أخبار خاصة

طلقة ملتحية من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


"إيلاف" على باب شيخ يحتقر الحضارة ويشابه "آمش" أميرك
"طلقة ملتحية" من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر


سلطان القحطاني من بريدة: يبدو رجل الدين السعودي اللغز الشيخ عبد الكريم الحميد مثل رمح أطلق من القرن الأول هجريًا، أحد ألمع عصور الزهد والتدين في التاريخ الإسلامي، واستقر في القرن الرابع عشر، العصر الحالي الذي يشعر فيه أبناء العالم الإسلامي أن عصرهم الذهبي الذي وصلت فيه جيوشهم إلى قلب أوروبا ولى إلى غير رجعة. وكأنما هو رجل خارج من ثقب الزمن يظهر أمامك الشيخ الحميد، الذي نسجت حوله الأساطير، وهو يتوكأ على عصاه المأخوذة من قصب السكر، ويرتدي أسمالاً باليه، عائدًا من صلاته في صحراء قريبة تملؤها أشجار الأثل والنخيل، بعد أن هدمت السلطات السعودية مسجده المبني من الطين قبل عامين كونه لا يملك رخصة لبنائه. وعبر طريق تحفه الشجيرات من كل جانب نسير إلى بيت الشيخ المتداعي المصنوع من الطين الخالص دون وجود أي مظهر من مظاهر الحضارة الحديثة، في أحد أحياء ما يسمى بـ "الخبيبية" التي تعتبر الريف الغربي لمدينة بريدة وسط المملكة، وصاحبة الشهرة المطلقة منذ عقود طويلة في وظيفتها كمفرخة للوعاظ ورجال الدين المعروفين.

ويؤثر الشيخ المنحدر من سلالة عائلة شديدة الثراء منذ سنوات الإلتجاء إلى حياة متقشفة تشابه إلى حد كبير ما كان يعيشه المسلمون الأوائل زمن النبي محمد (ص) ودولة الخلافة الراشدة، معتمدًا فلسفة في طريقة الحياة تم بناؤها على فرضية أن النبي لا يزال حيًا، وهذا ما يستوجب التصرف على هذا الأساس.

وعلى الرغم من أنني خلعت عقالي ووضعت هاتفي المحمول وكل ما يمت إلى التكنولوجيا بصلة بعيدًا عن مرأى الشيخ وطلبته الذين لهم آراؤهم الخاصة في هذا الموضوع، إلا أنني لم أسلم من انتقاد أحد تلامذة الشيخ وهو "ياسر السابح" الذي قال بابتسامة لطيفة " أستغرب هذه الجرأة في طلب لقاء الشيخ بهذه اللحية الحليقة والثوب الطويل".

وبينما تمر دقائق الانتظار الطويلة لعودة الشيخ ملتجأه الديني الصحراوي يظهر أكبر أبنائه محمد الذي يبلغ من العمر 12 عامًا على أقل تقدير وهو لا يلبس حذاءً بل يلتزم نهج والده، وتبدو عليه أمارات الذكاء المبكر، رغم أنه ممنوع من الالتحاق من التعليم النظامي الذي تديره الحكومة كون والده يحرمه.

ويبرر محمد ذلك قائلاً لـ"إيلاف" وهو يعيد ترتيب شماغه الأحمر الذي يرتديه على رأسه تحت شمس نجدية لاهبة: " هل تظنون أن العلم وحده هو ذلك الموجود في المدارس... إنني أتعلم في مكان أفضل حيث أدرس في المسجد وأحفظ حتى الآن نصف القرآن".

وليس هذا الإبن هو الوحيد الذي لا يرتدي حذاء بسبب تعاليم دينية بل أن هنالك عددًا كبيرًا من صغار السن في الحارة الأصولية ذاتها لا يلبسون الأحذية مما يجعلهم يركضون بسرعة فوق الإسفلت بسبب حرارته، فيما هم وأقرانهم الكبار المتدينين من النادر أن يلقوا التحية على أي شخص حليق الذقن أو لا تبدو عليه أمارات التدين.

ويحرم الشيخ الحميد ركوب السيارات أو الطائرات أو الكهرباء وما إلى ذلك من قصاصات الحضارة الحديثة معتبرًا إياها "خوارق شيطانية"، وهذا ما ينعكس على طبيعة عيشه في بيت بلا كهرباء ومبني من الطين الخالص.

وفي وقت الانتظار لظهور "الشيخ المنتظر" كان طلبته يحومون حولنا بغية التأكد من سبب وجودنا حتى ظهر الشيخ خارجًا من صحرائه يسير محدودب الظهر ومتكأ على عصاه، يسير بكل هدوء وعينيه الملونتين تظهر صفاء داخليًا.

وحين اقترب مني رفض المصافحة بسبب كوني لا أملك لحية طويلة وثوبي الذي أرتديه طويل جدًا وألبس حذاء سوداء. يقول بصوت غاضب " أين لحيتك وما هذا الثوب الذي يسحب معك أوساخ الأرض، وكيف ترتدي حذاء مثل هذه ربما يدخل بها فأر صغير".

ورفض الشيخ إدخالنا إلى منزله لكنه ظل متحدثًا معنا أمام عتبة بيته الطيني وهو يغلق الباب بين الفينة والأخرى كي لا نرى طريقة تصميم البيت من الداخل.

وفي بداية الحديث يبدي استياءه الكبير مما يكتب عنه، لدرجة وصلت إلى حد جعله غريب عصره قائلاً: " يكتبون عني الكثير الكثير .. لقد قالوا ذات مرة أنني لا أمشي على الإسفلت لأنني أصدرت فتوى بتحريم المشي عليه... هذا جنون".

ويضيف وهو يشير إلى طريق الإسفلت أمام بيته " قل لهم كيف سأمشي إذًا، إن لم يكن ذلك على الإسفلت .. هل لدي جناح أطير به ؟".

ويقول: " لا أريدكم أن تكتبوا عني .. أتركوني أعيش طريقة حياتي كما أراها... كما لو أن النبي محمد ما زال حي بين ظهرانينا... لو كان حيًا هل تظن أنه سيعيش في مثل هذه الحضارة التافهة".

ويضيف في حديثه مع "إيلاف" أمام عتبة منزله " لماذا أصبح أنا الغريب الوحيد في العالم .. أنظروا إلى شعب "الآمش" في أميركا داخل لجة الحضارة وهم مثلي لا يزالون يركبون الخيول ويحرمون الكهرباء ويرفضون الدخول في المدارس النظامية".

ويستخدم الشيخ الحميد ذو اللحية البيضاء بفعل تقدم السن حمارًا في منزله للتنقل داخل المدينة، إضافة إلى أنه يرفض استخدام العملة المحلية كونها تحوي صورا ولذلك يلجأ إلى بديل هو العملات المعدنية ذات الفئات النقدية القليلة.

وعن سنواته الطويلة التي أمضاها حياً يقول بصوت مليء بالإيمان " لا أريد من الله أن يطيل في عمري. أريد أن ألقاه سريعًا وأنا على سجادة صلاتي".

وعمّا إذا كانت هذه الحياة التي يعيشها بسبب صدمة حضارية بعد دراسته في أميركا كما يقول كتاب سعوديون، يجيب قائلاً " إنهم يكذبون .. أنا أتحدى أي شخص يثبت أنني سبق وأن ذهبت إلى أميركا أو غيرها، وبوسعهم التأكد من إدارة الجوازات".

وكان الشيخ يجيد الفرنسية والانكليزية لكنه نسيها مع الوقت لأنه لم يعد يمارسها، إضافة إلى أن لديه موقفًا متشددًا من اللغات الأجنبية التي يحرّم تعلمها.

ويفسر الشيخ علاقته مع شركة أرامكو النفطية الكبرى في حديثه مع "إيلاف" : " أنا لم أعمل معهم لكنني كنت أعمل في مكتب مشترك بين الحكومة وشركة أرامكو، ولم أعمل مترجمًا أبدًا ولو لساعة من عمري".

وعن الصدمة الحضارية، يقول تلميذه ياسر السابح الذي يقيم في بيت قريب جدًا من بيت معلمه : "الصدمة الحضارية تكون ردة فعل لا تستند إلى منهج لكنكم ترون كيف أن الشيخ لديه منهج وحجج في طريقة حياته".

وفي إحدى الغرف التي تمتلئ بالكتب الدينية على الرفوف، يبدو طالبه الذي لا تفارقه الابتسامة معجبًا بطريقة عيش شيخه.

وبعد نصف ساعة من المحادثة يقرر الشيخ الحميد أن يجلس على عتبة المنزل بعد أن تعب من الوقوف، وهو يتحدث عن التعليم النظامي قائلاً: " لو وُضع السيف على رقبتي لما أدخلت أبنائي التعليم الحكومي... إنهم يستبعدون قلوبهم ويفرغونها ويعلمونهم حب الوطن والعلم وما إلى ذلك من الأمور".

وعلى الرغم من أنه يعيش في سدرة منتهى الحضارة وحداثتها إلا أنه يتحدث عنها بنقمة :" غدًا سوف تفنى هذه الحضارة جميعها وستصبح هذه السيارات وهذا النفط عبء عليكم لو بدأت الحرب مع إيران سترون صحة كلامي".

ولا يزال الشيخ الذي بلغ من الكبر عتيا يؤمن بأن "طالبان" عائدة إلى أفغانستان، بينما هو يرفع يديه كل يوم داعياً أن تنتصر "المقاومة العراقية" على "الاحتلال الأميركي".

ورغم أنه يعيش في بيت لا توجد فيه أي دلالة من دلالات المدنية إلا أنه مطلع على كل شيء وخصوصاً الصحف والكتب التي يقرؤنها عليه بعض من تلاميذه، رغم أن أغلبهم مقاطعون لعمل الصحف.

ويقول عن الكتاب السعوديين بأسمائهم: "هناك فسقة بينهم. الطاغوت منصور النقيدان، وتركي الحمد الذي قال كلامًا تهتز له السماوات ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ الذي انقلب على دعوة أجداده وأتحداه أن يباهلني ".

ويضيف قائلاً:" أنا لا أركب السيارة مطلقا لكنني سأركبها مضطرًا كي "أباهل" محمد بن عبد اللطيف أمام جمع كبير كي أوضح أخطاءه".

وسبب غضب رجل الدين الحميد على آل الشيخ أنه منحدر من سلالة عائلة وهابية أرسى أجداده الأوائل تعاليم دينية متشددة رافقت تأسيس الدولة السعودية الأولى، إضافة إلى أن المفكر السعودي تركي الحمد كان أحد تلاميذه في مرحلة مبكرة.

وفي حديث سريع مع "إيلاف" رفض الكاتب محمد آل الشيخ دعوة "المباهلة".

وهنالك فرق بين المباهلة والمناظرة إذ تأتي الأولى مسبوقة بالكثير من الأدعية التي تظهر وكأن سخطًا إلهيًا سيحل بالشخص الذي يفشل في الإقناع بصحة منهجه.


ومن ضفة الليبرالية ومفكريها إلى رجال الدين في المملكة المحافظة يمضي منتقدًا بضعة أسماء نالت شهرة كبيرة مثل الشيخ الصحوي السابق سلمان العودة ومحسن العواجي الذي كان يتحدث عنه بإزدراء لا مثيل له.

وعن علاقته بالصحراء يقول بصوت جهوري: "يجب على الإنسان أن يجلس في الصحراء ولو قليلاً .. على الأقل ساعات كي يتفكر لم هو مخلوق".

وعن الشيخ يقول صحافي راقب طريقة عيشه من كثب " إنه يعيش بصدق لا نظير له .. هذه هي المشكلة".
وفعلاً ربما تكون هذه هي المشكلة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف