سرداب نووي من أميركا وأوروبا الى إيران
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
معادن والكترونيات تعزز أحلام نظام أحمدي نجاد
سرداب نووي من أميركا وأوروبا الى إيران
طلال سلامة من روما: تنتج أوروبا بما فيها ايطاليا، بالتعاون مع الولايات المتحدة معادن خاصة وأجهزة إلكترونية يتعطش إليهما القطاعان النووي والصاروخي. ولم يكن ليبرز من تصدير هذه النشاطات الإنتاجية أي شواذ لو لم تكن التكنولوجيا المحظورة المتعلقة بها تصل الى إيران دون أي مراقبة. صحيح أن الشركات مستعدة لتلقٌف الفرص التجارية في وقت تشتد فيه المنافسة العالمية إلا أن بعضها تورط، من دون إداراته وموظفيه، في بناء سرداب نووي يصل الى إيران بكل سهولة مهدداً بالتالي استقرار منطقة الشرق الأوسط، المقيم على كف عفريت.
والمدهش في الأمر أن طلائع الدول الغربية، كما فرنسا وألمانيا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا وكندا وحتى الولايات المتحدة ، تساهم مباشرة في دعم حكومة طهران "نووياً" من طريق عقود تصدير، صغيرة الحجم "مالياً" إنما ذات قيمة عالية "استراتيجياً". ويمكن تشبيه عقود التصدير هذه بقطرات ماء تعبر حدود العالم دون أن يعترضها أحد، واصلة الى محطتها النهائية في إيران لتغذية أحلام نظامها النووية والصاروخية والمجهولة النوايا.
ولا تعمل الشركات المتورطة، في هذه الدول الغربية، في قطاع التجهيزات العسكرية إنما تنتج سلعاً لأغراض مدنية. ولكن في بعض الحالات، تصبح هذه المنتجات المدنية حاسمة لاختبار وتجميع مكونات أسلحة الدمار الشامل. على سبيل المثال، تتحول سبائك الألومنيوم الخاصة، المستعملة في بناء هيكل سيارات شركة "فيراري" الإيطالية، الى مكونات جوهرية تحتاج إليها ماكينات الطرد المركزي "النابذات" لتخصيب اليورانيوم. أما محملات الكريات (جزء من الماكينة تدور فيه أجزاؤها المتحركة دوراناً سلساً على كرات معدنية مرنة)، التي تباع لانتاج آلات التصوير الطبقي المحوري (Computed Axial Tomography) الطبية، فتتحول الى أداة لتحسين مرمى الصواريخ العابرة للقارات. لتبديد الشكوك، نستطيع تصنيف هذه المنتجات بأنها ثنائية الاستعمال. بالفعل، تكون هذه المنتجات سلمية الى أن تضحي جزء من نظام إنتاج حربي فتاك.
الشعلة من أميركا
وتعتبر هذه المنتجات الثنائية الاستعمال الشرخ الأكبر إذ إنها تغذي السباق على أسلحة الدمار الشامل، انطلاقاً من أوروبا والولايات المتحدة. وقد بدأ كل شيء في تركيا وانفضح لدى وصوله الى إيران. وكما يحصل في أغلب الأحيان، تأتي الشعلة الأولى من أميركا وأحدثتها معلومة أرسلها المحققون الجمركيون الى المقر العام للمخابرات الأميركية "سي اي ايه". وأول من خضع للتحقيقات ليس إلا "ألكوا" (Alcoa)، شركة إنتاج الألومنيوم العملاقة التي تتخذ من "بيتسبورغ" مقراً رئيسياً لعملياتها. ففي برقية أرسلتها الى حكومة أنقرة أشارت "ألكوا" الى منتجات معدنية شحنها فرعيها بالمجر وروسيا الى شركة تركية يمتلكها مواطنون إيرانيون. من هنا، تعاظمت شكوك "ألكوا" حول أهداف وصول هذه الشحنات الى طهران. من جانبها، عالجت حكومة أنقرة البرقية بصورة جدية وانطلقت التحقيقات هناك بسرية تامة.
شكلياً، قاد التحقيقات مكتب الجمارك التركية ، لكن الوحدة الخاصة في شرطة مكافحة المخدرات هي التي أمسكت فعلياً بزمام التحريات. وتدعى الشركة التي أبرزتها البرقية علنية "ستيب ستاندرد" (Step Standard) وتمتلكها عائلة جعفري الإيرانية التي يقوم أعضائها بزيارات مكوكية بين طهران وتركيا، بصورة منتظمة. فسيولتهم النقدية هائلة ولديهم أعمال تجارية محترمة في قارات العالم الخمس يشترون من خلالها كل شيء لشحنه الى إيران دون المبالاة باختراق القوانين الدولية. كما يبدو أنهم خبراء في صوغ الملفات الجمركية والأختام المزيفة.
وعندما دهمت وحدات الشرطة التركية مقر "ستيب ستاندرد" أدرك خبراؤها على الأثر أن هناك سلسة من العمليات الغامضة. فالمنتجات المصدرة الثنائية الاستعمال كانت تصل تركيا، وهي عضو في الناتو أي أنها حليف لا يمكن أن يثير الشبهات. بعد استراحة قصيرة في تركيا، كانت هذه المنتجات تواصل طريقها الى إيران. تدريجياً، اتسعت رقعة التحقيق كي تضم في اللائحة السوداء للمنتجات المصدرة تلك المتأتية من الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة . وتشمل هذه المنتجات سبائك الألومنيوم العالية الجودة ذات المقاومة الجيدة، وأجهزة الاختبارات الإلكترونية، ومكونات يمكن استخدامها لتوجيه الصواريخ البالستية البعيدة المدى أو إعداد المتفجرات. أثناء المداهمات بتركيا، فرت المنتجات من أيدي المحققيق وبقي منها حاوية واحدة وُجد داخلها أسطوانات معدنية كبيرة.
رسمياً، كانت الملفات الجمركية تنوه بأنها منتجات ألومنيوم معيارية في حين كشف المحققون النقاب عن أنها خضعت لمعالجة خاصة لاستعمالات معينة. كذلك تبين بأن شركة "ستيب ستاندرد" اشترتها من شركة إيطالية، تتخذ من مدينة "مودينا" شمال ايطاليا مقراً رئيسياً لأعمالها، كي تبيعها بعد ذلك الى شركة نفطية تدعى "شادي أويل" (Shadi Oil)، في طهران. لكن الخبراء النفطيين الأوروبيين أكدوا أن هذه الشركة النفطية "وهمية" وعنوانها في طهران يعود الى متجر لبيع الأغذية. من جانبهم، تفحص خبراء وكالة الطاقة الذرية التركية سبائك الألومنيوم المُصادرة واجدين أنها "تي 6" (T6) وهي مادة "ثنائية الاستعمال" (Dual Use) مُدرجة في قائمة "نوكليار سابلاي غروب" (Nuclear Supply Group) أي قائمة المنتجات المراقبة بصورة دقيقة كونها نافعة في المجال النووي. لتسويق هذه المنتجات ينبغي الحصول أولاً وأخيراً على سلسلة من الرُخص الوزارية التي لم يقدم أحداً طلباً بها، لا في تركيا ولا إيطاليا.
الدهاء الإيراني
وقصة "محملات الكريات" التي وصلت من فرنسا الى تركيا، عبر ايطاليا، مقلقة أكثر. إذ تنتجها شركة "آي دي ار" (Adr) التي يبعد مقرها عن باريس 60 كيلومتر وهي متخصصة في إنتاج أدوات الدقة الخاصة بالصناعات الطيرانية والفضائية والعسكرية والطبية. كالعادة، اشترت عائلة "جعفري" شحنة محملات الكريات وبدلاً من الاتصال مباشرة بالشركة الفرنسية توجه الإيرانيون الى شركة "فروسكا" (Frusca) الإيطالية للتجهيزات الصناعية، ومقرها بمدينة ميلانو. وتوافقاً مع القوانين السائدة في ايطاليا، طلبت الأخيرة من الوسطاء الأتراك الإيرانيين ضرورة توفير شهادة تبرز هوية المستعمل النهائي إن كانت هذه القطع الفرنسية ستستعمل في بعض أنواع الجيروسكوبات (الجيروسكوب هو عبارة عن أداة تستخدم لحفظ توازن الطائرة أو الباخرة ولتحديد الاتجاه). فهذه الأدوات يمكن تسخيرها لأهداف عسكرية ومن الضروري على المشتري التركي، أي شركة "ستيب ستاندرد"، التي تتخذ "اسطنبول" مقراً رئيسياً لعملياتها، أن يتعهد خطياً باستعمالها لأغراض مدنية وعدم إعادة بيعها. لم تجد "ستيب ستاندرد" أية مشكلة في إرسال الملفات والتعهدات المطلوبة.
إذن، وصلت الى تركيا 250 قطعة من "محملات الكريات" الفرنسية منطلقة من هناك الى إيران على الأثر. في موازاة ذلك، تغيرت الأوراق الجمركية للشحنة. هاهي تخرج من فرنسا كمَحْمِلات الكريات الخاصة بالاستعمال المدني ليتحول تعريفها فجأة الى مَحْمِلات الكريات الخاصة بالجيروسكوبات، ووجهتها إيران. علماً أن الجيروسكوبات مكونات حاسمة في توجيه الصواريخ البعيدة المدى. بدونها، قد تخطيء صواريخ "شهاب 3" و"شهاب 4"(النموذج الأكثر تقدماً الذي تختبره إيران في الوقت الراهن) هدفها بصورة فاضحة، أي أنها قد تهبط على بعد عشرات الكيلومترات من الأماكن المستهدفة. لذا، تنجح هذه الجيروسكوبات في قيادة الصواريخ البالستية بدقة (مع خطأ بسيط جداً يمكن أن يبلغ بضعة عشرات الأمتار فقط) الى الهدف بعد أن تقطع في الجو ألفي كيلومتر.
وتضاعفت الشبهات عندما دقق المحققون الأتراك في دفاتر "ستيب ستاندرد" التجارية. وفي إطار التحقيق، تم التدقيق في العقود المبرمة مع الفرع الهولندي لشركة "فلوكي" (Fluke) المتعددة الجنسيات والمتخصصة في أنظمة الفحص الإلكترونية، وتلك المبرمة مع شركة فلو سيرف" (Flowserve) البريطانية، التي تجهز الصناعة النفطية والمنشآت النووية بالمضخات وجميع أنواع الصمامات. و من بريطانيا، وصلت منتجات "فلو سيرف" الى هولندا ثم الى أسطمبول كي تدخل الى إيران كمنتجات مصدرة لصالح شركة "كارفانا" (Carvana) التي تمتلكها كذلك عائلة "جعفري" الإيرانية.
وفي أكتوبر(تشرين الأول) من عام 2006، غداة مصادرة سبائك الألومنيوم في تركيا تلقت الشركة الإيطالية الموجودة بمدينة "مودينا" اتصالاً من شركة "كارفانا" إيرانية التي تبحث عن نفس نوع سبائك الألومنيوم العالية الجودة لانتاج كاميونات بترخيص من شركة "دايملير كريسلير"، وان الغرض من شحنة سبائك الألومنيوم التي طُلب من شركة "ألكوا" إعدادها وإرسالها والتي أيقظت انتباه جهاز المخابرات الأميركي مولدة بالتالي تحقيقاً دولياً وصلت أصداؤه الى أوروبا وتركيا آنياً، هو بالضبط إنتاج هذه الكاميونات بترخيص من "دايملير كريسلير".
نفس الذريعة ونفس الشكوك التي تتعاظم إن ألقينا بنظرة عجلى على تاريخ "كارفانا" لنجد بأنها شركة تعرضت للخصخصة بعد أن تخلص من أصولها مصرف "بنك ساديرات أوف آيرن" (Bank Saderat of Iran) الحكومي الذي باع بدوره كامل رزمة أسهمه الخاصة الى مسؤوليه التنفيذيين قبيل أقل من عام. وفي 8 سبتمبر(أيلول) الماضي، منعت حكومة واشنطن إقامة أي علاقة مع هذا المصرف نظراً لدوره المحتمل في تمويل الإرهاب العالمي. بعدها بقليل، تلاشى العقد الذي كان من المقرر إبرامه بين الشركة الإيطالية بمدينة "مودينا" و"كارفانا" اثر التدخل المباشر لجهاز الاستخبارات الإيطالية المعروف باسم "سيسمي".
ولكن، هل انتهى الدهاء الإيراني هنا؟ كلا! فهناك مئات الشركات الأوروبية والوسطاء الأوروبيين الذين لا يطرحون أسئلة كثيرة "مزعجة" حول هوية المشترين أو كيفية استعمال المنتجات أو وجهتها النهائية. يكفي إغراقهم بالأموال "النووية" التي لا تستطيع النيران التهامها. هكذا، تنجح إيران دوماً في الالتفاف حول الإجراءات الغربية القاسية، بكل جدارة واحترام، للحصول على ما يغريها من مواد استراتيجية والى الإمام... سر.
هكذا، تستغل حكومة طهران ثغرة الاستعمال الثنائي لبعض المنتجات الغربية التي لم يتمكن أحد الى اليوم من ردمها، من جهة، وتعتمد على التشققات الواضحة من حيث التعاون بين الأجهزة الحكومية والاستخباراتية الدولية، من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، طلبت السلطات التركية الحصول على معلومات من دول الاتحاد الأوروبي التي ترى شركاتها متورطة في عدة مشاريع تجارية مربحة مع عائلة "جعفري" الإيرانية. وبغياب هذه المعلومات، لن تنجح تركيا أبداً في إكمال حلقات التحقيق. والعديد من هذه المعلومات لم يصل بعد لا الى الحكومة التركية ولا الى حكومة روما.