الفصل الخامس من رواية "الفتيت المبعثر" للكاتب العراقي محسن الرملي
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
-5-
&
مازال صدى أزيز الطلقات في أذنيه على الرغم من وصوله رقرقة الشاطئ وقال: "حتى تعبيرنا عن الفرح.. تعبير قتالي مسلح" قرفص وحضن الماء ورشق به وجهه ثم مسح رأسه وأذنيه ورقبته عسى أن تُذهب لسعة برودته ذاك التوتر، وانتقل إلى صخرة قريبة، جلس عليها ودلى ساقيه في الماء محدقاً إلى وجه النهر ومرسلاً نظراته حتى تلك الجزيرة الخضراء في منتصف النهر (الحويجة).. عليه أن يتأمل الحال من جذوره، فان أراد رملاً صافياً أنزل ذراعه في الشاطئ حتى المرفق وقبض على القاع ورفعها ليشاهد رملاً مغسولاً نقياً بين أصابعه، كذلك عليه أن يفعل في تأمله: أن يغرس تركيزه وصولاً إلى البدايات ولو منذ أن أعلن "القائد" الحرب ارتجالاً أمام مجلس برلمانه الذي يعلم ـ سلفاً ـ أنه موافق لأنه قد اختار أعضاءه بمواهبه نيابة عن الشعب، ولم يدر بخلد أحد ممن يعرفون الحال ـ والكل يعرفه ـ أن يعترض نائب قروي لا يحسن القراءة والكتابة.
&& كانت دهشة "القائد" تعادل دهشة العالم كله حين رأى كفاً ترتفع للاعتراض... قال النائب القروي ـ على مسامع الحرس والنواب وليس التلفزيـون ـ أن خلافاً حدودياً مع الجيران لا يعني بالضرورة حرباً، وإلا فإن كل دول الأرض لديها خلافات على الأرض. أنا وجيراني نرفع الحائط بيننا أحياناً ونخفضه أحياناً أخرى، ونزرع على رأسه شظايا الزجاج أحياناً ونزرع الورد أحياناً أخرى،& ولكننا لم نتذابح، لأن الجيران أهل والحرب كلها كريهة والمنتصر فيها خاسر... ربما لم يقل ذلك تحديداً ولكن هذا ما تناقله الناس صياغة وأمنية ولا بد من أنه شيء كهذا ولا دخان بلا نار كما تقول حكمة العجائز. قيل إن "القائد" رحّب بالرأي وكان ديمقراطياً فدعا النائب القروي للتشاور برأيه جانباً وأخذه إلى غرفة جانبية في قاعة المؤتمر ـ ربما كانت غرفة الحمام ـ حيث سمع السادة النواب خلف بابها اختناق طلقة مسدس خرج على أثرها "القائد" يسأل عن آراء مخالفة أخرى فلم يجد فأعلن الحرب باسم الشعب ونوابه وأخذت الحرب إلى خنادقها:& قاسم وعبد الواحد وسعدي وجعفر وسميط وفارس وفوزي وعلي وغازي و عبد وخضير ومحمد وكاظم وحسين وعمر وأمين والنخل والنفط والمدارس. سمعنا بالانتصارات وارتفاع الأعلام فوق الأراضي المحررة التي اتسعت مثلما اتسعت مقبرة قريتنا بفضل جثث أبنائها الملفوفة بأعلام الوطن وأعلام أخرى ترفرف فوق شواهد القبور بحيث استحالت مقبرتنا القديمة إلى غابة من الرايات تنوح تحتها الأمهات كل خميس، وراح التلفزيون يعيد عليهن تمثيلية الخنساء ست مرات في اليوم: قبل الأكل وبعد الأكل، وحين فرّ قاسم من الجبهة. تبعه سعدي قائلاً: "ليست حلوة" ثم تلاهما إسماعيل بأكثر من مبرر كاذب، شرع التلفزيون بإمطارهم بآلاف أفلام الكابوي إذ الرجولة والقتل أيسر من تقشير الموز... وعندما طالت الحرب أعواماً وتذمّر بعض الشيوخ حول دلال القهوة من عودة عبء العوائل على كواهلهم المغادرة كان الحاج عجيل يعيد على مسامعهم كل تصريحات "القائد" وفوائد الحرب ويصف لهم حلاوة النصر الذي سيأتي بعد طول الصبر... مهما يطول !!، وأضافت الحكومة قناة تلفزيونية أخرى مخصصة لبث أفلام الكابوي و تمثيلية الخنساء ومسلسل حرب البسوس تتخللها بين مشاهد وأخرى صور " القائد " الذي أهدى لكل مواطن فينا تلفزيوناً يعمل بالطاقة الشمسية إذا ما انقطعت الكهرباء، وتبرّعنا ـ نحن التلاميذ ـ بدمائنا للجرحى وتبرّعت النساء بذهبهن لشراء الأسلحة ولصنع أوسمة الشجعان من الذهب وتماثيل "للقائد"، وتطوع الشيوخ للقتال وفي مقدمة تظاهراتهم التي نظّمها الحزب يهتف الحاج عجيل فشكرتهم القيادة و وافقت& ـ بعد إلحاحهم ورفعهم سيوف الأجداد والفالات ـ على أخذ القادر منهم في قواطع الجيش الشعبي وأقسم الشعراء بحياة "القائد" ثم باللّه على: أن النصر لنا، مهما طالت الحرب. وترنّمت حناجر المغنيين بالألحان تغزلاً بعضلات "القائد" وعظمة شاربيه رمز ميزان العدالة وبدمه النبوي وعبقريته الفريدة: فهو الملهم.. العارف بكل شيء ابتداءً بضرورة فرشاة الأسنان للشعب ومجلده الضخم حول فوائد المراحيض وبلا انتهاء عند صواريخ الفضاء والوعد بتحرير كل أراضينا التي سلبتها الإمبريالية: في المريخ وفي القمر ذلك أننا أول من عرف القمر في العالم والدليل على ذلك أشعار قيس بن الملوح في ليلى العامرية تلك الأشعار التي لم تسمو على بلاغتها إلا كلمات "القائد" حين قال ـ وكتبوا فيما بعد عبارته بالذهب والدم ـ : "الأرض بحاجة إلى الدم كحاجة النساء إلى صبغ شفاههنّ بالأحمر". وعضّت سمكة إبهام قدمك يا قاسم فقفزت وصحت بالأحمر "وجدتها" حين وجدت الوطن مغطى بالأحمر وعالم الشقراوات من حوله أخضر وقلبك أخضر والوطن في قلبك.. ركضت.. ركضت.. ركضت.. إلى القرية.. إلى بيتك .. إلى حجرة الرسم ـ دون طعام حسيبة ـ ورسمت على أكبر لوحة عندك خارطة الوطن بالأحمر، أحطتها بدائرة قلب أخضر ثم رسمت النهرين بالأبيض.& كنت ترتعش حباً وأنت تنزل متمايلاً مع تعرّجات النهرين المتدفقين من الشمال إلى الجنوب وحين التقيا في الشط المُتذابَح حوله بكيت.. بكيت حتى كاد أن يغمى عليك فسقطت مقعياً أمامها وأنت تبصر من وراء دمعك أن اللون الأبـيض كان يجري فيهما ماءً.. بل دمعاً.. لماذا النهران تحديداً!!؟ وددت أن تسميهما.. أن تصف تعانقهما أو أن تصف هذا الشعور الذي هزّك وأنت تخطهما.. يهزّك وأنت تحدّق إليهما ويصرعك حبّاً وعذاباً حين يلتقيان. كأنهما قد مرّا في أنحاء جسدك ثم التقيا في سويداء القلب.( هواك انت يذكرني بفرات ودجلة يومياً.. مثل قلبي ومثل قلبك تلاقن صافية النيّة) جاءت حسيبة لتدعوه إلى تناول شيء ففغرت فاها حين رأته ساقطاً على الأرض ملطخاً بالأحمر والأخضر والأبيض، كأنّه ملفوفٌ بعلم مثل كل الذين عادوا من الحرب في توابيت النصر، فـشهقت وهرعت إليه ترفعه من إبطيه حتى وقف فاحتضنته بأصباغه وانتحبت على كتفه عند بداية الأبيض.& ضمها قاسم إلى صدره وهو يتأكد من أنه يحبها إلى الأبد، متخيلاً دمعها يسيل على الأبيض مع قامته أو مع الأبيض على قامته وينزل إلى الجنوب ويتلاقى عند أقدام الوطن أو قلبه.. كله وطن.. حمله بين ذراعيه وطار إلى أبيه بجذل فدفع البوابة العريقة دون أن يشعر بثقل فلقتها المطرزة بمسامير المدافع ولوح بالصورة لأبيه الجالس تحت النخلة ـ تماماً كما لوح له أحمد بالشهادة ـ فرفع مسلط نظاراته الطبية ومرّ اللعاب الذي ابتلعه تحت إبرة القنفذ و ابتسم لقاسم أو الوطن في القلب أو النهرين في الوطن في القلب وقاده إلى غرفة الضيوف ليعلقها هناك في الواجهة ـ كما أراد ـ أمامه أو أمامهم ووقفا أمامها واصطفت من خلفهما عمتي ثم تبعها أحمد وسعدي ومحمود.. وعبود.. والصمت الذي لم يشعر به قاسم كما لم يشعر بطول الوقوف فقد كان فيّاضاً بالرضى وهو ينقل بصره بين خارطة الوطن ووجه أبيه.. إلى أن أقلقته تقطيبة جبين وزمّة شفاه وصعود تفاحة آدم دون نزول في عنق الحاج حتى قال: " تماماً يا قاسم.. هذه صورة نشنن.. ولكن..". رفعت عمتي كفها إلى صدرها توجساً.
&& حدّقت عيون الأبناء باللحية البيضاء حتى قالت بعد برهة: " لكنك قلبت عَكستَ الألوان.."، ثم سكت قبل أن يستجيب لنداء ترقبهم ويكمل: "كان المفروض أن تجعل لون الوطن أخضرَ ولون القلب أحمرَ كما هما في الحقيقة والواقع. " فكاد قاسم أن يجيب بعد أن اضطربت أنفاسه، إلا أنه تمكن من كبح رغبة الإيضاح بصعوبة لأن ذلك سيعني القول: انه يرى "الحقيقة والواقع" عكس ما يراها أبوه.. فلاذ بجواب آخر: "معذرة يا أبي فبحكم معرفتي بالرسم وما يجب استخدامه من ألوان وجدت لو أنني بدلت فيها غير ما هو عليه لاختلّ توازن اللوحة" ثم أضاف "إن أصول الفن تتطلب.. ذلك" وكان يعني في قرارته كلمة "الصدق" و لكن ضرورات الموقف أجبرته على استبدالها بكلمة& " ذلك " فربت الأب على كتفه وقال: "المهم أنها صورة الوطن" فردد قاسم بعده بخفوت وحسرة "نعم إنها صورة الوطن." !!.
&
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف