال وأكاذيب لا أساس لها من الصحة، مؤكدًا أنه لا توجد تهمة في القانون المصري اسمها السعي للتخابر.
وفي حالة الطالب الأزهري محمد عصام غنيم العطار، الذي غادر مصر إلى تركيا 2001،والذي توجه أيضًا إلى السفارة الإسرائيلية هناك، عارضًا العمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، التي استجابت له وكلفته بأن يكون على ارتباط بالمصريين والعرب المقيمين في تركيا ولاحقًا في كندا، وقد نجح محمد العطار بالفعل في استدراج بعض المصريين وأبناء الدول العربية إلى المخابرات الإسرائيلية مقابل الحصول على مبالغ مالية.
وحتى في حالة أخرى عنقود المتهمين بالتخابر، محمد سيد صابر المهندس بهيئة الطاقة الذرية، ورد في بيان النائب العام أنه تردد على السفارة الإسرائيلية في القاهرة خلال شهر أيار (مايو) عام 1999 متقدمًا بطلب للحصول على منحة دراسية في الهندسة النووية من جامعة تل أبيب وقد نبهت عليه هيئة الأمن القومي (المخابرات العامة) بعدم تردده على تلك الجهة الأجنبية دون إخطار جهة عمله، ثم سافر إلى السعودية، وهناك عاود محاولة الإتصال بجهات إسرائيلية، وسافر إلى هونج كونج عدة مرات إلتقى خلالها مع عميلين للمخابرات الإسرائيلية وتسلم منهما جهاز (لاب توب) مجهز ببرنامج مشفر مما يستخدم في مجال التخابر ويتسم هذا البرنامج بصعوبة اكتشافه أو التعامل معه دون معرفة الخطوات الخاصة باستخدامه وقد تلقى المتهم تدريبات مكثفة على كيفية تشغيل هذا البرنامج وإتقانه.
مرة أخرى نعود إلى التذكير بالقاسم المشترك في معظم قضايا التخابر، وهو الإتصال بالسفارة الإسرائيلية في القاهرة، والتي كانت أول سفارة لإسرائيل في المنطقة، غير أنها ظلت أسيرة العزلة والحراسات الأمنية المشددة التي حولت المنطقة التي تقع بها السفارة إلى ما يمكن وصفه بثكنة عسكرية، مع أن مقر السفارة يقع في الطابق الثامن عشر من عمارة تطل على النيل في مواجهة كوبري الجامعة القاهرة.
وعلى الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة التي تواجه أي مصري يرغب في السفر إلى إسرائيل خاصة بعد إكتشاف قضية الدرزي الإسرائيلي عزام عزام الذي أدانته محكمة أمن الدولة المصرية بالتجسس لمصلحة إسرائيل عام 1997 ، وجرى تسليمه لإسرائيل قبل نحو عامين.
غموض وتساؤلات
وهكذا يتضح أن هناك قواسم مشتركة في معظم تلك القضايا، الأول أن المتهمين يسلكون سلوكًا فجًا، لا يمكن أن يكون موضع ثقة حتى للجهة التي يسعون للتخابر لصالحها، لأنه ينبغي أن ندرك أن مندوب الاستخبارات الإسرائيلية ـ بالذات ـ في أي سفارة، خاصة في سفارة إسرائيل لدى القاهرة ـ بالذات أيضًا ـ ليس ساذجًا ليثق في شخص بهذه الصفات، ويحاول الإتصال بالسفارة على هذا النحو المكشوف الساذج، لكن مع ذلك فليس مستبعد أن يمنحه رجل المخابرات آذانًا مصغية، أو يلقي عليه نظرة متأملة، بكل حرص وحذر، فإذا شم رائحة ادعاء أو محاولة احتيال سيكون مسؤول السفارة الإسرائيلية نفسه هو من سيبلغ عنه السلطات، لأن ضباط المخابرات في هذه المواقع ـ تحديدًا ـ ليسو من الهواة، ولا العناصر التي يجوز التهوين من قدراتها وخبراتها المهنية في مجال "الخدمة السرية" داخل أروقة الاستخبارات.
ثمة تساؤل آخر يطرحه أسامة لطفي محامي المتهم محمد سيد صابر المهندس بهيئة الطاقة الذرية، والذي كشف أنه ظل محتجزًا طيلة شهرين لدى المخابرات العامة، ويتساءل لطفي المحامي عن سر صمت السلطات منذ ثمانية أعوام، حين بدأ المتهم الاتصال بجهات إسرائيلية، كما ورد في بيان النائب العام، منذ العام 1999، ولماذا لم يوقف عن عمله بهذه الهيئة المهمة، ويحال دون تمكينه من تقارير بالغة الخطورة، كتلك التي قيل إنها سربها إلى عملاء "الموساد"، وتحوي معلومات حول عمليات الإنتاجrlm; وكميات اليورانيوم المتداولة وتدابير الأمانrlm; والمعادلات الكيميائية وكيفية تصنيع الوقود النووي، وغير ذلك من المعلومات التي تصنف "سرية للغاية"، وتحفظ بعيدًا عن كل من كان.
القاسم المشترك الآخر هو أنه ومع الإقرار بأن إسرائيل وعبر تاريخها معنا، لا يمكن أن نستبعد أن تظل تسعى بشكل متواصل لتجنيد مزيد من الجواسيس، لكن ثمة مسؤولية متشابكة هنا بين عوامل اجتماعية ضاغطة، وواقع سياسي أوضحنا أن إسرائيل استغلته بمحاولاتها المتكررة التي لا تعرف اليأس لاقتناص هذه النماذج الشائهة الموجودة في كافة المجتمعات على امتداد التاريخ والجغرافيا.
كما أن إسرائيل ولو لم تسع لاصطياد هذه الأسماك الفاسدة، فهي تشكل "طعمًا مثيرًا" لهم، وتداعب قدراتها ـ التي أفرط حتى بعض مبغضيها في تضخيمها ـ خيالات تلك الأسماك الفاسدة، وتثير لعابها، فيصل الأمر إلى ما يمكن وصفه بمحاولات احتيال أكثر منها عمليات تخابر حقيقية، ولو أن مجرد الاحتيال في ملعب الاستخبارات ليس كالاحتيال في سوق الجمعة، أو حتى في البورصة، فاللاعبون هنا يمارسون لعبة خطرة، لا تحتمل التهاون أو الاستخفاف، ومع لاعبين منافسين محترفين، لا يعرفون الهزل أو التهريج المبتذل.
الحكاية إذن كبيرة... هي فعلاً أكبر من كل هذه القضايا الأخيرة، وأعمق من تلك النماذج "الفجة" المتبجحة ممن يعرضون أنفسهم على سفارة إسرائيل، والذين ربما لا يملكون سوى قصصًا ساذجة يسعون لتسويقها "استخباريًا"، لكن في المقابل كانت هناك بالفعل نماذج أخرى خطرة من الجواسيس، وليس من المستبعد أن يكون هناك في المستقبل من هم أكثر خطورة، لأن الصراع ما زال حيًا، وليس بوسع أحد الإدعاء بأنه مات.