جريدة الجرائد

العراقي جنان جاسم حلاوي في ليل البلاد الروائي يذل البطل - المسخ من غير أن ينكر حقه في العيش

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& مودي بيطار

يتناول جنان جاسم حلاوي في ليل البلاد ، الصادر عن دار الآداب، ليل بلاده الطويل الذي لا ينتهي، وانحطاط الوضع البشري من خلال الجندي الذي قاوم موته حتي النهاية وفق الناشر. ولكن هل مجرد الحق في الحياة انتصار ام هزيمة؟ يذل المؤلف بطله بسادية بالغة، ويضربه في روحه وجسده حتي يتحول الي مسخ يثير ذعر الرفاق والأعداء، لكنه يتمسك علي رغم كل شيء بحقه في العيش وفرصة اخرى. كأن حلاوي يرفض الهزيمة وسحق الروح التي سادت الأدب العربي بعد نكسة 1967 ويري البقاء انتصاراً مهما كلّف من ثمن.
تبدأ الرواية بلا غائية ترتبط بالحياة وتنتهي بلا غائية تقترب من العدم واللاجدوي. يتجه عبدالله وسط هدوء مشوب بالموت من اول الرواية الي منزل ذويه مع نوال، الفتاة الكردية الهاربة من اهلها، التي لا تعرف العربية وتتفاهم معه بلغة الجسد. كان سكراناً وتحرّش بها فرضخت، وانحصر ظهورها في ليل البلاد بالرضوخ من دون اهتمام بإلقاء ضوء آخر عليها. والدة عبدالله ايضاً من مرتبة أدني، فزوجها يفتخر بثقافته ومدينيّته ويعيّرها بأمّيتها وأصلها الفلاحي: جاءت المدينة كجاموسة تائهة (ص61). ولا يعوّل علي المؤسسة العسكرية من تطبيق الثقافة والمدينية تجاه المرأة، فعبدالله يسجن بحجة حلقه شاربيه: أأنت امرأة؟ (ص60)، ويقارن بفضلات الجسم والنساء عندما يرفض الانتماء الي الحزب ويتمسك باستقلاله. ومن أنت حتي تستقل؟ (...) أنت ... أنت مرا (ص18). الفارق كبير بين الرجل والمرأة، وصوَر الرجولة والأنوثة محددة وحاسمة، خصوصاً في زمن الحرب التي تسطع فيها الروح العسكرية ويصبح الحزب ليس سياسة، الحزب هو الوطن (ص18).
في آخر الرواية يتحول عبدالله الي طيف مسربل بأقمشة مهلهلة، بلحية ورأس أشعث مشوّه ويدين مسلوختين (ص357)، ويثير خوف الجنديين الأميركيين اللذين ينبغي الاستسلام لهما. ليست الحرب قضيته منذ البداية. لكن ما الذي يرجوه مثل هذا المسخ من الحياة؟ حلاوي يدين الجماعة المستسلمة القابلة بكل ما يُفرض عليها، لكنه يري أملاً في تمسكها بالخلاص. يفصّل اصابة عبدالله في الانفجار وتشاؤم الثوار الذين أسروه من خلقته المشوّهة التي تثير شؤمهم وقرفهم وتندرهم ورغبتهم في موته او رحيله، إلا انه يفتتن في الوقت نفسه بعيني عبدالله اللتين بقيتا تشعّان ببريق نادر، بريق الخلاص، وبأي ثمن (ص333). هذا الذي فرضت عليه الحرب والهرب والسجن والتعذيب والمهانة وأسر الثوار الأكراد يستحق البقاء والاسهام في صنع يوم جديد. استغل النظام روح القتال لديه، وما ان تنقل في الأسر من جماعة الي أخري حتي وظف غريزة البقاء لمصلحته. شوّهه الآخرون لكنه بقي صالحاً للحياة علي رغم بشاعته بوجهه الذائب حرقاً واحتراق انفه وأذنه وتآكل فمه وبروز اسنانه كالمومياء. يتحدي حلاوي قارئه ويغريه بالتساؤل: ولماذا يعيش عبدالله بعد ذلك كله؟ ، فيفضحه ويكشــف تأثره بالجميل والطبيعي او أقله العادي الذي نستطيع التعاطف معه من دون تنازلات ومساومات.
حمل الكاتب بطله فعلياً بشاعات الحرب ... ليكون شاهداً وديّاناً ومرآة علي تشوّه الداخل. احاطته القذارات والروائح الكريهة والقمل في الجيش والأسر والمستشفي، ويتكرر ذكر هذه بإصرار حتي يمرّغ رأس سجين في فضلات الجسم (ص89)، ويوسّخ عبدالله ثيابه فرحاً (ص259) عندما يبقي الثوار علي حياته. نستسلم بصبر للوجود الدائم لمفردات الوساخة المختلفة، اما ان تصبح تعبيراً عن الفرح ايضاً، أف! هذا مكان للنزهة يقول له سجين (ص88)، عندما يعاقب بالسجن علي محاولته الهرب، ويحشر وسط المساجين الآخرين والروائح اياها. في الخارج الموت في الحالين ينتظرك: الجبهة او الاستخبارات . لا يشعر عبدالله بذلّة فقط وإنما بحيوانيته ايضاً ، ويتمني لو لم يكن له جسد لكي يذهب خارج نطاق الأرض (...). لم يعد انساناً بل كتلة لحم مفرغة من زمنها: عبدالله يمتلي بفراغه (ص67 و68). عندما يعطيه الثوار نباتاً يشبه البقدونس يمضغ الأوراق مقلّداً البغل في علك لعابه ويستسيغ شعوره بحيوانيته: شعور بدائي جعله متحرر المشاعر تماماً (ص260).
ليل البلاد التي رسمت ريم الجندي غلافها عن أدب الحرب والسجن وفقدان الحق في النفس وتحولاتها وسط عنف لا حدود له. الكوابيس الحافلة بالكائنات الغريبة تعبير ملائم لدي الكتّاب العراقيين عن الذعر والبشاعة والوحشية في الحروب. في سجن الجيش يذبح الياباني عشيق سجين آخر فيضع عبدالله امام موت مكشوف وواضح يراه (ص77). بعد اصابته التي تسببت بعرجه يعاني من عدم الاكتراث والصمت الشبيه بالبلد ويحس بلا فائدة وجوده كفرد، بلا جدوي قراراته وخياراته، بهامشيته (ص239). وفي الأسر يقول لم يكن نوماً هذا الذي نامه بل موت موقت (ص278). حتي الجنس يتحوّل كابوساً (ص17)، إذ تصبح بائعة الهوي الغجرية عظاية حمراء العينين ثم نملة ضخمة. كل ما يفعله عبدالله بخياره يعبّر عن تعلق بالحياة: الجنس والشرب اللذين تلمع فيهما الأنا كاملة، حرة. اجمل ما في الرواية غطسة في النهر وإحساسه بـ روحه حرة تنطلق (ص129)، وإن قلل التطويل من كثافة الفعل النفسية. يعتمد حلاوي السرد التقريري الذي تداخله الكوابيس والبيانات العسكرية، وتجمع هذه الآيات الدينية وقرارات الإعدام. يفتقر الي السلاسة، خصوصاً في اول الكتاب حيث يطول بعض الجمل 51 سطراً، وتتلاحق الصوَر في ثقل نجده لدي بعض الكتّاب العراقيين. بين كنبتين ماحلتين (...) تتنسّم الكائنات الدابة، الزاحفة روائح البشر فتعرف ان لها اصدقاء في عالم غريب ألفوا الهدوء... (13 ). في الخان، هناك تحت، تتجمـع مقـبرة الأرواح التالفة، الناهدة، المتحسرة، تتقنّع بالظلام فتختل منتهزة فرصة اقتلاع انفاس اخري (ص41). كلمة ستري بوعيد غامض جعلته يقصر 70 سنتيمتراً بعد ان كان طوله&157 سنتيمتراً (ص 23). وتبرهن الشاعرية انها لا تخدم النص في القول ان وجه العاهرة الغجرية ستبكي الغابة من اجله، ويغني الغجر له (ص27 ). ولا يقاوم جنان جاسم حلاوي الرغبة في مداعبة القارئ ويذكرنا بألفرد هيتشكوك الذي كان يحـب الظهــور في مشاهد من افلامه. يعيد عبدالله النظر في استقلالــه عن الحزب ويتوهم انه سيجلب له البطولة: وقــد يأتي كاتب حلول مثل جنان جاسـم حلاوي ويكتـب عنــه رواية (ص84 ). (عن "الحياة" اللندنية)
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف