أطفال الشوارع في موريتانيا ضحايا فقر يقودهم إلى الانحراف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أحمد ولد سيدي من نواكشوط: عرفت موريتانيا في السنوات الأخيرة من القرن الماضي انتشارا واسعا لظاهرة أطفال الشوارع، وقد انتشرت الظاهرة في أولى فتراتها في الجنوب الموريتاني (كيهيدي سيلباي) بين أبناء الطبقة الزنجية التي مارس أبنائها الظاهرة تحت غطاء بات يعر محليا بـ"آلمودات"، وهي عبارة من اللغة البولارية وتعني "طلاب العلم". وقد اتسعت ممارسة الظاهرة في ظل التحضر الذي عرفته العاصمة نواكشوط حتى أصبحت تحمل عدة أوجه مختلفة، ودفع الفقر وانفصال الأزواج والتسرب المدرسي بالكثير من الأطفال الموريتانيين إلي ممارستها لغرض العيش، وحسب الكثير من الدراسات التي أحيطت بها الظاهرة فان الكثير من هؤلاء يتحولون في نهاية المطاف إلي عصابات إجرام أو لصوص يمارسون السطو والسرقة في العاصمة.
التسول مصدر حياتي...
سعيد طفل ابن ست سنوات يقف عند احدى إشارات المرور، يمارس "سعيد" مهنة التسول في شوارع العاصمة الموريتانية نواكشوط ويقول لـ"إيلاف" إنه يرى أن التسول مهنة لا بأس بها بالنسبة له وأنها ستؤمن له معيشته. ويضيف الطفل "سعيد" وهو ينظر يمنة ويسرة عله يجد من يمد له يدا بها صدقة، تقي أهله شر الفقر وتوفر لهم لقمة عيش باتت صعبة المنال في ظل ظروف ظاهرها فقر وباطنها يستر أمورا أخرى كثيرة ومتعددة، "أنا ابن أسرة فقيرة ليس لها من المال شيء وأبي يأمرني بأن أمارس التسول أنا وأخي الكبير، من أجل أن نساعده في تأمين الحياة لباقي أفراد الأسرة"، ويقول سعيد أن دخله اليومي من التسول يناهز في بعض الأيام 500 أوقية أي ما يقارب الدولارين وهو دخل يقول سعيد متواضع لكنه يمكنني من مساعدة أبي في توفير العيش واستمرارية الحياة.
ويضيف "سعيد" أنه لا يحب الدراسة ولا التعليم وأنه مهوس بأبطال الأفلام العالميين مثل "جيمس بوند" و "جاكي شان".
على شفا الانحراف..
وغير بعيد من سعيد وعلى الطرف الآخر من الشارع يوجد طفلين آخرين هما "محمد" و "آمادو"، محمد قال أنه لا يريد التحدث إلى الإعلام بين ما قال "آمادو" أنه لا يخشى بأسا من الإعلام غير أنه لا يرغب في أن تظهر صورته على "التلفاز" حسب قوله وأضاف أنا أمارس التسول بعدما أرغمتني الظروف المعيشية الصعبة التي أعانيها نتيجة الفقر المدقع الذي تعاني منه أسرة أهلي، الا ان "آمادو" يفضل الرقص في الشوارع والاستماع إلى الموسيقى التي عادة ما تحدثها بعض السيارات التي تمر به وهو يتسول على الطريق.
واقع "آمادو" ينبئ بأنه ربما يكون من بين عشرات من الأطفال مارسوا التسول وساقتهم الأقدار إلى الانحراف في منتصف الطريق، ويقول "آمادو" أنه يكره الأشخاص الذين يمرون به ولم يستجيبوا لطلبه في دفع ثمن لتسوله ويضيف أحب في بعض الأحيان الانقضاض عليهم وانتزاع صدقة التسول في العنف.
جهود وطنية لا تزال دون المستوى..
على الرغم من أن وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية في موريتانيا قامت مبكرا بعدة جهود وطنية من أجل تشخيص هذه الظاهرة، ومعرفة طريقة التعامل معها فإنها لم تحقق الكثير مما يمكن أن ينهي ظاهرة تسول الأطفال "آلمودات" بشكل نهائي، اذ أشرفت على إنجاز دراسة في عام 2001 شملت مدينة نواكشوط وبعض المدن الداخلية التي لوحظ حضور الظاهرة فيها بشكل كبير مثل "كيهيدي" و "بوكي"، و "روصو" في الجنوب الموريتاني، ومحيطهم الريفي الذي يشكل خزانا لتصدير الظاهرة على الطريقة الزنجية التي ترى أن أطفال الشوارع أو "آلمودات" هم طلاب علم يحق لهم أن يحصلوا على الصدقة من الجميع.
الدراسة التي قامت بها وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية غطت 120 طفلا من "المودات"، تقل أعمارهم عن سن السادسة عشرة، و70 من آبائهم و25 من شيوخهم الذين يدرسون عليهم القرآن الكريم. وقد توصلت الدراسة إلى أن أعمار "المودات" المتسولين تتراوح مابين 6 إلى 16 سنة وأن 90% منهم يتكلمون "البولارية"، بينما لا تعكس السمات العائلية لذويهم أي مميزات تختلف كثيرا عما هو شائع من سمات الأسرة الموريتانية المتوسطة، وكان الأبوان يعيشان معا في حال ثلثي المبحوثين، في حين لم يزد عدد الأيتام على 5%.
وأما عن ظروف آبائهم المهنية فان 37% منهم كانوا مزارعين و34% يتوزعون على بعض أعمال القطاع غير المصنف، وانحصر الآباء المنعمون منهم في نسبة 8% في حين كان خمسهم دون دخل محدد أو عاطلين عن العمل.
أسباب تقود إلي الانحراف..
ويقول الصحافي والباحث أحمد ولد الندي لـ"إيلاف" أن ظاهرة "آلمودات" تعود إلى العادات المتجذرة في الشق الزنجي من المجتمع الموريتاني، إذ يقوم التعليم الأصلي عندهم على تولي أحد المشائخ لتعليم الأطفال، لكنه يلجأ إلى ظاهرة دفعهم للتسول ليتمكن من القيام عليهم وتوفير ظروف تمكنهم من الحصول على قوتهم اليومي، لكن مع تغيير المجتمع والهجرات المتتابعة التي شهدتها موريتانيا من الريف إلى المدن، واستفحال ظاهرة "أحياء الصفيح" وأحزمة الفقر المحيطة بالمدن، انتقلت الظاهرة من طورها الإيجابي أو على -الأصح- إلى طور مغاير، فاختلاف الظروف في المدينة، وانتشار العصابات الإجرامية مما جعل هؤلاء الأطفال عرضة لها.
كما زاد منها أيضا اختلاطها بظاهرة أطفال الشوارع فالكل يتسول، ولا فرق بين من "يجمع" المال لصالح مدرسه، ومن يجمعه لأن أمه في "لحظة ما" قررت التخلي عنه وتركه يواجه مصيره وحيدا، إذن الظاهرة في أصلها كانت لأسباب موضوعية ترجع أساسا لرغبة المدرسين في الحصول على مال يعينهم في القيام على طلبتهم، خصوصا أن عددهم في بعض الأحيان يقارب المائة، وهو ما يجعل مهمة القيام عليه تستعصي إن لم تستحيل.
لكن التطور الذي شهده المجتمع أدى إلى انحراف المهمة، فانحصار "المحاظر" وانتشار أدعياء المشيخة فيها، وشيوع التسول وكثرة أطفال الشوارع كلها أسباب لخروج الظاهرة عن حد المعقول، ووجود هذا العدد الكبير من المتسولين عند كل ملتقى طرق، داخل العاصمة.
ولعل مما يثبت أن "للتمدن" الدور الأبرز في ازدياد هذه الظاهرة أنه كلما ابتعدت عن العاصمة كلما انحسرت الظاهرة أو اختفت.. وعن إمكانية معالجتها يضيف ولد الندي أرى أن معالجتها تحتاج إلى "إرادة" صادقة، خصوصا وأنها أضحت الآن تشكل "مدرسة" إجرامية تخرج الأجيال بعد الأجيال، ويورث السابق اللاحق، وهذا يشكل خطرا على المجتمع ويهدد أمنه واستقراره. هذه الإرادة تتجه لتوفير العلم لهؤلاء لدعم المحاظر التقليدية للقيام بدورها لمحاربة ظاهرة "الفساد الأخلاقي" للقضاء على أطفال الشوارع، وهي جهود متعددة وجبهات مختلفة تحتاج إرادة وصبرا لتؤتي ثمارها ولتجنب المجتمع ويلات قد يتعرض لها في حال لم تعالج هذه الظاهرة الخطيرة، -أو على الأصح- لم يعالج انحرافها وتعاد لسكتها الحقيقية.
وعن كيف ينظر المجتمع إلى هذه الظاهرة يضيف المجتمع نظرته إلى الظاهرة كانت في الأصل إيجابية ومتفهمة للدوافع، لكن التطور والانحراف الذي طال هذه الظاهرة جعل نظرة المجتمع إليه تختلف، حتى أن "المصطلح" "آلمودات" والذي يعني في الأصل "التلميذ" أصبح يرمز إلى الإجرام والتسول والنشل أكثر من معناه الأصلي.
نظرة المجتمع تغيرت نظرا لتغير الوظيفة التي يقوم بها هؤلاء، ونتيجة اختلاطهم بغيرهم في المهام، فمن يرى "آلمودات" اليوم في شوارع العاصمة لن يتمكن من التفريق بين "التلاميذ" الحقيقيين، وبين أطفال الشوارع واللقطاء، وقد أساء التباس الصورة للتلاميذ كثيرا وغير الصورة التي كانت لهم في الذاكرة الجمعوية الموريتانية.