عبد الله العروي الدفاع عن الحداثة والتاريخ
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما صدرت هذه النصوص، كانت تؤشر على ميلاد لحظة جديدة في مناخ الثقافة المغربية والعربية، بل لعلها كانت تؤشر على حصول عملية انقطاع ما، في بنية الفكر والثقافة والايديولوجيا، لم يتمكن الفكر المغربي والعربي، من ادراك واستيعاب محتواها إلا بعد سنوات من صدور هذه الكتب، وربما حصل ذلك، بعد توالي صدور أعمال المؤلف الاخرى باللغتين الفرنسية والعربية، وخاصة مصنفاته في المفاهيم، التي تلاحق صدورها مع مطلع الثمانينات، "مفهوم الايديولوجيا" (1980)، "مفهوم الحرية" (1981)، "مفهوم الدولة" (1981) ثم "مفهوم التاريخ"، ثم "مفهوم العقل" الذي صدر سنة 1996، مختتماً كما أعلن صاحبه، في مقدمته سلسلة كتب المفاهيم، التي اعتبرها بمثابة مفاتيح نظرية كبرى، لمقاربة اشكالية الحداثة في الفكر العربي المعاصر، ومؤلف "النزعة الاسلامية، الحداثة والليبرالية"، الصادر بالفرنسية سنة 1997، وكتاب "الاسلام والتاريخ" الصادر بالفرنسية سنة 1999، وهو الكتاب الذي يضم جملة من المحاضرات قدمها الباحث في معهد العالم العربي بباريس، وتناول فيها اشكاليات الكتابة التاريخية في الاسلام. لا تعتبر مؤلفات العروي التي أشرنا الى أغلبها في الفقرة السابقة محصلة لصيرروة معينة في تاريخ الفكر المغربي. فقبل فترة الستينات لا يستطيع مؤرخ الفكر المغربي، أن يتحدث عن ثقافة مغربية خارج الانتاج الثقافي للحركة الوطنية، وهو انتاج يتسم بسمات خاصة ويطغى عليه الهاجس السياسي الاصلاحي، كما أنه لن يعثر داخل هذا الانتاج على فكر من عيار الفكر الذي بلور فيه& العروي دفاعه العميق عن الفكر التاريخ، والماركسية الموضوعية ومبادئ التاريخانية، وكل ما يسعف في نظره بتمثل أصول الحداثة والتحديث. فقد انتاج علل الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني وعبدالله ابراهيم، يتخذ منحى آخر، ويَرْكَبُ دروبا مصوولة بقضايا الاصلاح السياسي في المغرب، من زاوية نظر لا علاقة لها بطبيعة الاسئلة التي اتجه عبد الله العروي لبنائها. فقد اتسمت اعمال هؤلاء لمصلحين السياسيين في عمومها بسمات ختلفة عن الطابع التنظيري الذي اتخذه الانتاج الفكري لعبد الله العروي. أما المهدي بن بركة، فان ما جمع من اعماله وأدرج ضمن مصنف "الاختيار الثوري"، يعد دليلا للعمل السياسي المباشر، أكثر منه عملا في الثقافة والفكر، بمعناهما العام، القريب من أفق الفلسفة والفكر السياسي.
نتجه هنا لتشخيص لحظة العروي في الفكر المغربي، كلحظة انطلاق وتدشين لا تجد لها في سياق الثقافة المغربية جذوراً قريبة، تغذي اطروحاتها ومفاهيمها، وتقترن بالآفاق السياسية والايديولوجية التي رسمت. صحيح أن العروي يتحدث في "الايديولوجيا العربية المعاصرة" عن المهدي بن بركة، وعن ابن خلدون، ويذكر في سيرته الذاتية الفكرية "أوراق" أشكال العلاقة التي ربطت بينه وبين علال الفاسي، إلا ان كل ذلك، لا يمكننا من القول بأن فكره نشأ في اطار تطوير ثقافة مغربية مماثلة لما أنتج. فقد بلورت آراؤه دفاعاً عن التاريخ والتاريخانية الايمان بواحدية التاريخ البشري، وبأدوار المثقفين في توجيه التاريخ)، ودفاعا عن لزوم التعلم من الثقافة الغربية، باعتباره ضرورة مطابقة لارادة في السياسة والفكر، تروم النهضة والتقدم.
وعندما نقوم بتوسيع دائرة الاطار المرجعي الثقافي، من المغرب في الخمسينات، الى المستوى العربي، نجد معطيات نظرية وتاريخية، تقربنا من بعض ينابيع وأصول تجربته الفكرية، فالمقدمة التي كتبت للترجمة الاولى "للايديولوجيا العربي المعاصرة" (دار الحقيقة 1970)، تشير الى علاقته بالناصرية، كما تحدد كيفية استيعابه لمتغيرات وثوابت المشروع النهضوي، كما تبلورت في الفكر العربي المعاصر، منذ قيام دولة محمد علي، وتبلور الكتابة السياسية الاصلاحية في منتصف القرن الماضي، مع كل من الطهطاوي والافغاني، الى المشروع الليبرالي الذي انتجته أدبيات الاصلاح والنهضة في مصر، في النصف الاول من القرن العشرين (لطفي السيد، علي عبد الرازق، سلامة موسى، طه حسين وغيرهم...) الى ثورة 23 يونيو 1952، والآفاق التي فتحتها في المجال السياسي المصري والعربي، ففي كل هذه العلامات الدالة، في تاريخ الفكر العربي المعاصر، نجد الخلفية الموجهة لتفكير نقدي، مسلح بالهواجس التاريخية، ومتجه نحو بلورة نقد ايديولوجي، يروم الدفاع عن منظور جديد في الاصلاح السياسي، ويتوخى تطوير الثقافة العربية، بالدفاع عن المثاقفة التي لا ترى في المشروع الحضاري الغربي، مجرد مشروع في الاستعمار والغزو، بل ترى فيه كذلك، أفقاً لانسانية مستقبلية مشتركة، انسانية قادرة على النظر الى ذاتها والى الاخرين، من زوايا مختلفة، بلا تنميط ولا تحنيط يكتفي فيه الطرفان بتبادل التهم، واشاعة لغة العداء، فهذه الطريقة في التعامل مع الظواهر لن تمكن العرب في نظر العروي، من تجاوز تأخرهم التاريخي، وبؤسهم الاقتصادي والاجتماعي، وازدواجيتهم الثقافية (لنراجع هنا على سبيل المثال، مقالته أوروبا وغير أوروبا وهي منشورة باللغة الفرنسية في كتاب "أزمة المثقفين العرب" ومنشورة باللغة العربية في كتاب "ثقافتنا في ضوء التاريخ").
نسجل اذن ان خطاب العروي يجد المرجعية العامة في تاريخ أوسع من التاريخ المغربي، فقد كان لاقامة الرجل في مصر في نهاية الخمسينات ومعاينته للمخاضات السياسية التي كانت تعتمل في رحمها، ودراسته لمتون الفكر العربي المعاصر المرتبطة بهذه المخاضات، ومعرفته بالافاق السياسية والايديولوجيا التي تولدت عن المشروع الناصري في مصر، وفي المشرق العربي، كان لكل ذلك تأثيره المباشر على مشروعه النظري. كما كان لمتابعته لمجريات صراح الحركة الوطنية المغربية مع الاستعمار ومع النظام السياسي السائد، ما وجّه مشروعه واختياراته الوجهة التي اتخذتها، اضافة الى متانة تكوينه في تاريخ الفكر السياسي والفلسفة السياسية، فكل هذه العناصر مجتمعة ساهمت في تأطير انتاجه النظري، كما عيّنت وحددت ملامح اختياراته الفلسفية والايديولوجية.
اتخذ مشروع العروي في المصنفات التي أنجز منذ أكثر من ثلاثين سنة، كما أشرنا آنفا، وجهة محددة. يمكن تعيينها فيما يمكن أن نطلق عليه، الدفاع عن الحداثة وتأصيلها، انطلاقاً من الدفاع عن الفكر التاريخي والنزعة التاريخانية، أي الدفاع عن مبدأ استيعاب "المتاح للبشرية جمعاء" باعتباره الخطوة الضرورية لتجاوز مختلف مظاهر التأخر التاريخي الشامل. ومعنى هذا ان الفكر المغربي بعد عشر سنوات من حصوله على الاستقلال، سيجد في مصنفات العروي دليلاً على وجهة في الفكر، لم تكن مماثلة لايقاع حركته في التاريخ، في المجتمع والسياسة والثقافة. فقد عكس صراع النخب السياسية في مطلع الستينات في المغرب، طموحاً عبرت اطروحات العروي عن بعض أوجهه، إلأ ان النخبة السياسية التي كان يُفترض أن تكون بمثابة رافعة لهذا المشروع، لم تكن شروطها التاريخية وظروفها المجتمعية الموضوعية، تؤهلها للقيام بذلك، وهذه المسألة كما نعرف أكبر من ارادة المثقف، وأكبر من رغبته، ولعل عزاء العروي ان لم نقل غربته، منذ ذلك الحين، قد برزت في مراوحته الخطى بين السياسي والثقافي، بين التاريخ والفلسفة، بين السياسة والفلسفة السياسية، ولعله كان يأمل أيضا بفعل ايمانه العميق بواحدية التاريخ البشري، أن يكون مشروعه الفكري مجرد أمل يغذي الآمال، ويفتح نافذة على الغد. لهذا تابع الرجل أعماله، وأصدر مصنفات المفاهيم، وتابع أعماله، وأعاد كتابة "الايديولوجيا العربية المعاصرة" بترجمته الشخصية لها (1996)، مما يؤكد استمرار انخراطه فيما دعا اليه منذ نهاية الستينات. كما ان اصداره الاخير، لكتاب "مفهوم العقل، مقالة في المفارقات" (196) يبرهن بما لا يدع أي مجال للشك، على استمرار دفاعه، عن روح مت نادى به منذ مدة طويلة، يتعلق الأمر بنقد التيارات السلفية ونزعات التوفيق التلفيقية بمختلف صورها، والدعوة الى الانخراط الفكري، في تاريخ لم نصنعه، لكننا مطالبون باستيعابه، لنتمكن من غرس وبناء قيم الحداثة الفعلية، بدلا من الاكتفاء بالنسخ المقلّد، الذي يجعلنا معاصرين في الظاهر، دون أن يتمكن وعينا وعقلنا، من ادراك المسافات الكبيرة التي تفصلنا عن الحداثة الفعلية. وفي هذا السياق، نحن نعتبر أن كتاب "مفهوم العقل"، خاتم كتب المفاهيم، بمثابة محاولة قوية في نقد العقل الاسلامي، بل انه يتضمن دعوة قوية الى احداث قطيعة فعلية مع نوع من التعامل التكراري مع التراث. وفي هذا الاطار يمكن أن نتبين في هذه الدعوة نوعاً من محاورة العروي النقدية وبصورة غير مباشرة لظاهرة تنامي التيارات التي تتجه لاستخدام الرأسمال التراثي في معارك الحاضر السياسية في الوطن العربي، ومعنى هذا ان اسئلة الحاضر في نظر العروي تقتضي مواصلة نفس الجهد النظري النقدي دفاعاً عن الحداثة والتحديث، دفاعاً عن العقلانية والتاريخ باعتبار ان النجاح في هذا المسعى، يشكل الوسيلة المساعدة على تخطي عتبة التأخر وولوج باب الحداثة المفتوح على ممكنات الفعل التاريخي الخلاق والمبدع.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف