أخبار خاصة

بيروت جميلة لولا روائح الجثث

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ثرثرة سياسية في ليل بيروت
مدينة جميلة ... لولا روائح جثث أحياناً

إيلي الحاج من بيروت: كان الصحافي الفرنسي العائد إلى لبنان بعد غياب خمسة أعوام يخبرني أن ما يعجبه في هذه البلاد هو عدم تغيّرها، وانه كان يقصد "السبورتينغ كلوب" على المنارة ليسبح ويجلس في مقهاها ويعجب لثبات الأشياء والناس ، وأن النائب وليد عيدو كان جزءاً من المشهد يأتي كل يوم الرابعة بعد الظهر تقريباً يمضي ساعتين يسبح ويتمشى حول المسبح ويلعب طاولة الزهر ويتناول قهوة في المقهى . أكاد أراه بقبعته الرياضية البيضاء بالأمس كما قبل سنوات بيروتياً أصيلاً يحافظ على عاداته وهواياته، كما على اللهجة المميزة للمسلمين السنّة من أبناء هذه المدينة.

قال لي الصحافي الفرنسي، الذي أمضى سابقاً في لبنان 15 عاماً يغطي حروبه المتعددة، إن المسلمين السنّة البيارتة ليسوا ممن تجذبهم المشاكل والمواجهات العنفية ، أو هذا ما يوحونه له، وإنهم مسالمون بطبيعتهم، ربما بتأثير عيشهم في عاصمة مفتوحة على البحر وطرق تجارة جبلتهم رويداً رويداً وأبعدتهم عن التطرفات التي تبقى سمة الريفيين المستنفرين في وجه التحديات على الدوام . أو هو الرخاء الناتج من كونهم تاريخياً من نسيج السلطة الإسلامية التي حكمت المدينة على الدوام من زمن المماليك ولّد فيهم نزعة أريستوقراطية تدفعهم إلى تفضيل سعة العيش على الكفاحات المتعددة التي يخوضها الآخرون في هذا البلد المعقد.

كنت سأسأله هل قرأ كتاب "تاريخ بيروت" لسمير قصير ، الكاتب الصحافي الشهير الذي اغتيل بعبوة ناسفة في سيارته بكل برودة في 2 حزيران/ يونيو 2005، أو كنت سأردد عبارة للجنرال ديغول ابتذلها اللبنانيون لكثرة ما يرددونها لزوارهم الفرنسيين خصوصاً: "كي تفهم هذا البلد المعقد يجب أن تأتي إليه بأفكار بسيطة". لكن النادل تدخل هامساً في أذني أن المقهى سيقفل المطبخ وصندوق الحساب عند الحادية عشرة ليلاً، أي بقيت لنا خمس دقائق فقط لنطلب ما نريد ونحاسب، بعد ذلك يمكننا البقاء قدر ما نريد . الطاولات والكراسي والساحة والشوارع المتقاطعة فيها كلها لنا على حسابنا.

سألت النادل ضاحكاً أين يذهب الإنسان في هذه المدينة الكئيبة إذا كان لا يخاف المتفجرات ولا يريد أن يأوي باكراً؟ فتطلع مرتبكاً إلى الوراء ، وتنبهت إلى أننا في الواقع كنا وحدنا في المقهى الرصيفي، الصحافي الفرنسي وزميلة تكتب في صحيفة لبنانية بالفرنسية وأنا . قلت إني أحب بيروت هكذا خالية الطرق وعندما تمتلىء بالناس والسيارات أصبح غريباً فيها، أشعر بأنهم يتعدون على أملاكي.

"حزب الله" ... سلاحه وأخطاؤه

عاد الزميل الفرنسي يخبرني إنه غطى تشييع النائب عيدو ونجله ومرافقه في شوارع بيروت نهاراً وفوجىء بالشعارات والهتافات النابية التي كانت ترددها دون توقف مجموعات من الشبان ، نال منها الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله القسط الأكبر، ولكانت تشعل معارك مذهبية طاحنة لو نقلتها وسائل الإعلام . أجبته لا شك أن المسلمين السنّة غاضبون، بل في ذروة الغضب ويشعرون بأنهم مستهدفون في قادتهم وشوارعهم ومصالحهم. الزميلة اللبنانية الفرنكوفونية لاحظت أن تناول نصرالله في برنامج تلفزيوني فكاهي قبل سنة أشعل الشارع الشيعي فنزل إلى الطرق وكاد لبنان يدخل فتنة كبيرة بذريعة أن نصرالله شخصية مقدسة ، أما اليوم فإن ( رئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب) وليد جنبلاط يهز أصبعه مصرحاً على الشاشة "إسمع يا حسن..." . فقدَ الرجل الملتحي ذو العمامة هيبته فصار التعرض له مباحاً.

كان رأيي أن ذلك لا ينفي واقع إمساكه بطائفته المؤثرة جداً في السياسة اللبنانية . ولا شك إن "حزب الله" ارتكب سلسلة من الأخطاء العظمى والصغرى في حساباته ، تبدأ من 8 آذار/مارس 2005 بتنظيمه "يوم الشكر والوفاء لسورية الأسد" في حين تعتقد فئة كبيرة من اللبنانيين الآخرين، سنة ودروزاً ومسيحيين، وعن صواب أو خطأ، أنه قاتل الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسبب العديد من الكوارث والمآسي التي عرفها لبنان أقله منذ 1975 ، مروراً بحرب تموز/ يوليو العام الماضي وما تلاها من تخوين واعتصامات وتهديدات ، وأخطأ "حزب الله" كذلك في تعامله مع موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي، وصولاً إلى وضع خط أحمر في مخيم نهر البارد أمام الجيش اللبناني بعدما ذبح تنظيم "فتح الإسلام" عدداً من ضباطه وجنوده، وذلك في وقت كان فيه الجيش مضطراً إلى خوض المعركة وربحها على الإرهابيين الذين اعتدوا عليه وعلى شرفه . هكذا بدا موضوعياً، ومن دون أن يترك له نصرالله خياراً آخر ، في موقع قوى الغالبية 14 آذار/ مارس التي دعمته في المعركة.

الصحافي الفرنسي رجح أن "حزب الله" لا يريد الجيش اللبناني قوياً لأنه قادر مثله على الإستقطاب شعبياُ في بيئته الشيعية، ولأن حجة المطالبين بتخلي الحزب الشيعي عن ميليشياته ستقوى إذا أثبت الجيش قدرته على ضبط الأوضاع الشائكة في لبنان. ولا يبدو الحزب في وارد ترك السلاح أيا تكن الأوضاع والضغوط عليه، لكن ما طرأ هو أن هذا السلاح لم يعد يخيف بقية اللبنانيين على ما يظهر.

وأضاف إنه لاحظ خلال تشييع عيدو وجود مجموعة من الشبان تلبس قمصاناً سوداء وترفع أعلاماً حمراء عليها صورة رأس فهد وتسمي نفسها "الفهود" ، وهم مدنيون، غير فرقة قوى الأمن الداخلي التي تحمل هذا الإسم. وسألني هل هؤلاء مقاتلون إحتماليون سنة؟ كان رأيي أن تسلح جماعة في لبنان ، أيا تكن إنتماءاتها وعقيدتها، دون سائر اللبنانيين، لا بد من أن يؤدي إلى إحياء نوازع التماثل في جماعات أخرى باعتباره رداً للتحدي في شكل أو في آخر. ولكن لا أعتقد أن الشوارع يمكن أن تفلت من أيدي قادة الأحزاب والطوائف ، وهؤلاء يحاذرون جداً الإنزلاق إلى حرب أهلية. وإلا لكنا الآن في أتون الحرب.

وسألني عن قضية المذيعة سوسن صفا درويش، العاملة سابقاً في المحطة التي تحمل اسم رئيس مجلس النواب وحركة "أمل" نبيه بري، فأوضحت باختصار أن الأخطر من زلتها على الهواء هو أنها عكست جواً معيناً في بعض الأوساط أقل ما يُقال فيه إنه لا يعبر عن تضامن بين اللبنانيين جميعاً حيال المآسي الإنسانية في الحد الأدنى . علماً أن هذه السمة لا تنطبق على فئة معينة وحدها، فعندما اغتيل الزعيم كمال جنبلاط أطلق الرصاص إبتهاجاً في ما كان يُعرف ب"بيروت الشرقية"، وعندما اغتيل رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميّل اشتعلت زغرتا برصاص إبتهاج أنصار الرئيس الراحل سليمان فرنجية ومناطق أخرى أيضاً، وعندما اغتيل الرئيس رشيد كرامي قيل إن زجاجات شمبانيا قد فتحت، وعندما اغتيل الأمين العام السابق ل "حزب الله" عباس الموسوي راجت فوراً في بعض الأوساط عبارة "نعيماً يا عباس" اقتباساً عن إعلان تلفزيوني لشفرات حلاقة فأوقف الإعلان، وعندما اغتيل جبران تويني قيل إن ضيافات "بقلاوة" قدمت في إحدى المناطق ، ولم أر ذلك بعيني لكن كثيرين يقيمون على اعتقاد ان هذه الحادثة وغيرها أحداث صحيحة . وإذا كانت ردود الفعل خلال الحرب يمكن أن تلقى بعض التبرير نظراً إلى الجروح التي أثخنت بها خلالها كل الطوائف والأحزاب، وكل من الطرف الآخر، فإنها بعد الحرب وفي هذه المرحلة لا يمكن تبريرها إلا بأن بعض اللبنانيين لا يرى في حامل الرأي الآخر، المختلف، إلا كائناً سياسياً عدواً يجب تصفيته، وهذا موقف أسوأ من القتل في ذاته.

مَن مع "فتح الإسلام"؟

وقال الصحافي الفرنسي إنه لاحظ أكاذيب حول معارك مخيم نهر البارد فالإعلام الرسمي يكرر وخلفه الخاص إن المواجهة هي بين الجيش ومسلحي "فتح الإسلام"، وهؤلاء لا يزيد عددهم على 300 مسلح حداً أقصى قتل منهم نحو خمسين وأسر أو استسلم أو أصيب أكثر من مئة ، فمن يمسك المحاور التي تحوط المخيّم والتي تحتاج أقله إلى 800 مسلح ؟ واستنتج أن لا مصلحة للجيش وللدولة اللبنانية في الإعلان أن التنظيمات الموجودة في المخيم، باستثناء "فتح- عرفات" تقاتل كلها مع "فتح الإسلام" إن لم يكن عن اقتناع فلئلا يكون دخول الجيش اللبناني إليه بالقوة سابقة، يمكن أن تنسحب لاحقاً على المخيمات الأخرى ال 14 المنتشرة على أراضي لبنان والتي لا تخضع لسلطاته وتقيم الفصائل المنوعة فيه حكماً ذاتياً بكل معنى الكلمة. وفي المقابل لا مصلحة للفصائل التي تقاتل مع "فتح الإسلام" في إعلان إنها تخوض المعركة ، وإلا استعدت عليها اللبنانيين والعالمين العربي والغربي وأحرجت دمشق أكثر مما هي محرجة، خصوصاً أن هذه الفصائل محسوبة عليها، من "الجبهة الشعبية- القيادة العامة" إلى " فتح- الإنتفاضة" وما بينهما من تنظيمات.

الصحافية الزميلة تكهنت بأن معركة نهر البارد ستستمر أسبوعاً بعد أو أكثر قليلاً، وكانت تشرح أسباب اعتقادها بأن "فتح الإسلام" و"جند الشام" والتنظيم السلفي المتشدد الذي أوقف بعض أفراده في منطقة البقاع تشكل تنظيما واحد، إذ يتبع أفراد هذه التنظيمات الأساليب والتصرفات نفسها في عملهم ، حرفياً وبدقة، من إستئجار الشقق والحرص على عدم إثارة الشبهات إلى طرق الإتصال في ما بينهم وتخزين المتفجرات والأسلحة وتسلسل القيادة.

والآن ماذا ؟ سألني الصحافي الفرنسي. أجبته أن أمامنا معركة ساخنة على المدى القصير، كنا في المحكمة ذات الطابع الدولي وأصبحنا في الإنتخابات النيابية الفرعية لملء المقعدين النيابيين اللذين شغرا في المتن الشمالي باغتيال بيار الجميّل وفي بيروت باغتيال وليد عيدو . رئيس الجمهورية إميل لحود خلافاً للدستور لن يوقع مرسومي إجراء الإنتخابين، والحكومة خلافاً للدستور أيضاً ستجري الإنتخابين دون توقيع رئيس الجمهورية، وإذا لم تفعل ذلك فإن إغتيال أربعة نواب آخرين دون انتخاب خلفاء لهم سيجعل الأغلبية النيابية أقلية، واغتيال وزيرين يسقط الحكومة . ولو كانت الإغتيالات تستهدف الطرفين الغالبية والأقلية لكانت هواجس نواب ، ووزراء قوى 14 آذار /مارس قابلة لمعالجتها بالإحتياطات والصبر . أما والحال على ما هو فإن كلاً منهم يتحسس رقبته ويتخذ وضعاً سياسياً قتالياً.

قطع حديثنا فجأة مرور صاخب لموكب سهرة عرس . شبان وصبايا يخرجون من نوافذ سيارات تتقدمها شاحنة ركبوا عليها مكبرا ضخماً للصوت ، وكانوا والميكروفون يصدحون بأغنية جميلة لفيروز تدعو الخطيبة أن تطل على خطيبها، وكانت العروس تلوح طائرة من الفرح . لم يكن أحد غيرنا في الساحة الفارغة، فلوحنا لها متمنين لها السعادة والهناء .

دقيقة وغاب الصخب. قال الصحافي الفرنسي "لطالما أحببت هذه المدينة". قالت الزميلة الفرنكوفونية: "أنا أيضاً، ولكن لا أحب روائح الجثث التي تعبق فيها أحياناً. الرائحة نفسها شممتها أمس في مستشفى الجامعة الأميركية بعد الإنفجار، قبله قرب السيارة التي اغتالوا فيها جورج حاوي، وفي وادي الزينة حيث ألقوا الشابين بعد خطفهما من وطى المصيطبة ، والصيف الماضي في أحياء الضاحية الجنوبية بعيد الحرب".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف